إبراهيم محمود - جدل النصّين: المقروء والمرئي السينمائي

هل يمكن لعملية قراءة ما أن تتم، بعيداً عن استحضار، أو توليف صورة عاجلة آو آجلة تتجاور مع كل لحظة قراءة، حتى على مستوى تهجئة مفردة بذاتها؟ بالمقابل: هل يمكن لأي منّا أن يتفرج على مشهد عياني، منظر، أو صورة معروضة ضمن إطار معين، دون استدعاء لغة تتمثل في مفردة أو جملة معينة، تقرّبنا منها ؟
في التقريب بين الحالتين، كيف يمكن لخطوط التفاعل المفتوحة بينهما، أن تتشكل، وفيها وعبْرها، نكون إزاء مجموعة لا يحاط بها من المؤثرات غير المستقرة ؟
أليست اللغة هي التمثيل الأكبر والأقدم لما هو صُوَري في عراقتها، والصورة المتحركة تكون التمثيل الأحدث لما هو متردَّد لغوياً ؟
ماالذي أثيرَ في بنية العلاقات، وشائج القربى، والتجاذبات على صعيد التقابل بين المعتبَر نصاً مقروءاً، والمعبَر نصاً مرئياً سينمائياً ؟
تُرى، هل يجاز مثل هذا التأريخ، بمنْح النص المقروء امتيازاً تليداً، والآخر شهادة ولادة حديثة العهد مقارنة بالمقروء، منذ قرن وربع القرن؟ أولم تكن الصورة في نشأتها مرافقة للكلمة، أو تتحرك بالتوازي معها، بطريقة ما، أي استحالة الحديث عن أي مفردة لغوية دون إرفاقها، بصورة معينة، وهي في حرارتها، برودتها، صلابتها، حجمها، سماكتها، قوتها، ترددها، ونفاذ أثرها الحسي؟
وربما بذلك، يثبت المرئي السينمائي نفسه عراقته، وهي عراقة تتعزز حديثاً، استناداً إلى لائحة من المؤثرات الصوتية واللونية، وما أبدعته قريحة تكنولوجيا إنتاج الفلم!!
ربما كان الوصل والفصل بينهما، من المسائل الأكثر قابلية ليس للنقاش فحسب، وإنما لخلافات بينية، لأنها تستغرق تاريخاً طويلاً، تتضمن فنون القول كافة أيضاً.
وهنا، أرى أن الذين حاولوا الدخول في هذا المعمعان الجدالي، ويخوضونه راهناً، يعبّرون، وإن لم يصرّحوا أو يعترفوا بما هم فيه وعليه، بالبنية المعقّدة للعلاقة هذه، سوى أنهم في قرارة نفسهم، يتلمسون إسناد قوة دفْع من إرادة معرفة مكاشفة لها.
ولعل الباحثة الأكاديمية د. كوثر محمد علي جبارة، وفي كتابها الأحدث ظهوراً: الرواية العربية بين النص المقروء والنص المرئي( منشورات دار العالي، بغداد، 2021 ) وفي تجليد أنيق، وهو يقع في ( 262 ص ) من القطع الكبير، تعزّز جِدَّة هذه الإرادة!


إضاءة أولية
النص المقروء هو البدء، والنص المرئي الذي ينكشف أمره في المتن، بوصفه محدَّداً سينمائياً، هو محك الاختبار للذاكرة البصرية وإزاءها تمْثُل الذاكرة القرائية.
تُرى، كم خطاً للتحرك تعتمده الباحثة في الجهتين، حيث يكون العنوان الرئيس " الرواية العربية " هو الرهان في القراءة وما يصله لاحقاً، بما هو مقروء ومرئي سينمائي، لنكون في الفضاء المفتوح للعبة الرهانات والتكهنات، وهي التي تفصح عنها الباحثة بداية :
( إن تطور الفكر النقدي جعله أكثر شمولاً ليتخطى منطقة الكتابة الأدبية لينتقل إلى المشاهدات السينمائية، ولأننا نعيش شغفنا وحبّنا لكل ما يجذبنا ويبهرنا. ولأن الفن السابع وشاشاته التي لا تنفك تتطور يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام آخر جذبتني إليها وأصبحت شغفي ...ص 9 )
نلاحظ هنا ذلك التحرك والذي يخرج اللغة " لغة الكتابة " من صمتها، ليتم الانتقال بين البصري نصاً قرائياً والسمعي البصري نصاً مرئياً سينمائياً، وفي المتوجَّه إليه، ثمة اعتراف لا يخفي ذاتيته بما هو نفسي، ومن خلال عدة كلمات تضيء صفة الاهتمام بالموضوع، رغم أنها تعتمد لغة الجمع ( شغفنا، حبنا ) وهما فعلان لا يكفان عن التناوب في سمات مشتركة، فنحن نحب، تبعاً لشغف معين، سوى أن الشغف هو إشهار لحب لا يخفي ذاتيته، وليكون الفعل مسرح التمثيل الرمزي للعلاقة ( يجذبنا، يبهرنا ) وتالياً كذلك، جهة العودة إلى التعبير الفردي والذاتي( جذبتني، وأصبحت شغفي )، وهي تأكيدات تحيل القارىء إلى الانهمام الذاتي بالموضوع، وسرعان ما تفتح الطريق للإسراع به صوب الخارج لتهويته وتفضيته، لأن ثمة موضوعاً بمكانه وزمانه يعلِم بأمره .
يقول باحث فرنسي بهذا الصدد ( نحن نحب عملنا بشغف، دون أن نجعله كهنوتاً )، ولاحقاً، بصدد ما ينشغل به " أي الترجمة " يوضّح (إنها مهنة ، وحتى فن. فلدينا تجارة في الجسد. ولكن ، قبل أن نصبح مترجمين بوقت طويل ، كان لدينا بالفعل شغف في أرواحنا.) " 1 "
أي ما يحيل الموضوع إلى الخارج، وما يبقي الخارج مرصوداً في الحالتين: في القراءة وفي الصورة ذات النسب السينمائي .
في المقدمة تحدد خطة عملها، ما تستولده الرواية" الرواية العربية بالذات " من حضورات مرئية سينمائية، ونوعية عملية الاستيلاد هذه، وما في ذلك من تأكيد صعوبة الكتابة في هذا المضمار ، أي كيفية ( تجنب إشكالية اختلاط المفاهيم الروائية والسينمائية في الدراسات التي تناولت الوسيطين السرديين المرئي والمقروء، ولذلك اعتمدت منهج السرديات المقارنة، وتكمن هذه الإشكالية في اختلاط المفاهيم في كون كل من يتناول الموضوع يكون لديه توجهه الخاص...إلخ. ص11 ).
من المؤكد أن المسار البحثي يكون هكذا، ودون ذلك تنعدم عملية القراءة، وحتى عملية مشاهدة فيلم ما، وهو ما يسهَل تلمسه في بنية المكتوب لدى الباحثة، ففي عملية المقارنة عينها، حيث تتراءى ميول وأهواء وحتى تأويلات جانبية، لا تقف الباحثة نفسها على ما يُسمى بـ " الحياد "، حيث تعتمد وجهة نظر عائدة إليها، رغم وجود استشعار عن بعد لديها، لتكون في عالم المقروء والمرئي، وهو متوجَّب البحث، وعن قرب في الحالة هذه.
أي ما يجعلها لاعبة بالمعنى التقريبي لأصل العمل وهو يتخذ حضوراً ثلاثي الأبعاد، واللعب موصول بقوة بالشغف، بمتعة مركَّبة في بنية المقارنة، ليكون هناك استواء المفهوم لديها، كما لو أن الجاري يكون بمعزل عنها، تجاوباً مع متوخى النقد، انطلاقاً ممن يعرَفون به، وهم لاعبون معرفيون هنا، وبما ( أن اللاعبين ليسوا الذوات التي تلعب، بل إن اللعب يحضر من خلال اللاعبين. ) " 2 "
يكون الحضور استدفاعاً ذاتياً للذات القارئة والناظرة باتجاه العالم الرحب،
وفي ضوء ذلك، تسعى الباحثة من خلال عملية المتابعة المركَّبة: القرائية والمرئية، إلى أن تكون في العالم، العالم الذي يضفي على كتابتها خاصية توثيق وأرشفة نص، كما تقدَّم. إن كل فهم يجذّر هذه الذات خارجاً أكثر.
كما هو التأريخ لكل مثال جار الاشتغال عليه( لم يكن موضوع العلاقة بين الأدب والسينما بعيداً عن أقلام الباحثين وحواراتهم المكتوبة والمتلفزة...ص13 ).
لتجعل من السينما مسرح عمليات ومحَكَّ كل مقاربة نقدية،لجعل الطريق بينها وبين الرواية المعتمدة في الدراسة مفتوحاً، لا بل معبَّداً قدر المستطاع.
ولعل إشارة الباحثة وهي تستعين بقول مهتم بالتأريخ السينمائي، في النتيجة التي انتهى إليه بحثه( إن السينما تجمع كل الفنون التي عرفتها الإنسانية..ص14 )، تعزز تعددية أدوار السينما في آن واحد، وفي هذا التمثيل " الفني " يكون استقطاب نوعي.
وهو ما نتعرف عليه حين تنوّه الباحثة إلى هذه العلاقة الشائكة، أي ما يجعل السينما جهة النشأة الاسم المجهول للاسم المعلوم " الأدب " ومن خلال قول مقتبس لرمز فني " برنارد ف. ديك "، وهو ( أن الفيلم الروائي على علاقة كبيرة بالأدب والأشكال الروائية المختلفة " الملحمة، الدراما، القصة القصيرة، الرواية، الأوبرا...ص 21 ).
ذلك ما يحقق نصَاباً كبيراً في عملية الرصيد الائتماني للفيلم وأهليته لأن يشغل مساحة واسعة، ويتضمن مختلف ألوان الكتابة التي تمثّل أنشطة إنسانية، ومن هنا، كما يظهر كان الاهتمام بالرواية، نظراً لقدرتها على حيازة عوالم مختلفة .
وحين تكون نقطة ارتكاز الباحثة: الرواية العربية، فلأن ثمة ما يحفّزها على ذلك. ما يصلها بتلك الفراغات التي تراها جديرة بالمكاشفة وتسميتها في العلاقة البينية، بين الرواية العربية واعتبارها الطلقة الأولى لولادة فيلم منسوب إليها ( أما أول فلم روائي مصري فيرجع تاريخه إلى عام 1923، وكان بعنوان ( في بيلاد توت عنخ آمون) من إخراج ( فيكتور روسيتو)، أما أول الأعمال العربية المقتبسة من نص أدبي، وهو مصري كذلك، فهو فلم ( زينب ) المأخوذ عن رواية ( هيكل ) بالاسم نفسه، ويرجع تاريخ هذا العمل إلى عام 1930..وأخرجه ( محمد كريم)..ص23 ).
ولهذا السبب، تبرز السينما المصرية، حيث تتعقبها الباحثة تاريخياً ومن هم الأكثر حضوراً بانتاجهم الروائي سينمائياً ( محفوظ- عبدالقدوس.ص24 )...
وهذا من شأنه التوغل في " غابة سرديات التأريخ السيمائي " بغية تنوير مفهوم السينما، وما يجعلها جلية أكثر بكينونتها " المرئية "، حيث الفلم حدثها.
ما هو الفلم؟ الباحثة جبارة، تكتب الكلمة الأجنبية الأصل هكذا ( الفِلم " تبعاً لرأيها أنها الأكثر قرباً للصواب، وهذا رأي يقبل النقاش ولا يدحَض طبعاً.
في العودة إلى السؤال المنطقي عما يقوله الفيلم، تكتب الباحثة عن أن كلمة فِلم Film اُستخدِمت ( أولاً للإشارة إلى بلورة التصوير الضوئي، ثم صارت بعد ذلك تعني " الشريط المثقب المغطى بطبقة حساسة للضوء تسمح بتسجيل الصور وحفظها "، ثم توسَّع معناها فصارت تطلق على العمل السينمائي أو مجموعة الأعمال السينمائية. ص 26 ).
إنه حديث عما منح السينما حضوراً حياً، حيث الفيلم هو الذي يعرّف بها، كما تسمّيه هي، وما في الفيلم من مغذيات وإمكانات تميّزه كنشاط إنتاجي عن غيره فنياً .
كل ذلك لمكاشفة المنشود: العنوان والمحدَّد في نطاقه، حيث يكون تصنيف للفلم( الفيلم بأشكاله المختلفة( الفلم الروائي ) و( الفلم التسجيلي أو الوثائقي)...وما يهم هنا، ومن جهتي ما تنشده، وهو الفلم الروائي أو الخيالي ( فلا يختص بنقل الحقائق كما هي " كما هو الفلم الوثائقي " – وإن احتوى على جزء منها- لكنه يشابه الأعمال الأدبية في كونه يخضع للشعرية والخيال...ص 27 ).
وثمة ما هو مهم جهة التعامل مع مفهوم العلاقة بين الأدب والسينما، حيث نجد مجموعة مصطلحات قائمة ( الأفلمة، الإعداد، والترجمة، والاقتباس، والتحويل، وإعادة الصياغة..ص27 ). وتحاول الباحثة إضاءة كل مما ذكرت استعانة بالمصادر وإشكالية كل مصطلح، تأكيداً على اختلاف المواقف والتصورات أو المواقع طبعاً، وثمة جهد تتبعي ومكاشفة لخيوط التجاور والتداخل والتباعد بين تصورات بالنسبة إلى المصطلح الواحد نفسه، وما في كل مقولة من محاولة تأكيد من قبل المعني على جانب ريادي، أو اجتهادي، أو استشرافي لها قبل غيره، كما في تذكيرها برواية برهان شاوي المعروفة ( الجحيم المقدس ) وكونها ( رواية تسجيلية ) وذهاب كاتبها إثر كتابتها عام 1987، إلى أنه ( حاول استخدام التقنيات التي تستعمل في كتابة النص الدرامي للمخصص للسينما التي درسها في موسكو أثناء دراسته للفن السينمائي) ليكون السباق في مثل هذا الإجراء، كما تنوّه الباحثة في حديث معه " ص 29 " .
وحين أصل إلى هذه النقطة، أجدني مشدّد على حيطة الباحثة وحذرها وهي تدخل " عالم مصطلحات كل من النصين: المقروء والسينمائي " وإحالة مستمرة إلى تلك المصادر التوضيحية ذات الصلة، كما في حال " مفاهيم بين النصين المقروء والمرئي السينمائي "، وكما في الحديث عن مصطلح النص، في مضمار" ماهية النص، وما إذا كان الفلم السينمائي يُعَدُّ نصاً " ص 31 "
هناك مجموعة آراء حول ذلك، تفصح عن بعد تصوري،وتجْرُبي وتصوري فكري وجمالي بالتأكيد.
أشير إلى جهود علماء اللسانيات هنا، وما ينزع الاعتراف عن الكتاب المعنيين بالنص في المنحى الأدبي، ليكون للسينمائي حق في ذلك، كما يظهر، تبعاً لما ذهب إليه " برنارد ف. ديك " حين يشير إلى ( أن الافلام يجب معاملتها بوصفها نصوصاً . ص 31 ) وليجري التأكيد على أن ( الفلم نص قائم بذاته، يعتمد على مجموعة روافد تكوّن حقله الدلالي الخاص، وله لغته الخاصة..ص33 ).
ولعل الفصل الأول " المداخل النظرية " واستناداً إلى مفهوم " السرد " ذي الصيت، والمفردة اللغوية الحاضرة بزخمها الدلالي، يشكل الخطوة التي تلي ما وراء عتبة الموضوع. حيث السرد مفاتحة المنتظَر وإلباسه الزي الذي يتناسب وحيويته .
ففي كل من النص المقروء والمرئي السينمائي، يتموقع السرد، لا بل هو الذي يُسأل عما يكونه النص وما يجرّده من هذه الخاصية، وكذلك الحال في فضاء السينما( السرد هو طريقة لتنظيم المعلومات المكانية والزمانية في سلسلة من الأسباب والمسببات، لها بداية ووسط ونهاية.ص 37 ) تبعاً لتعريف الباحثين المتابعين له.
ونلاحظ هنا أن الباحثة تستعين بآراء كثيرة ولكل رأي بصمة اعتبارية وذوقية معينة، وفي سويات نقدية ومعرفية مختلفة. كما في الإشارة إلى رأي جيرار جينيت المهم هنا حين يذكر أن السرد، هو ( النص المنطوق السردي الذي يؤمن رواية حدث أو جملة من الأحداث،ولا بد من فصله عن القصة أو الخرافة أو التاريخ لتعاقب أحداث تجب روايتها أو سردها بشكل مستقل أيضاً عن الإعلام الذي سيتضمنه في حكاية أو نبأ. ص38 ).
هذا التمييز الحدودي له ما يبرّره أو يعمّق أثره في ضوء تطور المفاهيم المعرفية.
وبالتوازي مع السرد، واستتباعاً لتلك الخيوط التي تسمّي مغزله، هناك " فن السيناريو " وهو الذي يمارس نوعاً من " القران " الفني، كما أرى وصفاً، بين كل من النصين: المقروء والسينمائي، فالسيناريو يخرج من " سواد " النص المقروء، ليظهر في " بياض " الشاشة السينمائي، حاملاً مجموعة ألوان أو مؤثراته الفنية.
من ضمن تعريفات الباحثة المذكورة هذا التعريف للسالف ذكره ( ..ويعرف السيناريو أو التصوير باختصار بأنه مخطط المسرحية أو الفلم السينمائي والكلمة مأخوذة من اللغة الإيطالية " تعني المشهد " ..ص42 ) .
ولتنتقل بعد إضاءة مسلكها مكاشفة لموضوعها، إلى الفصل الثاني " عينة الدراسة رؤية نقدية عامة "، وهي تسمي تلك الأعمال الروائية المستبعدة من نطاقها البحثي، انطلاقاً من ثبوتيات تأريخية وواقعية، كما في حال: الخبز الحافي، لمحمد شكري، كونها الأقرب إلى الرواية السّيرية،وعمارة يعقوبيان، لعلاء الأسواني،لوجود دراسة أكاديمية شاملة عنها، وروايات: العنف والسخرية، لألبير القصيري، ومخاض شعب، لإبراهيم أحمد، ومدينة الموسيقيين البيض، لبختيار علي، كونها مكتوبة بلغة غير عربية...إلخ لتشدد على أهمية رواية " المسرات والأوجاع " للعراقي فؤاد التكرلي " 2013 " لوجود إشكالات عائدة إلى عدم إنجاز النص المرئي لها " ص 53 ".
لتنتقل فيما بعد إلى قائمة النصوص المقتبسة للبحث، وكيفية التعامل مع كل منها.
لنأخذ مثالاً حول ذلك، وكيف استوقف الباحث:
في مثال رواية الفلسطيني المعروف إلياس خوري " باب الشمس-2004 " نجد مسافة الرؤية الفاصلة بين كونها نصاً مقروءاً ونصاً مرئياً سينمائياً:
( كُتب النص الروائي بلغة أدبية عالية تفوقت كثيراً على اللغة السينمائية الصورية في النص المرئي بجزئيه... وقد اهتم النص المقروء باللغة والحدث والشخصية، بينما ركز اهتمام النص المرئي على الحدث وسرده، ويلتقيان في توظيف وجهات النظر وتعددها، فضلاً عن توظيف كلا النصين للرموز الفلسطينية الخالصة كالزيتون والبرتقال وغيرها.ص 56 ) .
وما يجعل التقارب بيّناً في مثال رواية إبراهيم أصلان " عصافير النيل- 2010 "، حيث ( كل ما ورد في الرواية بشخصياتها وأزمنتها وأمكنتها- تقريباً- قد وظف في النص المرئي بالطريقة نفسها التي ورد فيها في النص المقروء. ص 60 ) .
بينما في رواية فتحي غانم " تلك الأيام- 2010 "، فقد ( أخذ " النص المرئي " شخصياته " العمل المقروء " وطور أحداثها بمعزل عن الحدث الخاص بالرواية، مع وجود الترابط بينهما...ص68 ).
ذلك يسمح بثراء دلالي، وقيمي لكل نص، وتفعيل أثر كل منهما لدى المتلقي.
وليظهر " السارد بين المقروء والمرئي السينمائي " في الفصل الثالث، معمّقاً ما سبق تناوله، على صعيد التمايزات الاقتباسية. ومن الصعب هنا، إيراد الوارد عموماً بصدد السارد ومقامه في كل نص، وما في ذلك من محك رهان للباحثة في طريقة التتبع للمفهوم وتفرعاته، وحمولته الاعتبارية هنا.
يشار هنا، حقيقة ، إلى مفهوم السارد، وكيف هي " جينته " فتقول بداية ( دائماً ما عُد السارد مخلوقاً متخيلاً موجوداً على نحو ما داخل النص المقروء وجزءً من عالمه المتخيل، وهو مفهوم مأخوذ من عالم النظرية الأدبية ومطبق في النظرية الفلمية...ص 71 ) .
وما يفصح عن الثراء المعجمي للاسم، ما تذهب إليه الباحثة بقولها عن أن ( لكل سارد في أي نص سواء كان مقروء أو مرئياً موقع معين يروي منه حكايته.ص78).
وثمة أمثلة، ومن ذلك أن السارد في رواية إبراهيم عيسى " مولانا " نجد أن ( السارد واحد، يروي الأحداث بضمير الغائب ويرويها بوجهة نظر خارجية كأنه عين كاميرا لا يتدخل ولا يبدي أي علاقة بما يجري..ص82 ) ..أما في رواية " باب الشمس " ( فيتولى السارد الداخلي- كذلك- المتماهي بمسروده سرد الأحدث، موظفاً الضمائر الثلاثة: المتكلم- المخاطب- الغائب"...ص86 ).
ولنلتقي بالوصف الذي يتكفل بدعم السرد وإبراز أثره في الفصل الرابع " الوصف بين المقروء والمرئي السينمائي " حيث ( يُعدُّ الوصف رديفاً للسرد، وبهما يكتمل فعل السرد..ص89 ) .
وما يضيء عالم الوصف، من خلال تقنياته، في السينما، وعبر لقطات تنير عالم الشخصية من الداخل: اللقطة الكاملة- الكبيرة- القريبة جداً..ومن ذلك أن الكاملة( هي التر تعرض الشيء المصور كاملاً وعن قرب..ص93 ) .
وهناك عنصر فاعل في لعبة السينما، ويشغل حقل التنسيق للعناصر المرئية الداخلية فيها، وهو " الميزانسين " المفردة الفرنسية الدالة( ففي بناءالميزانسين يجب السعي للتعبير عن الطبيعة الداخلية الإنسانية الواعية المتفهمة للحدث. ص 101) .
ومن المستحيل بمكان أخذ ما تقدم دون إفساح المجال للحوار بين المقروء والمرئي السينمائي، كما هو وارد في الفصل الخامس، وهناك تشارك في الحوار بينهما( أما أنواع الحوار في السينما فهي ذاتها في النصوص الروائية: الحوار الخارجي" متعدد الأطراف " والحوار الداخلي " ذو الطرف الواحد "بأنواعه المتعهددة ( المناجاة، والارتجاع الفني، وتيار الوعي..ص108 ) .
وإذا كان للحوار مثل هذا البعد الكاريزمي في النصي، فثمة اعتبار للصمت كذلك، حيث ( يؤدي الصمت تأثيراً مهماً في النصين، ويعطي دلالات تُسر جزئيات النص المقروء والمرئي..ص 119 ).
ماذا يُرى في السرد، الوصف، الحوار، والصمت؟ تلك بداهة: الشخصية، وهي موضوع الفصل السادس، وهناك تعريفات مختلفة لها، شأنها في ذلك شأن غيرها ممتا تقدم من مفاهيم مصطلحات .
لدينا تاريخ طويل " منذ أيام أرسطو " مدوَّن عن الشخصية هذه " ص 123 ".
وما يوقفها على قدميها ويستنطقها، ويُصغى إليها، حيث ( يعنى النص المقروء ببناء الشخصية وتحديد ملامحها الخارجية والداخلية على حد سواء..) وهي ( في النص السينمائي المرئي ليست صورة أو علامة فحسب، وإنما هي كائن فعلي له حياته الخاصة...ص 124 ).وتعتمد الباحثة على مجموعة أمثلة لإضاءة الفكرة، كما في التعرض لرواية " مولانا " السالفة الذكر..
ومن الجدير بالذكر، أن المسافة تتسع بين النصين المذكورين لحظة التذكير بالحوار الداخلي، حيث ( إن التحول البنائي بين الكلمة المقروءة والصورة المرئية يطرح فروقات رئيسة بين الشخصية الروائية في النص المقروء والشخصيات السينمائية في النص المرئي، ويعتمد هذا على طبيعة الوسط" النص"، والمساحة التعبيرية التي يوفرها لصانعه لأجل كشف متعلقات الشخصية..ص131 ) .
ذلك ما يتعمق أثره، بالنسبة إلى جانب الشخصية، جهة أنواعها، فهي: رئيسة- ثانوية- غير رئيسة- وهامشية. ولكل منها دورها الرمزي والجمالي طبعاً .
مثال ذلك أن ( الشخصية الثانوية " تعمل " في ظل الشخصية الرئيسة، ويكون حضورها مرحلياً تقدَّم بسرد مختصر يصنع دورها البسيط..ص 139 ).
وفي سياق كل ما تقدم ذكره، يحق للقارىء أن يسأل عن دور الزمان في النصين، وهو ما يسهم بإضاءته الفصل السابع.
لماذا أهمية الزمان ؟( تأتي العناية بعنصر الزمن انطلاقاً من ثنائية المبنى/ المتن الحكائي عند الشكلانيين الروس..ص143 ).
كيف يكون تحوله في النص المرئي ؟( يتحول إلى بُعد رابع، فضلاً عن الأبعاد الثلاثة الأصلية للنص المرئي..ص 144 ) .
وثمة مفارقات زمنية بين النصين، حيث يعرفها جينيت بأنها ( دراسة الترتيب الزمني لحكاية ما، مقارنة نظام ترتيب الأحداث أو المقاطع الزمنية في الخطاب السردي بنظام تتابع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية في القصة..ص147 )
ومن بين المفارقات، هناك " تقنية الاسترجاع " أي العودة إلى الوراء " ص148 "
مثال ذلك في نص " المستبد " لرشيد الضعيف ( نجد الاسترجاع الخارجي ورد في النص عند السارد/ الشخصية في تجربته الأولى مع النساء والجنس فقط، أما الاسترجاعات الداخلية فهي عنده أكثر وروداً وتكراراً في النص المقروء..ص151).
وهذا ما يتعمق مغزاه بمعرفة أنواع الزمن في النصين ( النفسي " ويمثل الخيوط التي تُبنى عليها لحمة النص. ص 157 "... والطبيعي " ويمثل الخطوط العريضة التي تبنى عليها الرواية، فهوخاصية موضوعية من خواص الطبيعة..ص159 ".).
وليس من تذكير للزمان إلا ويحضر توأمه " المكان " وهو موضوع شاغلُ النصين في الفصل الثامن، ومن خلال عظيم قدْره في إشهار السرد ( لأنه المسرح الذي تجري فيه الأحداث وتتحرك فيه الشخصيات..ص167 ) .
فكان لا بد من وصفه في النصين، وانطلاقاً من الأهمية الخاصة للمكان هنا، تبرز الصعوبة في الإحاطة بحقيقة محتواه ودوره، حيث ( تكمن أهمية وصف المكان وصعوبته في النص المقروء في كيفية تحويل الفضاءات المرئية، من كونها مرئية بعين الروائي، إلى فضاءات مكتوبة تصل إلى متلق هو – في الغالب- غريب عنها،ولا سيما إذا نظرنا إلى كل مكان في النص المقروء، على أنه ليس المكان نفسه في العالم الواقعي، وإنما هو شكل من أشكاله ووجه من وجوهه..ص172).
وبحضور الزمان والمكان، يكون للتبئير اعتباره ووجاهته في النصين، كما هو معنىً به في الفصل التاسع. ما هو التبئير. يعرَفه أحدهم بأنه ( المنظور الذي تقدَّم عن طريقه المواقف والأحداث، الوضع الإدراكي أو المفهومي الذي تُقدم عن طريقه المواقف والأحداث..ص183 ).
ويتنوع التبئير في الحالة هذه تجاوباً مع بنية المواقف والأحداث بالتأكيد.
في إطار التبئير الخارجي، ثمة مثال. ففي نص ( الصياد والحمام ) المرئي يحضر صوت السارد منذ الثواني الأولى من الفلم، ويبقى حتى النهاية ملخصاً وسارداً ما تعجز الكاميرا عن إيصاله بواسطة الصورة..ص189 ).
وليكون المسرود الموصول بالسرد ومغذياته من وصف، وزمان ومكان..إلخ، ليشغل مضمار الفصل العاشر والأخير ، وفي كيفية أدائه لدوره في النصين.
لا شك أن المسرود، أو ما به يكون حضور النصين، مؤثر هنا. المسرود نشط داخل النصين المعلومين أكثر من خارجهما ( لأن رصد تفاعلاته وتأويلها يقع ضمن الأدوات النقدية المنهجية التي تتساوى مع باقي مكونات النصوص قيد الدراسة بنوعيها: المقروءة والمرئية...ص 202 )، وثمة العديدمن الأمثلة ذات العلاقة، كما في حال " باب الشمس " حيث ( يحضر المسرود له الرئيس في النص المقروء من بدايته حتى نهايته..ص204 ).
ويُلاحظ أن التغير في المسرود له، يخضع لقانون المكوَّن الروائي، وكيفية امتصاصه تالياً على الصعيد النص المرئي، والبدائل المعتمدة، حيث لغة المقروء فاعلة هنا، وما فيها من طريقة سرد، وخطاب، وتداخل أزمنة وأمكنة..كما هو مدرَك من مكاشفات الباحثة لأمثلتها المسماة " صص202-207 ".
طبعاً ينتهي الكتاب هنا، لتكون هناك قائمة المصادر والمراجع، والملاحق الموثقة لعناوين الكتاب، وما تحتها من عناوين متراوحة بين النصين: المقروء والمرئي.
ينتهي الكتاب ولا ينتهي، مثلما أنه يبدأ من نقطة مقررة" اجتهادية " تكون مدار نقاش طبعاً، وليكون مفهوم النهاية كتسطير، والتالي، يشكل تداعيات المقروء وتفاعلاته!

بالتوازي مع مكونات الكتاب
ما يمكن قوله هنا، والتنويه إلى أهميته، يمثّلان توسيعاً لفضاء الكتاب بالذات، ومحاولة الاستئناس بأمثلة وإحالات مرجعية أخرى، من باب التأكيد على تلك العلاقات العصية على التسمية في كتاب محدد، تبعاً لجهاتها، لغاتها، وباحثيها.
ثمة التاريخ الشائك والشيق هنا، وما يشكل مقاربة تحليلنفسية لبنية العلاقة هذه، وفي عصرنا هذا بالذات، إذ ( إن تكييف الأعمال الأدبية مع الشاشة قديم قدم السينما نفسها. شاهد فيلم " السفر إلى القمر ، 1902 (، استنادًا إلى الرواية الشهيرة لجول فيرن. منذ ذلك الحين ، تبع العديد من المديرين الآخرين. يسرد موقع Babelio وحده 3205 أفلامًا مأخوذة من كتب! وفي دراسة تتعلق بالسنوات 2005-2013 ، أدرجت ناتالي بياكوفسكي ، مديرة المجتمع المدني لناشري اللغة الفرنسية ، 957 تعديلاً ، مما يسمح لـ Le Figaro أن تستنتج: "ولد فيلم واحد من كل خمسة من الكتب". وبقدر ما يتعلق الأمر بالأدب الفرنسي في بلجيكا ، يمكن تقدير العدد الحالي للأفلام الطويلة والمتوسطة بما يتراوح بين 200 و 250 ، دون احتساب استطلاعات رأي المفوض ميغريه التلفزيونية. وبالتالي فإن هذه الظاهرة ليست هامشية ، بعيدة كل البعد عن ذلك. علاوة على ذلك ، فقد أدى ذلك إلى ظهور تعليقات وفيرة ، لا سيما فيما يتعلق بالمصير شديد التباين الذي يحتفظ به صانعو الأفلام للروائع الأدبية ... لذلك من المفيد إجراء تقييم مرة أخرى ، ليس من خلال وضع تاريخ تاريخي ، ولكن من خلال فحص الآليات الكامنة وراء هذه الممارسة المعقدة للغاية. لأنه إذا كانت الرواية أو المسرحية بطبيعتها عمل فرد ، فإن الفيلم عبارة عن مشروع جماعي يضم عشرات إن لم يكن المئات من المهنيين: هذا التفاوت وحده يشير إلى مدى الفجوة التي لا يمكن أن تتسع بين نقطة الانطلاق و نقطة الوصول.
السؤال الأول: لماذا تتكيف الأعمال الأدبية مع الشاشة؟ لقول الحقيقة ، إنه ليس اختيارًا ولكنه ضرورة ، اقتصاديًا وفنيًا. في الواقع ، صناعة السينما ، باهظة الثمن في الاستثمارات المالية ، لديها حاجة ماسة إلى "مواضيع جيدة" ، أصلية وجذابة. ) " 3 "
إن كل متغير يمارس تأثيراً على محيطه من خلال إفرازته، والتحديات الخاصة به، وفي ضوئها تتشكل ردود ومواقف، تسهم في كيفية احتضان هذا التغيير واستثماره ، ولدينا مجتمع كامل، وهو في ثراء شرائحه ومكوناته وكذلك المواقع الاجتماعية للذين يمتهنون فنوناً شتى .
فلدينا تنافس، إنما في الوقت نفسه أسئلة تطرَح في ضوء أخرى، الأمر الذي يمثّل علامة إمضاءة تاريخية ومعرفية وجمالية للمجتمع، بقدر انفتاحه على حقيقة ما هو فيه وعليه من تحديات، ومن غنى للشخصية الفردية ومقامها الوظيفي والحر، ودور الطموح الفني في جعل الصامت ناطقاً باضطراد :
(مهما كان الأمر ، فإن الأسباب البراغماتية لا تستبعد الطموح الفني. يحلم كل مخرج سينمائي كبير بإعطاء الكتاب الملهم بعدًا إضافيًا ، وإحيائه ، وتضخيمه ، وكشف معانيه أو ثرواته الخفية.
في أفضل الحالات ، فإن الأفلام التي تم تصورها على هذا النحو هي أعمال في حد ذاتها ، مما يمنح الكتاب الأول اتساعًا وإشراقًا جديدين - إلى حد تغييره أحيانًا. لا يزال من الضروري ، قبل الوصول إلى مثل هذه النتيجة ، احترام الضرورات شديدة التقييد ...) " 4 "
وهو ما يقرّبنا من السرد السينمائي وصفته وفضاء تحركاته بالمقابل وقيوده:
( يكمن أحد أكبر التحديات التي تواجه المخرج في تمثيل العقل الباطن. يقل وزنها عندما تكون قصة أكشن أو مغامرة خالصة ، تزداد عندما يلعب علم النفس دورًا قياديًا. ما تقوله الرواية عنها - أفكار الشخصيات ، والعواطف ، والأحاسيس ، والذكريات - لا يمكن عرضها بصريًا كما هي. الفلم ، ولا سيما الفيلم الصامت ، محكوم عليه بالفعل بالخارجية. وتم ابتكار صيغ مختلفة للتغلب على هذه العقبة ، بنجاح متفاوت: نص توضيحي مضمن بين مشهدين ، وترجمات ، واسترجاع الذكريات.
إلى جانب تمثيل الداخلية ، يخضع تكييف الفيلم لتحدي كبير آخر ، وهو الإيقاع. لجذب المتفرج والاحتفاظ به ، يجب على الفيلم بالفعل تجنب الرتابة والأطوال ، وتغيير إيقاع السرد.
ومع ذلك ، يجب الاعتراف بأن الإيقاع السينمائي نفسه قد تطور بشكل كبير ، ويتسارع باستمرار تحت التأثير القوي لأفلام الحركة في أمريكا الشمالية. يلعب التحرير النهائي دورًا حاسمًا هنا: من خلال تقليم وتجميع عمليات الاندفاع ، سيعطي السرد السينمائي أقصى درجات الحيوية ، دعنا نقول حتى التوتر. ) " 5 "
وفي المنحى هذا، كما ورد سابقاً، يأتي الصمت والتحول، أي ما يمنح السؤال الأهمية المستحقة، وعدم الاكتفاء بالجواب، لأن ذلك توقيف لما لا يتوقف تاريخياً :
(تمكنَّا من إقناع أنفسنا بهذا: إنشاء السيناريو ، وكتابة الحوارات ، واختيار الممثلين ، وتثبيت الزخارف تخضع لمنطق متسلط ، لبناء القصة ودعمها كما يتصورها المخرج ، من خلال إعطاء زخارف أيقونية مختلفة ذات قيمة تواصلية محددة جيدًا. منذ بداية السلسلة التكيفية ، انحرفت هذه القصة عن العمل الأدبي إلى حد كبير ، ليس بتأثير رغبة مقصودة ، ولكن بسبب القيود الخاصة بتقنية التصوير السينمائي. لذلك فإن مصطلح "التكيف" مضلل لأنه لا يمكن "تكييف" النص ، بالمعنى الدقيق للكلمة ، في فيلم: هذا الأخير بالضرورة عمل فريد حيث اختفت العديد من العناصر الكتابية بالضرورة ، بينما ظهرت العديد من العناصر الجديدة. ومع ذلك ، على عتبة التصوير ، فإن مثل هذا المزيج من الخسائر والمكاسب لم يتم إغلاقه بأي حال من الأحوال. ) " 6 "
وليتم طرح مفهوم التكيف، وكيفية إدارته بالمعنى المفهومي، والإبداعي والإنتاجي كذلك، وفي الوقت نفسه، للوقوف على حقيقة ما يجري النظر فيه وتحريه، بتأثير منه :
(إلى أي مدى يسعى المخرج - ويدير - إلى "احترام" العمل الأدبي؟ إنها تختلف من شخص إلى آخر ، بقدر ما يمكن للمرء أن يحكم عليه في غياب معايير صارمة.
في عام 1958 ، ذهب تروفو إلى أبعد من ذلك: "مشكلة التكيف مشكلة خاطئة. لا وصفة ، لا وصفة سحرية. والشيء الوحيد المهم هو نجاح الفيلم المرتبط بشكل حصري بشخصية المخرج (...). لذلك لا يوجد تكيف جيد ولا سيئ "(التكيف الأدبي مع السينما ، في مجلة الآداب الحديثة La Revue des Lettres modernes). ... يُعتقد أن الكتاب الأول والفيلم هما كيانان موضوعيان ومحددان ، وبالتالي يمكن أن يكونا موضوع مقارنة محايدة. ومع ذلك ، نحن بعيدون عن العلامة. ولقد أوضح رولان بارت ذلك جيدًا ، فالنص الأدبي ليس له معنى جوهري وثابت ، يمكن للجميع - المؤلف والقراء والنقاد - الاتفاق عليه دون صعوبة ؛ على العكس من ذلك ، فإن القراءة وحدها هي التي تجعلها ذات دلالة ، وفي اتجاهات غير متوقعة على الأرجح. في المقابل ، لا يملك الحرفيون في تعديل الفيلم طريقة أخرى سوى تفسير الكتاب وفقًا لمهاراتهم وعاداتهم الثقافية ، وصياغة نسخة معينة منه. ) " 7 "
ذلك يحفّز فينا القوى النفسية القادرة على تمثل النصين المناطق المعتمة في كل منهما، وأكثر من ذلك، ما يُستنطَ به المعتبَر معلوماً، ورفد المقدَّم بما يجعله أكثر شفافية، ومن موقع التكيف. حيث (إن دراسة الرواية ترقى إلى إلقاء الضوء على جزء منسي أو مكبوت من الأدب بالمعنى الأوسع للمصطلح ، مع إلقاء نظرة جديدة على ديناميكيات الإنتاج الثقافي بشكل عام. وبهذا المعنى ، فإن الرواية تتيح الفرصة للانفصال عن دراسة العلاقة بين السينما والأدب من حيث تكييف الفيلم. ومن المسلَّم به أن كل أعمال الرواية هي تكيف ، لكن العلاقات بين النص المصدر والنص الهدف مختلفة تمامًا عن تلك التي تميز تكييف العمل الأدبي مع الشاشة الكبيرة أو الصغيرة.) " 8 "
ذلك من شأنه أن يعزّز اليقين بجهل المرء تجاه ما يعرف، وما هو معتمَد لديه بوصفه الرصيد الثقافي الذي لا يأتيه الباطل لا من أمام ولا من خلف، وليكون هو نفسه في مساءلة ما اجتباه لنفسه، وما عليه اقتفاء أثره ليكون حاضراً في العالم . وفي ذلك يتم انبناء الصرح الشامل للعلاقة مع كل من النصين: المقروء والمرئي.
أي ما يجعل الفلم معتبراً كواقعة افترضية تتبعها نظيرتها، مقابل الرواية وإشكاليتها:
فنحن إذ نتحدث عن الفلم نتحدث عن بعض حالاتنا، أوحالة، أو كثير منها، وهي عملية سيرورة وصيرورة لا تتوقفان عن إحراجنا وإخراجنا من الطمأنينة المخادعة التي نتعزز بها، أو نستشعرها هكذا:
(إن الحديث عن فلم ما يعني بالضرورة تفسيره ، إنه شرح لنقطة لم تُقل على هذا النحو في الفيلم ، إنها وضع كلمات على الصور والأصوات التي ، إلى حد كبير ، لا تحمل في حد ذاتها معان. وهذا ينطبق على المعنى المفترض للفيلم - ما "أراد" المؤلف أن يقوله ولكن لم يتم ذكره صراحةً - ولكن أيضًا على "شكله" أو "جمالياته": عندما يُبرز المرء كذا وكذا سمة شكليّة مميزة
على عكس ما يزعمه العديد من المنظرين ، ربما لا توجد رموز سينمائية على وجه التحديد ، ولا حتى "لغة" سينمائية ، تمامًا كما يوجد من ناحية أخرى رمز الطريق (الذي يحدد بشكل خاص معنى إشارات الطريق) أو اللغات الذين يجب أن نتقن قواعدها ومفرداتها (من خلال التعلم الصريح أو الضمني) من أجل فهمها أو التحدث بها. تاريخيًا ، في الواقع ، تم تطوير تقنيات التمثيل السينمائي مع مراعاة الإجراءات أو القدرات التفسيرية التي يمتلكها المتفرجون بالفعل ، دون مطالبتهم باكتساب مهارات جديدة. هذا ما يفسر ، علاوة على ذلك ، النجاح العالمي للسينما ، التي غزت بسهولة الجماهير في جميع أنحاء العالم الذين لم يكن مطلوبًا منهم بذل أي جهد (أو على أي حال لم يكن هناك جهد كبير) للتعلم أو التكيف للدخول في دار سينما ومشاهدة فيلم. ) " 9 "
وينوَّه هنا إلى اللعبة الأفعوانية للغة، وكيف يجري تمثيلها: عندما تكون لغة رواية، وعندما تكون لغة سينما، وما يخص الصورة في كل وضعية بالمقابل، أو ما تكون عليه الصورة من أقنعة، وكذلك اللغة وطرق تهجئتها:
(تشكل الصورة النقطة العمياء للغة: هذا هو الخط العام لموضوع مرتبط بما يُنسى في نسيان الصورة. سوف نسأل أولاً كيف يسهم الإقصاء في الإصابة بالعمى. في الترتيب اللغوي كما في المجال الأدبي ، يسير رفض الصورة جنبًا إلى جنب مع إنشاء مصطلحات بديلة تزيد من التراجع عن طريق السعي للتعويض عنها.
إن الحديث عن الكتابة ، عندما يتعلق الأمر بالسينما ، يعني الانخراط في سلسلة من الفرضيات حول عملية دلالة تتميز بالتعددية وانعزال مكوناتها اللغوية.) " 10 " .
إن ما تتصدى له روبارس، وبعمق ميكروسكوبي، تذكرنا بنظرات ما بعد الحداثة، بما تفتحت عنه قريحة دولوز، وهو يطارد الصورة السينمائية في تركيبيتها، وما يخص موريس بلانشو، وهو يُحل الفضاء محل المساحة المؤطرة، اللاتناهي النصي فالسينمائي في إثره، محل التناهي الدلالي لمفهوم بالذات، لتكون اللغة حقلاً قائماً ومرئياً لمن يحسن النظر من " المتفجرات " ليس للقتل المباغت للداخل فيه، وإنما تنويراً لما هو مجهول، ولتنوير الوعي الباطني نفسه،وأنا أسوق هذه المقاطع:
(يتكلم الفيلم من خلال الاصوات المنعزلة. بتعبير أدق ، فإنه يرسم مسار الكلمة التي يتم تسليمها لجاذبية الصورة التي تحملها ، في نفس الوقت الذي يمنعها فيه من التواجد في ذاتها.
وإذا كان الفلم يتواصل مع اللغة ، فهو في النهاية ليس كلغة ؛ ولا لأنه يتحدث أو حتى لأنه يدعو إلى ربط الرؤية والقول: فهذه الصفات ، الضرورية لتعريف الفيلم ، تؤثر فقط على الانعكاس اللغوي بقدر ما يشكك الفيلم في وفرة كلمة الإيماءة ذاتها التي يتحدث عنها.
لأن اللغة تعمى نفسها عن الصورة ، التي تنتهجها بينما ترفض رؤيتها ، ولكن أيضًا لأن الصورة ، في مراوغتها التأسيسية ، تشير إلى أن الانحراف عن نفسها الذي تتحدث فيه اللغة ينبع من الكلام ولا يمكن أن تنحرف جانبًا عن غياب الشخصيات. . الصورة في اللغة ليست غائبة ولا قادمة ، وبالتالي فإن الصورة في اللغة ستحدد فقط المساحة التي تهرب من خلالها اللغة أثناء التحدث: مساحة خيالية ، إذا صح التعبير ، بشرط إعادة قوة التنازل التي اكتشفها بلانشو في الصورة إلى هذا المصطلح.
وهكذا فإن النص السينمائي يجعل من السهل قراءته ، في النص الأدبي ، كيف أن "ما هو مفقود من التمثيل ، ما هو المنسي هناك" وفقًا لـ ليوتار الذي يحدد موضوع الأدب ، يخبرك بعملية التمثيل ذاتها ، بشرط أن تتم قراءة هذا الأخير مرة أخرى في على ضوء الصورة نفسها.
إن الكلام ليس رؤية: تحويل بلانشو ، سنقول هنا أن الكلام لا يعني الرؤية ؛ والأكثر من ذلك ، هو الدخول في هذا الالتواء والانعطاف لرؤية الكهف الأفلاطوني ، وهو سلف بعيد عن الجهاز السينمائي ، ينير إيماءة الالتواء: أن يرى من خلال تذكر أن المرء لا يرى.
لا توجد صورة في اللغة ، لكن المقطع الفيلمي يدعونا للتفكير في هذه الخطوة من الصورة وصولاً إلى حركة إخفائها. ) " 11 "
ربما بالطريقة هذه، وهي لا تضمن سلاماً نفسياً لأي كان، ولا تتكفل بتعزيز موقعه حيثما كان، وأنى تكلم أو كتب، أو ناظر، كاتباً روائياً أو مخرجاً سينمائياً، بمقدار ما يزيد في كمية الطاقة اللازمة للنظر فيما هو متداول، وما هو مستأنَس به، وفيه من التمويه الكثير، وما يدفع بالذات لأن تقيم خارج أي موقع مؤطَّر، يكون صوابٌ معرفي. وإذا أردنا الاعتراف بمصداقية ما تؤديه الرواية كنص مقروء، والسينماء كنص مرئي عبر فلمها، ففي كيفية مكاشفة تراجيديا الوجود فينا وخارجنا، لنتمكن من التحرك خارجاً، ورؤية الآخرين، بصورة أكثر صفاءَ صوت وصورة !

ليس أكثر من شاردة
لكتاب الباحثة الأكاديمية كوثر محمد علي جبارة، غدُه الذي ينتظره، وصوته الذي سيُسمع في غده، حين يدقَّق في ممراته، والتدقيق في نوعية الجهد ومشاق التحاور مع مكونات كتابها.
وأحسب أن الذي حاولتُ معاينته، يندرج في نطاق ما يمكن التوقف عنده، وفتح بابه، ولو من خلال تسمية عناصر تتعزز به، وتقوّمه، بعيداً عن أي نبرة اكتشافية ذاتية أولاً وأخيراً !
دهوك

ملاحظة 1: الباحثة الدكتورة كوثر محمد علي جبارة، زميلة في مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، حيث نعمل سوية إلى جانب زملاء آخرين ، وهي نشطة في الحقل المركَّب والجامع بين ما هو نصّي مقروء ونصي مرئي ، وفي نطاق السرد ولعبة السيميائية فيه!
ملاحظة 2: هناك هنات بسيطة مطبعية، أو ربما وقعت سهواً،كما في الحديث عن نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدس، والحديث عنهما جمعاً لا ثنائياً " أعمالهما " مثلاً " لا أعمالهم –ص 24"، قدم مجموعة " قدمت مجموعة- ص 46 ". الزمان الذي تعنون به الفصل السابع، ترد في سياقه مفردة " الزمن " وهذا أصح، لأن الزمان فلسفي، ولم يُؤت على ذكره في الفصل عموماً، الناقد المصري " إبراهيم العريس "- ص28، والصحيح" الناقد البناني " ...إلخ


إشارات
1-Paul Leroux:Du métier dans le corps, de la passion dans l’âme
بول ليرو:المهنة في الجسد ، العاطفة في الروح
2-هانز جورج غادامير: الحقيقة والمنهج " الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية "، ترجمة: د. حسن ناظم- علي حاكم صالح- راجعه عن الألمانية:د. جورج كتورة، دار أويا، طرابلس- ليبيا، ط1، 2007، ص 173 .
3-Le Carnet et les Instants :Le blog des Lettres belges francophones" Du livre au film
المفكرة واللحظات:مدونة الرسائل البلجيكية الناطقة بالفرنسية " من الكتاب إلى الفيلم "
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه .
7- المصدر نفسه .
8-Jan Baetens:De l'image à l'écrit : la novellisation, un genre mineur ?Dans Le français aujourd'hui 2009/2 (n° 165)
جان بيتينز :من الصورة إلى الكتابة: الرواية ، نوع ثانوي؟
9- Marie-Claire Ropars :LE TEMPS D'UNE PENSÉE"Fonction du montage dans la constitution du récit au cinema"
ماري كلير روبارس :حان وقت التفكير " وظيفة التحرير في تكوين السرد في السينما "
يشار هنا إلى أن المقال مدرج ضمن ملف خاص باجتهادات ماري كلير روبارس، وتحت عنوان " حاتن وقت التفكير "
10- L’image dans le langage (écriture filmique et théorie de la littérature)
الصورة في اللغة (كتابة الفيلم ونظرية الأدب).

11- Marie-Claire Ropars :LE TEMPS D'UNE PENSÉE |
ماري كلير روبارس :حان وقت التفكير |



1646046721962.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى