امل الكردفاني- العازفان- مسرحية من مدرسة العبث من مشهد واحد

الشخصيات: عازفان


المنظر:

لا شيء في المسرح سوى كوة عالية يخرج منها ضوء أبيض بزرقة خفيفة كضوء القمر وفي وسط المسرح رجلان هما عازفان وراقصان إيقاعيان يرتديان بدل سوداء وقمصان بيضاء وربطة عنق في شكل فراشة.. مع ذلك فلا توجد أي آلات موسيقية معهما. نشير لكل عازف بحرف (ع١) و (ع٢)..

ع١- لا شيء حقيقي..
ع٢- إنك تنكر فقط لأنك لا تملك شيئاً..
ع١- حسنٌ.. ومع ذلك..ورغم ما قلته..لكنني مصر على أنه لا شيء حقيقي..
ع٢- ربما تكون المسألة كلها خطأ ما..أنا أعتقد أن كل حركتنا هي سعي للبحث عن الزمن الصحيح..
ع١- وها هو الإيقاع.. صحيح تماًماً.. خذ.. استمع (يدق بكعب حذائه وينطق الإيقاع الذي ليس بالضرورة أن يتناسب مع حقيقة صوت النقر) تِك تِك تِك..تَتَك تَك.. تِك تِك تِك..
ع٢- خاطئ خاطئ خاطئ.. خاطئ تماماً..
ع١- أهو خاطئ؟
ع٢- مؤكد..
ع١- طيب.. والآن.. دم ددو دم.. دوم ددو دوم..
ع٢- اقتربت قليلاً.. والآن قل لي.. أهي لعبة الزمن..
ع١- لا أعرف.. أو.. فلنقل بأنها لعبة كل شيء.. لأن.. لأن.. أوه.. لا أستطيع شرح ذلك..ولكن كل شيء يجب أن يخضع للزمن..للتغيُّر.. أليس كذلك؟ لا شيء حقيقي..قلت لك..
ع٢- ولكنك لا تملك آلة موسيقية؟
ع١- وهل تملك أنت؟
ع٢- هذا هو السر.. أن تكون موسيقاراً ولكن بدون.. وأكرر ..بدون أن تمتلك آلة موسيقية..فهنا أنت في الواقع تملك مخزوناً من الإيقاعات..مخزوناً من التدفق الزمني.. أنواعاً من التدفق الزمني.. شلالات من التدفق الزمني.. ولذلك..فكل شيء هو الزمن..
ع١- ولذلك..لا شيء حقيقي..
ع٢- بغض النظر.. إن المسألة كلها هو كيف تقنع الآخرين بأنك تتدفق..
ع١- كصنبور ماء؟
ع٢- شيء من هذا القبيل.. القضية ربما أكبر من هذا..أو ربما لا تعني شيئاً البتة..تدفق الزمن يثبت ذلك..يثبت أنه لا شيء حقيقي.. اسمع مثلاً (يمسك خصره بقبضتيه، يباعد بين ساقية ويبدأ في النقر بكعب حذائه) دم..دم.. دا..دا.. دم..دم .. دا دا..
ع١- (بحدة) هذا يكفي.. اسمع مني الآن.. تاك..تاك.. تك تك..تاك.. تاك..
ع٢- (بنفاد صبر) أصمت اصمت.. هذا ممل.. إنك لا تبحر في العمق.. إنك مسطح..مسطح..
ع١- (يمسح شاربه بأصبعين)
ع٢- المسألة ليست فوضوية كما تظن.. صحيح أنها تدفق زمني.. لكنها ليست كذلك.. إنها تعبير عن الموت.. الموت قبل كل شيء..
ع١- الموت؟!
ع٢- نعم الموت.. أنت لا تفهم.. أنت تفتقر للإحساس.. كيف أصبحت موسيقارا بلا آلة موسيقية بالله عليك..
ع١- كل شيء غير حقيقي..
ع٢- أنت تستفزني.. تستفزني.. لا تقل ذلك مرة أخرى..
ع١- ولكنها الحقيقة!
ع٢- إذا كانت الحقيقة..فهناك إذاً شيء حقيقي..
ع١- على الأقل هناك شيء حقيقي.. أما.. أما لو.. لو أنك تجاهلت اللغة.. لو أنك مثلاً..وأقول مثلاً.. فكرت.. أقول فكرت.. محض تفكير.. بلا لغة بل مجرد تفكير.. بأنه لا شيء حقيقي..فستكتشف أنه لا شيء حقيقي بالفعل.. لن تحتاج لاستخدام كلمات توقعك في هذا الشرك السفسطائي.. فكر فقط.. وابتعد عن الشراك..
ع٢- لا.. بالتأكيد لا.. بل من الحتمي.. وأقول الحتمي.. لا.. لماذا.. لأن أدوات التفكير هي نفسها أدوات اللغة.. لا شيء حقيقي (يكتشف زلة لسانه) أقصد..
ع١- هاااا.. وقعت..
ع٢- لا.. لا .. لا..
ع١- مع ذلك.. فلنسأل أنفسنا.. أي آلة موسيقية تلك التي تحقق إشباعاً لنا..إذا كان لا شيء حقيقي..فنحن نحتاج لآلة هي بدورها غير حقيقية..أليس كذلك؟.. أقصد.. وكما قلت لك.. آلة خارج اللغة.. خارج التفكير..
ع٢- وهذا مستحيل.. إنني اقترح أن نكتفي بالنقر بالحذاء..
ع١- النقر بالحذاء فقط؟!
ع٢- نعم..
ع١- إنك محبَط..أليس كذلك؟
ع٢- إذا كان لا شيء حقيقي..فما الذي يدعوني للتفاؤل؟
ع١- ما قد يدعوك ويدعوني للتفاؤل..هو أنه لا شيء حقيقي.. إننا نمتلك إذاً قدرة على النقر بالأقدام..
ع٢- ولكن.. النقر بالأحذية يتطلب أن نرقص.. ألا ترى نفسك بديناً قليلاً على ذلك..
ع١- المشكلة ليست هنا..
ع٢- وأين إذاً؟
ع١- المشكلة.. المشكلة.. دعني أفكر..
ع٢- تفكر في ماذا؟
ع١- في المشكلة بالطبع..
ع٢- ولكن.. لماذا قلت أن هناك مشكلة.. ما دمت لا تعرف منذ البداية أن هناك مشكلة؟
ع١- لأنني أشعر بالمشكلة.. ليس بالضرورة أن تعرف المشكلة بل تعرف أن هناك مشكلة.. أما ماهي على وجه التحديد فمسألة لاحقة..
ع٢- أن تشعر بالمشكلة اولاً؟
ع١- نعم..
ع٢- ثم.. ثم تحاول معرفتها ثانياً؟
ع١- نعم..
ع٢- ثم تبحث عن حل للمشكلة ثالثا؟ أليس كذلك؟
ع١- نعم بالتأكيد..
ع٢- ولكن.. لماذا تريد أن تعرف المشكلة ما دمت تشعر بها فقط.. إن كانت المشكلة مؤثرة فعلاً كنت ستعرفها مباشرة وبالتالي لن تحتاج للبحث عنها..
ع١- هذا سؤال تعسفي.. لكن .. دعنا نتجاوز هذه القضية..ودعنا أيضاً نسأل أنفسنا.. من نحن.. أقصد من أنا ومن ... أنت (يشير إليه داقاً بسبابته على صدر ع٢)..
ع٢- انا.. أنا موسيقار.. وأنت.. أنت موسيقار..
ع١- حسنٌ.. هذا جيد..ولكن؟
ع٢- ولكن.. ولكن (يفكر) ولكن ماذا؟
ع١- ولكن بلا آلة موسيقي؟
ع٢- ها.. نعم..
ع١- وإذاً؟
ع٢- وإذاً؟
ع١- لا تكرر كلامي.. وإذاً؟
ع٢- لا أعرف..
ع١- وإذاً.. فلن تكون هناك م..و..س..ي..ق..ى..
ع٢- ..ها.. آه.. نعم.. هذا.. قد يكون صحيحاً.. ولكن قد لا يكون صحيحاً..
ع١- ولكن كيف لا يكون صحيحا.. إصغ إليّ..(يقرب رأسه من رأس ع٢) إذا.. كنت... أنت.. لا .. تملك.. آلة.. موسيقية.. وأنا... لا... أملك... آلة.. موسيقية... فإذاً.. لن.. تكون.. هناك... مو... موسيقى..هااا
ع٢- هذا منطق؟ أليس هذا منطق؟
ع١- هو كذلك..
ع٢- ولكنه منطق خاطئ.. فالموسيقى تدفق زمني للصوت.. نحن نمتلك الصوت.. ونمتلك الزمن.. أليس كذلك؟
ع١- هة؟
ع٢- أليس كذلك؟
ع١- أي صوت؟
ع٢- لا تغالط..
ع١- لا أغالط..لا أغالط..ولكنني أتحدث من زاوية انطلاق مختلفة تماماً.. أنا أتحدث عن موسيقى.. أي موسيقى تصدر من آلة؟
ع٢- وهل تنكر أنه ليس بالضرورة أن تكون هناك آلة لتكون هناك موسيقى..
ع١- ستكون هناك موسيقى لكنها ليست موسيقى.. ربما همهمات موسيقية ولكنها ليست بأي حال موسيقى؟
ع٢- هل تعني أن همهماتنا ليست موسيقى؟
ع١- طبعاً.. ليست كذلك؟
ع٢- إذاً فهي ليست حقيقية؟
ع١- ليست حقيقية بالنسبة إلى الموسيقى..
ع٢- إذا فالموسيقى التي تصدر عن الآلات حقيقية؟
ع١- آه.. لا.. لا.. لا..
ع٢- وإذاً؟
ع١- وإذا.. هناك اختلاف بين الهواة والمحترفين..إن الحقيقة نسبية.. الألم.. الألم.. هو الموسيقى.. هذا لو أردنا أن نقترب من الحقيقة القابعة في عالم المُثل..
ع٢- ولكن ليس كل المتألمين يعزفون..
ع١- هم يعزفون بشكل او بآخر.. ذلك الأنين ذو الإيقاع الرتيب الكئيب.. تلك الأنفاس.. الحريق في العيون.. الإحمرار في الخدود.. أشياء كثيرة.. لا يمكنك أن تكون متبلد الإحساس مثل بائع الخراف؟
ع٢- لا.. لا بالتأكيد.. إنني أتذكر جيداً.. كم كنت أقضي وقتاً طويلاً أمام البحيرة.. أراقب البط البري..
ع١- بحيرة؟!!.. بط بري؟!!.. لا توجد بحيرات هنا.. ولا يوجد بط بري؟
ع٢- وهل هناك شيء حقيقي؟
ع١- لا شيء حقيقي..
ع٢- إذاً فالأشياء سواء كانت موجودة أم لا فهى تتساوى مع بعضها البعض..
ع١- لا.. لا..
ع٢- هل ترى إذا أنه بالضرورة أن تكون هناك بحيرة وبط بري لأحكي لك عن قضائي أغلب ساعات النهار جالساً أمامها..
ع١- لا .. ليس بالضرورة.. القصة قصتك في النهاية..
ع٢- قصتك أنت أيضاً.. هل تعتقد أنني كنت أرى البحيرة والبط البري؟
ع١- هذا ما قلته بلسانك؟
ع٢- ما قلته بلساني.. نعم هذا صحيح.. ولكن إذا لم تكن هناك بحيرات هنا ولا بط بري.. فإن ما أقوله يعني أنني أعني شيئاً آخر..
ع١- ربما..
ع٢- أنظر.. أنظر إلى هذا (يغمض عينيه ويفرد ذراعيه للأمام) الآن.. ماذا أبدو بالنسبة لك؟
ع١- تبدو.. (يفكر) تبدووو.. تبدو.. تبدو كرجل أعمى..
ع٢- ها.. حسن.. ولكن.. أليس هكذا في الغالب نتأمل..
ع١- ربما.. بدون مد الذراعين..
ع٢- وإذا كنت أتأمل فأنا أرى العالم وأنا مغمض العينين.. أليس كذلك.. احتاج لشيء كي أتأمله.. أليس كذلك؟
ع١- هذا صحيح..
ع٢- ولكن.. أليس من التناقض أننا نتأمل العالم عبر عدم إبصارنا له..
ع١- صحيح..
ع٢- إذاً نحن نتأمله عبر اختزانه في مخيلتنا..إعادة تنظيمه.. لذلك فهناك دائماً بحيرات.. وهناك دائماً بط بري..
ع١- ربما.. ربما..
ع٢- سأطرح هدنة مؤقتة بيننا..
ع١- وما مضمونها..
ع٢- أن نعزف في وقت واحد..
ع١- بإيقاع واحد
ع٢- ليس بالضرورة..
ع١- سيكون ذلك مزعجاً..
ع٢- لست هيجيلياً ولكنني متأكد بأننا سنتقدم نحو بعضنا البعض ويتخلق إيقاع مشترك..
ع١- إنك متفائل.. أنا اريد..دوم دوم دا.. دوم دوم دا..
ع٢- وأنا اريد دا دام دام دة..
ع١- وكيف سنحل هذه المشكلة..
ع٢- أتوقع أن المشكلة ستحل نفسها بمجرد أن نبدأ..
ع١- حسن..
(يبدآن في النقر بأحذيتهما)
ع٢- واصل لا تتوقف..
ع١- سرِّع إيقاعك قليلاً..
ع٢- حسنٌ..
(تتسارع نقراتهما.. ثم تبدأ في التناسق.. يندمج العازفان في الرقص الإيقاعي ويتجانسان)
ق١- رائع.. رائع..
ق٢- لا شيء حقيقي..
ق١- لأن كل شيء حقيقي..
(يغنيان سويا)
ع١ ع٢- لا شيء حقيقي.. كل شيء حقيقي..لا شيء حقيقي..كل شيء حقيقي..

(ستار)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى