قراءة نقدية تحت عنوان: سعيد فرحاوي - بنيات السرد في النص القصصي وطبيعة الواقع الطبقي في قصة: (أيام خديجة البيضاوية) إدريس الخوري

تقطيع النص découpage هي تقنية إجرائية تسعف في التحكم في النص؛ كما تساعد على تفكيكه. وطريقة تقطيع النص تعتمد على إجراءات منهجية ضرورية؛ منها تقطيع النص وفق الزمن الواحد الذي يتحكم في المقطع؛ او التيمة او المكان. وعليه سنقوم بتقطيع نص (أيام خديجة البيضاوية) حسب الشكل التالي:
يبتدأ المقطع الاول من:
(تقطن خديجة في الطرف القصيّ من الدار البيضاء)؛
ينتهي عند:
(في الرأس دوامة من القلق، وفي القلب رغبة دفينة.).
هذا المقطع تتحكم فيه بنية واحدة ؛ هي حياة خديجة البيضاوية المليئة بتيمة السواد والقلق والتعب. طبيعة السارد هنا تقليدي؛ يتكلم من خارج الأحداث؛ ليس شخصية تقوم بأفعال في عملية الحكي. هو راو فقط؛ يحكي أحداثا لا علاقة له بها سوى القيام بوظفته المركزية المعتمدة على الحكي والسرد. في هذا المقطع؛ يتكلم عن خديجة من موقع انه يعرف عنها كل شيء. يعرف اين تسكن؛ وأين تعمل؛ كما يعرف كيف تتألم. كما يعرف طقوس حياتها اليومية؛ يعرف ماذا تلبس وماذا تأكل وكيف تتحرك؛ كما يعرف كيف حالها صباحا وتفكيرها مساء؛ يعرف مشاعرها واحاسيسها؛ شكل قلقها وتعبها وألمها. لم لا وهو الذي يتحكم في كل صغيرة وكبيرة في أحداث هذا المقطع ككل ؛ لذلك سمي هذا النوع من الرواة بالراوي الإله. كما ان هذا المقطع اشتغل على التسلسل في بناء احداث الحكاية؛ لأن ما يهم السارد قبل القاص هو إيصال فكرة مهمة إلى القارئ تنبني على طببعة الوضع الاجتماعي الهش لهذه الشخصية؛ اعتمد جملا بسيطة؛ وافكارا تبنى بمنطق جد مقنع؛ لأن الحكاية تنتمي إلى القصص الواقعية؛ وهي نصوص تحيل على احداث كثيرة يعيشها المواطن البسيط في الهرم الطبقي الذي تنتج عنه الهشاشة والفوارق الطبقية الواضحة؛ خاصة وان المكان. هو تتوفر فيه كل شروط البؤس والاعطاب؛ مدينة غير عادية لأنها عمالية(الدارالبيضاء) لذلك فضرورة ان يصبح التقسيم الطبقي الذي تحركه البورجوازية المتعفنة معيارا لكل البناءات التي لاتسهم في إنتاج مجتمع عادل ومطمئن.
اما المقطع الثاني فيبتدأ من:
عينان غائرتان حزينتان، صدر ضامر نظرا لانعدام اللمس،
ينتهي المقطع الثاني عند كلمة (يعتبرنها ظاهرة)؛ اعتمدنا هنا على خاصية الوصف الذي ساهم بشكل كبير في تحديد طبيعة حزنها الغارق في جسد فتاة في مقتبل العمر؛ بجمال خاص. كما نعرف أن الشخصيات تعرف إما بسماتها او بأدوارها التي تنجزها في المجال التيماتيكي؛ وعليه فخديجة حزينة جدا لانها؛ كما وصفها القاص؛ بكونها تتميز بعينين غارقتين في الحزن؛ كما هي بشفتين شاحبتين؛ للام حلم ان ترى ابنتها عروسا؛ لانها كما قال السارد ( تساءلت امها مع نفسها متى يجيء ذلك اليوم لتقتلع هذه النخلة الضامرة؛)؛ إلى جانب كونها إنسانة لها الحق في اللذة النابعة من شهوة متفجرة( خديجة غابة من الرغبة ومن القمع الذاتي). كل هذه المحددات تسهم بشكل آخر في إغناء قيمة السرد وتطوير دينامية البناء السردي؛ باحترام كل مقومات السرد المطلوبة في المكان الخاص.
اما المقطع الثالث يبتدأ من:
(في الحافلة، لم يكن متوقعا أن خديجة سترفض هدية الطفل).
في هذا المقطع؛ الذي يشكل مجالا لحلم مغتصب؛ يتحول الزمن ليصبح مزيجا من سراب متناقض: يتشكل من ماضي البؤس؛ وحاضر التعب ومستقبل التطلعات المغتصبة؛ فتصبح الازمنة في تداخلها تشكل إرهاصات و تطلعات مقموعة واخرى بئيسة في حاضر يجتر ويتقطع بمآسي لا حصر لها؛ فتصبح كل إشارة من إشارات النص تصب في شخصية امرأة تنتمي إلى زمننا بأعطاب لا متناهية. تتحول دائما الشخصيات والأمكنة والأزمنة لتختفي كلها في موضوع واحد تشكل فيه خديجة المحور الاهم.
يبتدأ المقطع الموالي من الفقرة(مساء خرجَت خديجة كعادتها من المعمل، ووقفت كعادتها فوق رصيف المحطة..). وينتهي عند العبارة الدالة(مالي ياربي مالي).
في هذا المقطع تتحول الوضعية النفسية والاخلاقية لخديجة من حالة اخلاقية إلى حالة اخرى؛ دائما السبب هو الوضع المادي الذي جعلها؛ كما قال الراوي(تبيع جسدها ولا تبيع تفسها)؛ هي إحالات وظفها القاص ليبين ان الفقر يدفع بخديجة ان تقوم بكل شيء مقابل تغيير مادي بسيط؛ كما تبين استغلال النفود والاموال لشراء الاجساد . هذا المقطع يزيد من تعميق الهوة والضعف والتأزم النفسي والاجتماعي؛ وطبيعي جدا ان التحولات دائما تتحكم فيها شروط مدينة البروليتاريا ونقيضها المبني على اساس الانتماء الطبقي الذي يشتري كل شيء مجانيا ؛ يشتري قوة العمل؛ كما يشتري الهشاشة الاجتماعية فيحولها لصالحه مقابل دعم بسيط. هنا باعت له خديجة جسدها وحافظت على نفسها؛ بتمرد شديد تدل عليه عبارة:( مالي ياربي مالي.)
مقطع آخر يبتدأ من الفقرة التالية:
(وقد حلم الطفلُ أن يلبس بذلة جديدة وفي يده اليمنى شكارة..)
و ينتهي عند الفقرة التالية:
(ساحترف الرقص) ..
في هذا المقطع سيصبح الحلم هو سر الخلاص والخروج من الوضع المأزوم؛ للخروج من حالة والدخول في حالة أخرى. والحلم حسب علم النفس هو سلاح المأزومين؛ او كما يقولون لولا الحلم لانفجر الضعفاء البوؤساء. خديجة تحلم بأن تصبح شيخة؛ تبيع فرحا مغشوشا؛ لأن الموسيقى والغناء بالنسبة لخديجة لا علاقة له بالرقص كجمال او كفن؛، بل كأسلوب للهروب من وضع ووالولوج في وضع آخر.
(
-المقطع الموالي يبتدأ من :
-( عند الشِّيخاتْ.. في سْبَاتَة هناك امرأةٌ معروفة!).
وبنتهي عند الفقرة التالية:
وقالت لها أمُّها: يا بنتي الله يهديك. فأجابت: ماذا أفعل الآن وقد تجاوزتُ الثلاثين.. وكان التلفزيون يقدم في سهرته الأسبوعية لقطات من الشِّيخات، فتمنَّت خديجة أن تكون من بينهن.).
هذا المقطع يبين طبيعة الوضع والحلم والرغبات التي تجعل المرأة المأزومة إجتماعيا في الهرم الطبقي الهش ان تختار ما لم تكن تحلم به يوما ما ؛ كما يصبح هذا الحلم كابوسا لدى الام التي ترغب ان ترى ابنتها في وضع أحسن قرب زوج يوفر لها حياة كريمة؛ إلى جانب أبناء يشكلون مصدر هناء وسعادة؛، فتصبح الاختيارات مفروضة ان تقود الانسان المقهور ان يتبع مسارا آخر لا علاقة له بالحلم الاصل.
خلاصات عامة:
يمكن؛ بناء على ماسبق؛ ان نقول ان القاص المرحوم إديس الخوري اختار في نسيجه القصصي ان يعبر عن معاناة الانسان المقهور في المجتمع البروليتاري الفقير؛ فاختار عدة عتبات منها يطل على المرأة العاملة التي تببع كل شيء ؛ بحثا عن وضع ملائم في الشروط الادنى. باعت جسدها؛ كما باعت احلامها؛ باعت شبابها؛ وفي الأخير انعرجت في الطريق الخطأ؛ سعيا إلى تغيير ممكن؛ رغم ان فاتورته غالية وغالية جدا.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى