د. سامي عبد العال - أنطولوجيا الحب



إحدى مفارقات الحب أنَّه يتيح بُعداً ( روحانياً وحلماً ) يضعانّ الإنسان ضمن رتم الحياة بشكل مغايرٍ. فلا يوجد ( حب ميت ) أو حب يحيل إلى الموت على سبيل المثال. لكن قد يكون معنى الموت بالنسبة إلي الحب تجريةً تشبه آثاره البعيدة. أي أنَّ خلوص الحب لذاته ( ولطرفيه ) أمر باتٌ ولا رجعة فيه وغير قابل للمقايضة. وإلاَّ لما سُمي باسمه المحدد، ولما أبدى دلالاته كأنَّها أسرار لا تحتمل انكشافاً!!

كلُّ تجربة حب حقيقي تنطوي على غموضها الخاص أو لا تكون. وهو غموض شامل كلما حاولنا معرفته ازداد بعداً وروغاناً في غياهب تلك العلاقة الشائكة. حيث يأخذ مُجمل الأبنية النفسية والرمزية المميزة للإيمان والثقة والاعتراف وكذلك المعبرة عن التوهم والتخيل والقلق واللا يقين. لأن حدودة المعرفة فيه متداخلة كما أنَّ الزمن المتقلب مع الأحوال والطبائع له نشاطه البارز.

ربما يتضح هذا من عبارات مثل: " الحب حتى الموت " ... أو "العشق موتاً " ... أو " مصارع العشاق " كما لدى المتصوفة وأصحاب الروحانيات القصوى في تجاربهم مع المتعال والماوراء. لأن بنية الحب بمثابة التأجيل المتواصل لكل الحدود والفواصل بين البشر أو بين طرفيه إجمالاً. إنَّه وحدُّه نسيج من اللا زمن الخاص، من اللا مكان إذ يتطلع طرفاه لأحواله الدانية معاً كشرط وجود وعدم منذ البداية. وذلك يثير قضايا تقصده مباشرة: هل وجود الحب قابل للاحتفاء الثقافي به؟ ماذا لوكان تجربة خاصة يتعذر تعميمها بسهولة بين البشر؟ أيستطيع من هو خارج تجربة الحب هذه أو تلك أن يدرك آثاره كآثار أي شيء آخر؟ كيف يتحدث عنه من لا يشعر به ولا يصعد إلى مستواه؟

في الحقيقة قد تضع تلك النقطة جوانب الحب ( تحت التهديد under threaten ) من الأغيار باستمرار. تجعله كموضوع أمام من يتربص به، سواء أكان إنساناً أم سلطة ما أم حالات تلاحقه. وحتى إذا اختلط الحب بدلالات مغايرة له، فإنَّه يبقى هادفاً إلى غايةٍ أخرى. كالحب بفعل الـ"نحن " لا " الأنا- أنت " ضمن طقوس اجتماعية قائمةٍ على علاقات قرابة أو مصاهرة أو نسب أو طقوس دينية جمعية. وأيضاً كالحب اللاهوتي أو المؤسس على قاعدته الميتافيزيقية. فيتم اللجوء إليه لنيل الرضا بمعناه النفعي من الله، ويصبح طريقاً لتجنب غضبه وجني ثوابه بالآخرة.

والحب هنا بذرة داخل تجربة انسانية إسمها التجربة الدينية. وبالتالي يأخذ طريقه في أن يُحال إلى قوام ومقصد خاص بأي شيء سواه. وتلك أخطر أوضاع الحب: أنْ يكون هدفه ممتداً في اشياء أخرى غير ذاته تحديداً. فما لم يجد الحب اشباعه في الآثار التي هي كل حضوره سيكون فارغاً من قواه الإنسانية. ولا سيما أنَّ الحب ينشط مع دوافعه وقدراته وقوامه الجواني، ولا سيما أنه تجربة نوعية غير قابلة للتنكرار كما هي. إنه يتبلور من معانٍ جوانية بلا خارج، بلا باعث واضح يشدَّها إلى غيره. كالنباتات الليلية التي تنمو في الظلام الخفي أكثر من الظهور نهاراً. وعلى هذا الغرار، يتخلق الحب في إضمار التجربة وتكوينها النوعي دون تدخل.

وبالتالي، فإن كل حب إنساني يحمل انفتاحه الخاص الذي لا يرتد إلى غيره. بمعنى أنه مطلق ولا نهائي في مستواه ولو كان محدوداً. ويكاد العاشقان لا يلامسان الأشياء، ليس من فرط بعدهما عنها، لكن بفضل أنهما موجودان معاً في (حال واحد). أي أن الكل في واحد من أقصى نقطة إلى أدناها. بكلمات تالية هما على وعدٍّ دائم بكونهما كذلك. ولن يكون الطرف منهما أحادياً تبعاً لقانون الهوية الأرسطي ( أ = أ )، بل الواحد اختلافاً وقرباً وبعداً وتبايناً لدرجة الاستحالة.

الحب لا يعطيك فرصة للإمساك به متلبساً قبل أن تكونه. إنه يراوغك حتى الإختفاء، لأنه ليس أنت، وليس هو، وليس نحن، وليس هما، وليس هؤلاء حصراً. إنه جميع ذلك في علاقة معقدة لا تنفصم ولا تنفرط بسهولة. والإشارة إليه بضمير الغائب لا تعدُّ صحيحة شعورياً. لأن كل حب في تلك الواقعة حالة حية سائلة أنت جزء منها. إذ لا يغيب الحب حتى يكون، ولا يحضر حتى يأتي، ولا ينتظرك حتى يغدو مستقبلاً.

والمُحب لا يريد سوى شعوره بهذا الامتلاء المختلف حدّ الحيرة. بالأحرى لا يود المحب أنْ يرى غير المحبوب. فالعاشق هو المعشوق كما يقال، لأنَّ العلاقة أكبر من أن توصف بأبجديات غريبة عن الحال. ومشكلة من هم خارج تلك التجربة أنَّهم لا يرونها من الداخل، وقد يقعون في محظورها المناقض باستمرار. فالخارج في تلك اللحظة لا قيمة له أنطولوجياً، حيث يقف بالمكان الزلق، ويراقب الأوضاع من بعيدٍ مهما أُوتي من قدرات الإبصار والمتابعة والاستبطان. هو خارج الخارج ... ولا أمل هنالك في عودته إلى الداخل إلاَّ إذا عاش التجربة ذاتها وهذا هو المستحيل.

والخطأ عين الخطأ الاعتقاد بأنَّ كل حب أمَّا أن يصل إلى درجة الكفاية من موضوعه أو يزبل. والكفاية هنا لا تكون حداً، بل شغفاً وطاقة على الانفتاح المستحيل. ولذلك لا يرتوي المحب مهما حاول، ولا يتوقف عند أسوار وجوده. بل يشعر كأنَّ العالم كله قد تقلص في تجربته كما أن العالم نفسه قد طاله بعضٌ مما يشعر به. ولذلك يشكل الحبُ موضوعاً لذاته في تلويناته وتقلباته وإيقاعه وانتظاره الزمني. والأخير لا يعني بالضرورة تحقيباً لفترات، فدفق التجربة ينهي الوعي بالتحديد. أي هو كل الزمان بأطرافه وتفاصيله لدرجة أنَّ إمكانية الانتساب إلى وضع معين تصبح إمكانية عصية على التحقق.

بدليل أنَّ المحب لا يكف عن محاولة التوحُد بموضوعه، بالطرف الآخر ( خيالاً، شعوراً، حساً ). لكن الوضع هنا ضد حركة الأشياء التي نقابلها. فالحلم يزيل كل الغلظة والخشونة والمزاحمة تجاه العالم. إن أي حب هو احساس بأطياف الواقع وقد تخلصت من أوزانها النوعية تماماً. فتأتي كما لو كانت ظلالاً لا تُلمس ولا تثرى، ولكنها تقتحمنا في صورة " كياننا " الآتي بعبق الآخر، بماهيته، بحاجتنا الضرورية إلى معيَّته. والإدراك سيكون بالكيان جميعاً، المحب ينظر بجميع حواسه، يدرك بأدق تفاصيله( أي تفاصيل كيانه) وأبعدها عن المعرفة.

ولعلَّ الأسئلة السابقة تبحث بصدق عن قدرة الإنسان تجاه موضوعه ( الحب). لأن الحب لا يخضع للاحتفال بمعناه الزمني ولا الطقوسي ولا المادي. فهو بالاحتفال ربما يأتي عرضاً وقد يتسرب من التمثيل به في شكل صنم أو موعد أو مناسبة أو يوم ضمن التاريخ. ولاسيما إذا كان عيده يوثق شعاراً وتمنياً واحتفاء بموضوع غير قابل للتحديد. في الحقيقية إننا لا نستطيع إلاَّ الاندفاع وراء أطيافه وأشباحه. هل نفتش في أجندة الزمن بحثاً عن مسرات بينما الواقع يسقط من قدرتنا على تغييره بنفس الوسيلة؟

دوماً مع كل عيد للحب، ليس المقصود الاحتفال بالحب ذاته، بل بماذا يمثل هذا الحب بالنسبة لنا؟ وكيف كان وسيكون تكراراً أو غير ذلك؟ لأنك لو احتفلت به حصراً، سيدخل الحب في وضع من أوضاع الافتعال والانشغال. وهو ايقاف الوقت عند عقارب الزمن المخصوص حتى ننتبه، كأنَّ الاحتفال يقول: ها هنا موضوع مهم للحب عليكم جميعاً تأكيده في أذهانكم، عليكم تكراره، عليكم الاهتمام بمن تحبون. بينما المفترض أن يكون الأمر هكذا تلقائياً وأكثر من ذلك بحكم الاتساق مع تجربة الحب!!

وإذا جاء الحب تكراراً فقط، لسقطَ في فخ التعادل بين طرفيه بموجب حالة ثالثة( المشهد العام ). فالحالة التي يُجسدها توجد بين طرفين كلاهما ينظر بعين الحب ( المشترك ) إلى الآخر. وحين يتسرب إلى صميم الحميمية نزوع التعميم، سرعان ما تتشوه العلاقة. ولذلك هناك دوما في الحس الشعبي فكرة العزُول ( الحاسد، الحاقد، الكاره، المتحين لفشل العلاقة، العامل على افساد الخصوصية وإفشاء الأسرار، الواشي بالمشاعر، القاطع لأواصر التجربة ).

وعلى افتراض عملية الظهور بالنسبة للحب، فليس الأمرُ وضوحاً ولا تعيناً بل تجلّياً. فقط الحب يتجلى إلى الآخرين بطريقته غير المبررة ولو كانت هناك مبررات واضحة في حوزتهم. والاحتفال يحتاج إلى سببٍ كاف لتجليه، وهو في هذا أشبه ببعض النباتات التي لكي تخرج عصارتها المتميزة يجب إدماؤها( سلخها) حتى تخرج ما تحت لحائها. فأشجار الصمغ العربي لا تنتج صمغها دون الجروح والتسلخات والحزوز والقطوع في ساق الشجرة وأغصانها. عندئذ يسيل الصمغ كسوائل تغطي مناطق التعرية والظهور. الحب كذلك حتى من جانب الوعي البراني لحقيقته وتراكمه، يفرز ما يلملم العلاقة في أسرارها مرة أخرى. لأن جذوره تضرب بعيداً في إحالة شبه مضمرة إلى عالمها السري. فالحب هو فضاء لإيمان زلق بلا ديانة ولا معنقدات ولا آلهة.

إنَّ ظهور آثار الحب كإعلان اجتماعي نوعٌ من الإدماء لجسد العلاقة الخاصة. بحيث يكون طرفاه قادرين على الانكشاف أمام الآخرين. وبهذا غالباً ما يكون عُرضة للقيل والقال والاعتراض والمنع والحظر. وطوال تاريخ الثقافة العربية، فإنَّ سير المحبين والعشاق تتلقفها الألسن والحكايات والأساطير السردية دون توقف. والحب في الوقت نفسه يبرر ظهوره بنوع من التحدي وإدامة العلاقة. لأنَّه تجربة فردية أيضاً في تحدي السقوط من أعلى. أعلى الفكرة، أعلى الشعور، أعلى العاطفة، أعلى الحياة المرغوبة للطرفين. والأعلى هنا ليس ميتافيزيقياً، لكنه بشري مُشبع بالأهواء والإحساسات والرغبات والعواطف والأخيلة وحتى الهواجس والمخاوف. ومن ثمَّ، فإنَّ أي احتفال بالحب( أو عيد الحب ) شيء آخر بعيون أخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى