سعيد فرحاوي - معنى الزمن في التأويل القصصي عند إدريس الخوري.

تقطيع النص يعني التحكم فيه؛ واستخراج البنيات الجزئية التي تشكل في علاقتها؛ بعضها البعض بنيات عامة تسهم في بناء المعنى وانتاج الدلالة تمفصليا؛ وفق صياغات متعددة؛ يحضر فيها التركيبي؛ التداولي؛ الدلالي؛ والتحويلي.؛ طبعا لإنتاج نصا مبنيا بناءا تمظهريا. لهذا يمكننا تقسيم نص إدريس الخوري (يَوْمٌ يُشْبِه بَعْضَه)؛ حسب التوزيع التالي:
يبتدأ المقطع الاول من الفقرة :
(كَعَادَتِها كُلَّ صباح، تستيْقظ الشّيْخوخة المَريضة بالوقت، وتدْخل في دهاليزه. هُنا يصبح قابَ قَوْسيْن أو أدنى من المَوْت. فليكنْ. سيختفي هذا الجسدُ المنهار عن الأنظار وترْتاح المدينة. ربّما في منتصف الليل، ربما في الصباح الباكر، في الزّوال أو في المساء، في المقهى أو في نادي الكرة الحديدية. أيْنَكَ يا عزيز أزْغاي لتشاركنا طاولتنا الغذائية؟ لقد كَبُر أطفالك وأداروا ظهورَهم للنادي. لقد وصلتْ هذه الشيْخوخة المتمرّدة إلى نهاية الطريق ولم يبْق لها إلاّ الحفرة!). .
يستهل القاص هذا المقطع حكايته بالحديث عن الزمن بشكل عام(الشيخوخة)؛ بصفتها زمنا تاما ومنتهيا. زاد من تركيبه البنائي عندما أنسنها( كعادتها كل صباح تستيقظ الشيخوخة)؛ فجعل منها كائنا متحركا؛،شأنها شأن الإنسان؛ تنام وتستيقظ؛ هنا أحياها(تستيقظ)؛ وحررها من ثبوتية الزمن المسجون في جسد فان ومنهار؛ فعاد في الأخير فأوقف من حريتها عندما وضعها في الإطار المنهار والقابل للزوال؛ ،فيصبح الزمن المحرك للشخصية وظيفيا؛ يتحرك هنا ويتوقف هناك؛ وفي كل حركية تحضر اسماء جديدة؛ منها ماهو سلبي ومنها ماهو إيجابي. فنصبح في مقطع متنافر في كل شيء؛ في البداية نعيش الزمن المتحرك تناقضيا؛ مرة هو حي ومرة أخرى هو قابل للفناء. في الحركية الاولى تظهر اسماء بصفات التمام (الابناء؛ الكرة الحديدية؛ النادي..) وفي التوقف يكثر الوصف القاتل( وصلت هذه الشيخوخة المتمردة إلى نهاية الطريق؛ ولم يبق لها إلا الحفرة)؛ وهي دلالة على السلب والتدهور.
مقطع بمواصفات متعددة؛، يتناوب فيه الزمن(الصباح؛ في الزوال؛ المساء) كما يتنوع المكان(في المقهى؛ المدينة؛ نادي الكرة الحديدية؛)؛ وتختلف الشخصيات(الشيخ؛ الابناء..) ؛ فتصبح الحكاية برمتها تتحرك في تجاذب متعدد التضاربات والتنافرات. فتصبح كلها عوامل تسهم في بناء تأويل عذب للزمن القصصي داخل قصة بمحددات مختلفة.
يبتدأ النقطع الثاني من:
(كانتْ ليلة البارحة جدّ مضطربة. ثمّة نوْم متقطّع، فاستيقاظ فنوم فاستيقاظ، فالإحساس بالجسد يُريد أنْ يُفرغ ما في بطْنه ثمّ العوْدة إلى الفراشِ الدافئ للاسْترخاءِ منْ جديد. هلْ ثمّة أفضل من أنْ يتمطّط الْجَسَد ويتثاءب مثل حِصَان في العَرَاء أُخْرِجَ من الإصْطبل ليستريحَ منْ جرّ العَرَبَة؟ إنّ هذا الجسد المُتعب الآنَ كان يَتَبَوْرَدُ بالأمس!).
في هذا المقطع تتحرك العناصر الفاعلة في محاور الحكي في زمن محدد(البارحة)؛ في هذا الزمن يظهر الاضطراب والتدهور؛ داخل لعبة بنائية تتحكم فيها حركية متناقضة؛ يحضر فيها الاستيقاظ والنوم؛ فيضعنا القاص في فضاء مغلق ومحدد؛ وهي حركية مزدوجة التركيب؛ اليوم نحن أمام جسد منهك؛ والبارحة كان نفس الجسد في وضع كما قال عنه( يتثاءب مثل حصان في العزاء)؛، فيصبح عامل الزمن وحده يشكل عنصرا وظيفيا ودالا ؛ قادرا على إتمام المعنى فيسمو ببطء ليحدد المراد من الحكي.
يبتدأ المقطع الثالث من:
(آحْ، آيْ، الله. كانت الشيخوخة تبحثُ عنْ نفسها في هذا الصباح، علّ وَعَسَى أنْ تجد لها معنى. هي الآن في سِبَاقٍ أخيرٍ مع الزّمن. هذا مَا تبقّى لها. وللبحْثِ رَاحَةٍ نَفْسيّة وجَسَدية أهدأ، مالتْ بجسدها إلى اليسار حيث الحائط واتّكأت عليه. لقد استمتعتْ ليلة البارحة بموسيقى الموشّحات الأندلسيّة.
ها هي الشيْخوخة مستيقظة وجدّ متنبّهة، فماذا ستفعل الآن؟ بعْدَ تناوُل وَجْبة الفطور سوْف ترْتدي ثيابَها العادية وتستعدّ للخُرُوج إلى المقهى. فليْس أبْقى للشّيوخ في آخر أيّامهم غيْر المقاهي والتّأمّل في المارّة وفي الفَرَاغ، الفَرَاغ… يجب شَمّ هواء هذا الصّباح النّاهض منْ نوْمه، يجب رؤْية البشر الذّاهب إلى حتْفِهِ الأَبَدِيّ دون أنْ يشعر. قَدَرُهُ التّاريخي فوْق أكتافه. أنَا نفسي قَدَرٌ آخر. فمنذ ولدتُ وأنا جدّ مليءٌ بالأحزان والآلام!
نفسُ النادل، ونفسُ الفنجان، ونفسُ الوُجُوه المتجهّمة الباحثة عن الدّرهم بالرّيق الناشف.
تْسيري؟ لا. باعَة مُتجوّلون مُتناسلون مثْل الفئْرَان. كيْف ستشرب هذه الشيْخوخة قهوتَها الصّباحية دون إزْعاج؟ شيئا فشيئا تضَعُ الشيخوخة نفسها في دائرة عَدَمِ الاهتمام بما حوْلها وتسبح في مَلَكُوتٍ آخر. ستُتَلْفِنُ إلى أحدِ الأصدقاء أنْ يأتيَ وينتشلَها منْ وحدتها النفسيّة. ليكُنْ شاعر الجلبانة أو قَصّاص الفُول، ليكنْ مصطفى النحال هو الذي يعرف ما بي.)
هذا المقطع برمته يشكل جزءا متماسكا بمعنى واحد أساسه تجسيد الشيخوخة؛ فجعل منها شخصية حية تتحرك؛ تتكلم؛ اي تقوم بدور الشخص الذي يلبسها ويتماهى فيها . في هذا المقطع لم يعد القاص قادرا على التمييز بين الشخصية والزمن الذي تعيشه وتحياه . اصبحا هما معا كائنا واحدا متجسدا في بعضهما البعض ؛ إلى درجة لا يمكن الفصل بينهما ؛ بل ذهب أبعد من ذلك عندما جعل من الزمن الناطق باسم الشخص الدي هو نفسه ذاك الخط الحركي المتحرك في صيرورة متجاذبة ومتنافرة بخيوط جد خفية.
هنا يمكننا القول ان هذا التلاحم بين الشخصية والزمن /الشيخوخة؛ هو تلاحم أعطى القيمة اكثر للزمن على حساب الشخص؛ وهذه القيمة تبين مدى قيمة هذه المرحلة من حياة الشخص ؛ كما ان الزمن كان قادرا على إيصال الفكرة في عمقها الدلالي الدال على بناء نص حكائي خاص؛ وهي قيمة ذات بعد وجودي تحدد مدى تأثر القاص بهذه المرحلة العمرية في حياة الإنسان؛ وهو اهتمام يحدد حجم الحسرة؛ كما يوضح اشكال الرغبة و مدى التطلع والتأسف عن مافات وضاع من الزمن؛ في بعده الانطولوجي العميق والنفسي المضطرب والحكائي المتنافر . تشكل هذه العوامل مرتكزات قصة غيرت من وظيفة الزمن وجعلت منه شخصية تؤدي وظيفة داخل نسيج الحكي؛ مما اصبحنا امام زمنين موزعين حسب الخطاطة التالية:
زمن نفسي/وجودي ___الزمن الشخصية.
زمن الحكي __ زمن مشتت بصيغ متنوعة:
_الماضي :زمن القوة.
الحاضر: زمن التدهور والانهيار.
المستقبل __ زمن الزوال والنهاية.
يضعنا القاص أمام عدة تأويلات لمفهوم الزمن؛ اهمها القدرة على إدماج أزمنة متنوعة بتمفصلات مختلفة لصناعة حكي مبني على التجاذب والتمظهر الفني المتعالي و النفسي الأرضي المنهار. فتشكل؛ في حركيتها التحويلية ؛المتعددة لعبة مبنية على السقوط والتعالي؛ النوم والاستيقاظ؛ القوة والتدهور؛ واخيرا الموت والحياة.
خلاصة عامة
على ضوء ماسبق؛ يمثل نص (يوم يشبه بعضه)؛ قصة الزمن بكل المواصفات؛ أي نص أعاد التأويل في مفهوم الزمن ؛ فأخرجه من مجاله الفزيائي العادي المبني على الصيرورة في مجال التطور؛ فجعل منه كائنا حيا؛ يتكلم؛ يستيقظ؛ ينام؛ وفي الأخير يتألم. هذه القيمة وظف فيها القاص طبيعة إحساسه وترابطه بمرحلة عمرية من الزمن الإنساني؛ كما شكلت مرحلة أحيت مراحل سابقة عنها؛ إما للنظر فيها؛ مساءلتها؛ التحسر عليها؛ وفي الآخير معاتبة هذا الآن القابل للنهاية والزوال.




* يَوْمٌ يُشْبِه بَعْضَه
إدريس الخوري.


كَعَادَتِها كُلَّ صباح، تستيْقظ الشّيْخوخة المَريضة بالوقت، وتدْخل في دهاليزه. هُنا يصبح قابَ قَوْسيْن أو أدنى من المَوْت. فليكنْ. سيختفي هذا الجسدُ المنهار عن الأنظار وترْتاح المدينة. ربّما في منتصف الليل، ربما في الصباح الباكر، في الزّوال أو في المساء، في المقهى أو في نادي الكرة الحديدية. أيْنَكَ يا عزيز أزْغاي لتشاركنا طاولتنا الغذائية؟ لقد كَبُر أطفالك وأداروا ظهورَهم للنادي. لقد وصلتْ هذه الشيْخوخة المتمرّدة إلى نهاية الطريق ولم يبْق لها إلاّ الحفرة!
كانتْ ليلة البارحة جدّ مضطربة. ثمّة نوْم متقطّع، فاستيقاظ فنوم فاستيقاظ، فالإحساس بالجسد يُريد أنْ يُفرغ ما في بطْنه ثمّ العوْدة إلى الفراشِ الدافئ للاسْترخاءِ منْ جديد. هلْ ثمّة أفضل من أنْ يتمطّط الْجَسَد ويتثاءب مثل حِصَان في العَرَاء أُخْرِجَ من الإصْطبل ليستريحَ منْ جرّ العَرَبَة؟ إنّ هذا الجسد المُتعب الآنَ كان يَتَبَوْرَدُ بالأمس!
آحْ، آيْ، الله. كانت الشيخوخة تبحثُ عنْ نفسها في هذا الصباح، علّ وَعَسَى أنْ تجد لها معنى. هي الآن في سِبَاقٍ أخيرٍ مع الزّمن. هذا مَا تبقّى لها. وللبحْثِ عنْ رَاحَةٍ نَفْسيّة وجَسَدية أهدأ، مالتْ بجسدها إلى اليسار حيث الحائط واتّكأت عليه. لقد استمتعتْ ليلة البارحة بموسيقى الموشّحات الأندلسيّة.
ها هي الشيْخوخة مستيقظة وجدّ متنبّهة، فماذا ستفعل الآن؟ بعْدَ تناوُل وَجْبة الفطور سوْف ترْتدي ثيابَها العادية وتستعدّ للخُرُوج إلى المقهى. فليْس أبْقى للشّيوخ في آخر أيّامهم غيْر المقاهي والتّأمّل في المارّة وفي الفَرَاغ، الفَرَاغ… يجب شَمّ هواء هذا الصّباح النّاهض منْ نوْمه، يجب رؤْية البشر الذّاهب إلى حتْفِهِ الأَبَدِيّ دون أنْ يشعر. قَدَرُهُ التّاريخي فوْق أكتافه. أنَا نفسي قَدَرٌ آخر. فمنذ ولدتُ وأنا جدّ مليءٌ بالأحزان والآلام!
نفسُ النادل، ونفسُ الفنجان، ونفسُ الوُجُوه المتجهّمة الباحثة عن الدّرهم بالرّيق الناشف.
تْسيري؟ لا. باعَة مُتجوّلون مُتناسلون مثْل الفئْرَان. كيْف ستشرب هذه الشيْخوخة قهوتَها الصّباحية دون إزْعاج؟ شيئا فشيئا تضَعُ الشيخوخة نفسها في دائرة عَدَمِ الاهتمام بما حوْلها وتسبح في مَلَكُوتٍ آخر. ستُتَلْفِنُ إلى أحدِ الأصدقاء أنْ يأتيَ وينتشلَها منْ وحدتها النفسيّة. ليكُنْ شاعر الجلبانة أو قَصّاص الفُول، ليكنْ مصطفى النحال هو الذي يعرف ما بي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى