إبراهيم بشير إبراهيم - تساؤلات الشهيد القادم


(مرفوعة الي ذكرى ملازم أول عصام الدين يوسف الشريف من هنا وملازم أول كمن أثير أموم من هناك)


(كان طويل القامة قوي البنية حاد النظرات وسيما وسامة لاتخطئها العين أبدا...)
(كان يحب الفجر والشمس والشعر والنيل والوطن ((ومشاعر)) والبدر حين يطل ويكتمل...)
(ولد بقرية ... عام... وتخرج في الكلية الحربية وعمل ضابطا بالقوات المسلحة..)


أريد ان أكتب عن صديقي عصام وهأنذا أجرب كل البدايات الممكنة بلاجدوى، فالكتابة عنه مأزق حقيقي لأنه يفضحني ويعريني فالموتى/ الأحياء يفضحوننا بسهولة حتى لو توخينا الحذق والمواراه في الحديث عنهم، فعذرا عصام ،متمترسا داخل نفسي أكتب عنك ولا أتحدث إلا عن نفسي، فذهابك عنا هكذا أربك الكتابة والبلاغة السهلة واللغة الموات – وإزاء ذهابك الغامض لا بد من بداية ما، ونهاية ما، وقول يجهد لينجو من مواراته.

في أحدى أيام يونيو الحارة والنهر قريب منا ، متألقا بانعكاس شمس الأصيل عليه ومياهه تبدو مثل سبائك من ذهب حسب قول البلاغة الكذوب والفصاحة المخاتلة هل أواصل وأمعن في التعبير المراوغ ؟

إذا، الوقت كان عند الأصيل. والنهر كان متألقا، وجلوس على شاطئ النهر كنا مصطفين في ثلاثة صفوف منتظمة بملابسنا المدنية لا نزال. كان عصام أمامي مباشرة في الصف، وبالتالي أقرب مني إلى شفرة الحلاق الذي كان يحلق بسرعة ومهارة فائقة. كانت تلك أولى خطواتنا في الحياة العسكرية. قالوا لنا أن الغرض من حلاقة رؤوسنا هو إزالة الشعر (المدني) منها لينمو بديلا عنه شعر عسكري أصيل. وكان من الصعب تصديق ذلك في البداية والأقتناع به، لكنا أطعنا (الأوامر) واقتنعنا به . ولكن اقتناعنا بأن وقوفنا تحت وهج الشمس بلاحراك لساعات طوال لإزالة العرق "المدني" من مسام جلودنا كان أمرا صعبا. ثم بعد ذلك غيبنا قناعاتنا تماما وتعلمنا أن نطيع الأوامر بلانقاش أو جدال وكان ذلك مأزقنا الكبير.

عاد "عصام" إلى الصف بعد حلاقة شعره فلم أتمالك نفسي من الأبتسام فبادلني الابتسامة وهو يرقب ظله المنعكس على صفحة الماء وحين جلس همست له ساخرا "إن رأسك صار مثل البطيخة البلدية" ولم يرد علي وظل يرقب ظله المنعكس على الماء ويتشاغل برمي خصلات شعره المقصوص في النهر حيث كان التيار يحملها بعيدا وينثرها في جميع الاتجاهات فتختلط بالماء والطين وترقد مثل الكتابة المنمقة على صفحة النهر المتألق.

جدي كان حين يحلق لي شعري يغسل الموسى بعناية واهتمام ويقول لي جادا أن أدفن الشعر المقصوص في مكان رطب لأنه سوف ينبت بيضا وفاكهة في خلال أسبوعين، وكنت طوال الوقت أرقب غرسي المزروع تحت قلة الماء عله ينبت شيئا إذ أنني كنت وقتها صغيرا بالقدر الذي يجعلني أستبعد أن يكذب علي رجل مثل جدي وفي مثل وقاره وتدينه.

ثم لما كبرت قليلا أكتشفت ان كل الاجداد يكذبون مثله وكذلك الآباء وأنهم يورثوننا الكثير من الأكاذيب والأوهام نظل سنين عديده من عمرنا نتخبط فيها. وحين أحصيت الكذابين، عددت الكتب المدرسية، وأهلي، ومعلمي المدرسة، ووسائل الأعلام ، وإمام مسجدنا والمؤذن، ثم أحصيت نفسي معهم.

وكذب "عصام" مرة وكان ذلك من أجلي أنا، وتحمل العقوبة بالإنابة عني وشعرت حينها بمدى حبي له فقد كان رائعا حتى في كذبه وذلك عين ما يجعل الأنسان يحبه. "ومشاعر" كانت تحبه وكان يحبها حبا عظيما يذكرك بأؤلئك الناس المدهشين الذين يعيشون في الملاحم والأشعار والروايات. نعم حبهما كان ملحميا ذلك ما أقوله الآن وحتى أجد في اللغة تعبيرا أكثر صدقا ودفئا وبساطة سيظل هذا الوصف مشروعا. وكان من أجلها يحب الناس والحياة والهواء والأرض ومن أجلها يعيش. قلت له ذات مرة متسائلا:

" لماذا لا تتزوجها وترتاح يا عصام؟ "

قال ساهما بنظره نحو أفق بعيد:

"أتزوجها وأرتاح!؟" إنها تحتلني شبرا شبرا وخلية خلية وأنا منها وفيها وبها ولها فماذا يعني الزواج ، أقربا أكثر من هذا تراه؟"

ثم أضاف "هي هوائي وأرضي وسمائي وفضائي ودمي وأحلامي وأمالي وأفراحي و...وقاطعته ساخرا ..ما هذا يا" ملكي"[1] هل أصبحت شاعرا؟؟

وبعد ذلك في مكان آخر وزمان آخر كتبت له "أخي عصام "أبو الجيش" نحن عاتبون عليك ياصديقي لأنك فاجأتنا في يوم عرسك البهي ولذلك حزنا حزنا عميقا وغائرا في نفوسنا أليس عيبا يا "أبو الدفاع " أن نسمع به من أفواه الآخرين؟".

وكتبت:-

"وهي كانت تنتظرك، قالوا خاطت دستة مناديل خضراء، لأنك تحب اللون الأخضر، وشغلت ستائر غرفتكما بالورود والأزهار، ورسمت فوق مفارش السرير قلبا كبيرا وخارطة الحلم الجميل وكانت تحلم مفتوحة العينين.

ولأن حبهما كان أسطوريا هكذا كان لابد له من نهاية مأساوية وفاجعة كالمعتاد.

"لماذا يجب أن ندفع ثمن تجاربنا من دمنا دائما؟".

"هل يكلفنا الوعي حياتنا ثمنا؟ أما يكفينا ما عانينا ونعاني؟"

"هل للحب والصدق دائما هذه الكلفة الباهظة؟"

هل نغرق إلي الأبد في الأكاذيب اللعينة؟"

وعصام كان يشقيه هذا الكذب القبيح الفاجر، ويدمي قلبه التهريج الصفيق أم هي الغفلة البليدة يا ترى؟ وكان الكذب معلنا بوقاحة نادرة.

"هذا وقد تكبد العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد ..."

ويدير مؤشر المذياع فيسمع في الجانب الآخر نفس البيان.

"هذا وقد تكبد العدو خسائر فادحة...."

وكان في مثل هذه الحالات يفلت أنًة عميقة ويتنهد طويلا وتتجلى في عينيه نظرة حزن وأسى ويقول لي في حيرة "من هو العدو ...من هو العدو الحقيقي ياترى؟؟"

ونتذكر سويا زملائنا ودفعتنا أبناء الجنوب "كمن" و"ودينق" وأشول" وأتير" ثم يلعن الساسة والقادة الكذابين.

ويقول لي عصام همسا "أن الجمرة تحرق من يطؤها ونحن وطأناها حتى أخترقت العظم منا ليتمجد الساسة والقادة ويتمجد الرب في السموات السبع وعلى الأرض اللعنة.

"وموسس كمن" كان معنا ذات يوم وكنا نحبه ويحبنا ولانملك إلا ان نحبه.

القائد الميداني قرأ علينا أوامر العملية في الصباح الباكر. كانت كلماته ترن في آذاننا والسرية تتحرك :

"يمين وقريب لا شيء .. يمين ووسط لا شيء ..يسار وقريب لاشئ ..يسار وبعيد قرى خربة ومهدمة يخشى من تحصن العدو فيها ... يسار ووسط، آثار النيران والدمار والمنازل المتفحمة وعظام وهياكل تغطي الأرض وجيف الحيوانات النافقة والأرض الخراب."

الخراب توزع أرجاء المكان ورقد بأرتياح". وجنودنا البواسل جالوا أرجاء الغابة وحين لم يجدوا أحدا يقتلونه، قتلوا قطا بريا ونسرا وغرابا وقردا عجوزا

" وتكبد العدو خسائر فادحة في الارواح والمعدات" في المساء تبجح المذياع.

وفي اليوم التالي كان الملازم "موسس كمن" قد حمل سلاحه الشخصي واختفى فقد كانت تلك ديار أهله وقبيلته. وقال الملازم هاشم "الخائن كان معي في غرفة واحدة في الثكنة!؟"

وقال عصام في هدوء " من يلوم من؟"

وبعدها تتالت الاسماء. النقيب "مجاك" الرائد "مدوك" الملازم ثاني "اتير" وجنود السرية الخامسة مشاة الجنوبيين كلهم.

وبدأ اليقين المطلق في دواخلنا يهتز وبدات تقفز إلى أذهاننا أسئلة والأسئلة كانت جذرية وصعبة وحادة وتحتاج إلى إجابات حاسمة وسريعة وقاطعة. لكن القادة الكبار هناك ، ما كانوا يتركون لنا الفرصة لكي نحاول الإجابة على اسئلتنا او نفكر فيها.

"الجندي لا يفكر"، "الجندي لا يتساءل"، "الجندي يطيع الأوامر فقط"، "الجندي ينفذ فقط" "نفذ ثم تساءل".

وجهاز الإشارة الصغير بجانبك ينبح ويعوي "ملازم فلان قائد الفصيلة الأولى، تقدم للأمام " تقول أنك تحتاج الذخيرة والمؤونة والأدوية للجرحى.

تجيئك الإجابة في كلمة واحدة حازمة:- " تـَصّرف".

كيف..؟ لماذا..؟ أين..؟ وهل..؟

لا مجال لمثل هكذا كلمات فالوقت لا يسمح. تهز جهاز الإشارة اللعين في يدك في جنون وتصرخ ، والجهاز يردد كلمتين فقط " تقدم.. تـَصّرف.. تقدم.. تـَصّرف " هما الإجابة على كل سؤال واستفسار. والجنود من حولك ينظرون إليك كقائد تملك إجابات وحلول ما. ولكنك ليس لديك حلول وليس لديك طعام. وليس لديك إجابات عليك فقط أن تقودهم إلى الموت.. الموت الذي لا معنى له أو مغزى. الموت المجاني الأخرق . وتضطر إلى أن تكذب عليهم فتقول شيئا عن الفداء والتضحية والوطنية، والشهادة والجنة ونعيم الاخرة, وتتمنى لو يصدقوك وتسير..

ووصلنا مشارف إحدى القرى ( فارتكزنا) فيها. ومن الجانب الآخر من القرية أرسلوا إلينا رسولا وقالوا " نريد هدنة لا نريد قتالا" وقلنا نحن "ولم الاقتتال أصلا؟"

ومرت أسابيع والحال هادئة وصمت المذيع الصفيق ذو الحلقوم. في أحد الايام جاءنا أحد جنودنا يجري لاهثا وقال "شاهدت ثلاثة منهم هناك فلم أتحمل رؤيتهم يتجولون بحرية فأطلقت عليهم النار"

قلت "هي لعنة تلاحقنا أبدًا. فلابد من غباء ولا بد من حماقة.. لابد لنا من إشعال النيران فهذا قدرنا المأساوي الأبدي.

جمعت جنود السرية وقلت لهم " جاء أوان الموت أيها الرجال. واذا كان لابد من الموت فلنمت ميتة تليق بنا وليتمتع الساسة والقادة بحساب الشهداء وتعدادهم وليمنح الساسة للقادة أوسمة ونياشين وميداليات يعلقونها على صدورهم. وليمنح القادة للساسة ُانتصارا ومجدًا وشهرة، وبيانا يذيعونه في المساء.

حصَنا دفاعاتنا جيدا وقبعنا ننتظر. رد القادة الكبار قائلين تماسكوا سوف تصلكم النجدة سريعا جدا.

بدأوا الهجوم علينا. عددهم كان ضعف عددنا ثلاث مرات، وذخريتهم كانت وفيرة تنزل علينا كما المطر، وكانت القذائف تتساقط بغزارة من السماء السخية باللظى والسعير واللهب. بدأ رجالي يتساقطون من حوالي وصوت ذخيرتنا بدأ يخفت تدريجيا، وكنت أتلفت حولي مندهشا من أعجوبة بقائي على قيد الحياة حتى تلك اللحظة رغم هذا الجحيم الوفير والمنفتح علينا من جميع الجهات.

وفي مثل تلك اللحظات ، لحظة أن تواجه الموت أنفا لأنف وليس بينك وبينه سوى أن تأخذ قذيفة طريقها الصحيح أو الخطأ – لا فرق – وتصل إليك وليس سوى أن تخرقك قذيفة أو شظية بقدر بوصة مربعة في مقتل، فتنتقل على الفور إلي الرحمة أو الأمجاد السماوية أو قائمة الشهداء أو (يومية الخسائر)[2] أو رصيد المساومات القادمة، وتقف مبهوتا وليس أمامك سوى خيارين الموت أو الموت وتتذكر في لحظات كلما قرأت أو سمعت عن الحروب والموت بسرعة فائقة وتتلفت فلا تجد شعارا تتكيء عليه لأنه حينها تسقط كل الشعارات البراقة وترتفع الحقيقة فقط لكن إدارك الحقيقة وقتها لن يفيدك أو ينجيك ولن يحميك لحظتها من لهيب القذائف ووهج الطلقات السريعة لأنك حتما سوف تحتضن القذيفة القادمة وتحس بالمرارة تنكأ قاع حلقك وتتمنى فقط أن تمنح لحظة واحدة وزمن يكفي لكى تستدير الي الوراء حيث القادة والساسة ورشاشك مشهر و( العتلة في السريع)[3] وأصبعك ضاغط على الزناد لأقصى حد فتصب عليهم جام غضبك وغيظك ثم تعيد ترتيب العالم والأشياء من جديد.

وأخيرا جاءتنا النجدة فانسحب مهاجمونا إلا أن جنودنا البواسل استمروا في إطلاق النيران على مواقعنا بغباء. فلعنتهم وأنا أغوص في الخندق حتى يدخل التراب في فمي وأنفي وعيني وأيقنت بأنني هذه المرة لا محالة ميت برصاص النجدة وحين تتيقن من الموت يقينك من غباء القادة والأنظمة تتملكك لا مبالاة غريبة ويطيب لك أن تفكر ساخرا وتقول في سرك "لا بأس إذا زادت/"يومية الخسائر" رقما واحدا فهنالك دوما من هو على أستعداد لانقاص هذا الرقم أو مضاعفته حسب الموقع الذي هو فيه.

وبدا لي الأمر مسليا بعض الشئ وأنا أتخيل الفصيلة تبلغ السرية رقما والسرية تبلغ الكتيبة رقما أقل، وتقوم الكتيبة بدورها بتبليغ اللواء رقما أقل, ومن ثم تقوم

الفرقة بتقدير الرقم الأخير للخسائر حتى إذا وصلت الإحصائية إلي القيادات العليا يكون مكتوبا في خانة الخسائر (لا يكن)[4] بينما أكون قد أمسيت في الغابة رمسا ثاويا أو عظاما تهرأت بفعل الرياح والأمطار.

وقلت أثناء الهجوم:

" فلتحل عليك اللعنة يا "موسس كمن اتير" كيف أستطيع أن أخطب لك واحدة من قريباتي حسبما وعدتك وأنت تهاجمني بمثل هذه الضراوة وبلاهوادة. كيف استطيع أن أوفي يوعدي؟ وماذا عن "تيريزا" قريبتك التي خطبتها لي وماذا ستقول لذلك العجوز الودود "وأديت أتير" أبوك حين يسألك عني قائلا "أين صهرنا العزيز؟ ماذا يكون جوابك أتقول أنك لا تدري ؟ وكيف يعقل أن لا تعرف مصيري وأنت أعز أصدقائي؟؟

وانا ألم أطلق الرصاص عليك فماذا اقول لأهلي حين يسألونني عنك.؟ هل أسكت وأتغابى؟ ألن يفضحنى سكوتي المريب.؟ هل أقول لا أعرف وأنت حين كنت معي منذ شهرين في فترة الإجازة قدمتك لهم بأنك دفعتي وأعز أصدقائي..؟؟

في الجندية قالوا لنا لا تحزنوا ولاتفكروا ولاتندموا.

الجندي لا يحزن.. الجندي لا يندم... وحين تتراكم علينا أحزاننا وتفيض بنا أشجاننا نٌصٍر على أسناننا فقط ونعض الشفة السفلى بقوة وفي أحوال نادرة وأستثنائية تفر من عيننا دمعة وحيدة. هكذا علمونا.
(مكانك ...نقطة أمامية متقدمة )
(واجبك ..إطلاق النيران والتقدم إلي الأمام. ولا رجوع إلى الخلف )

نعم عليك أن تقاتل عليك ولا تسأل أو تحزن أو حتى تموت..

وفي دواخلك تراكم حزنا على حزن وأسى، حتى تصل المأساة لنهايتها الغبية البلهاء.

وكان عصام مسكونا بهاجس المصير وكان يفكر ويحزن ويغتم وقال لي ذات مرة:

" كنت من قبل حينما أحزن وأغتم أكتب الشعر فتزول لواعجي لكن الشعر قد ضاع

مني عند أبواب العرين"[5]. قلت له أكايده "أنا كتبت قصيدة جديدة".

قال : أسمعني إياها.

اتخذت هيئة الإلقاء وقلت بسرعة:-

"من واحد أثنين إلى ثلاثة أربعة أفد قوة علاماتي - حول"

واحد أثنين أسمعك جيدا -حول"

واحد أثنين علم – أنتهى )[6]

قال بحزن : نعم شوهونا وأضاعوا قصيدتنا : ثم أنصرف مسرعا.
وتظل تنتقل في الغابة تقاتل ظلك وأشباحك ومخاوفك حاملا جهازك / قدرك وصوت القادة يلسعك إن تلكأت أو تباطأت
"تقدم .. تقدم ..تقدم...تقدم.. تـَصّرف .. تـَصّرف.".
والقتال يبدو بلا نهاية أو معنى، والغابة ممتدة بلا نهاية، وعقب كل معركة تلعق جراحك وتتضاعف أحزانك لأنك مهزوم سواء انتصرت أو أنهزمت ولكن مثل هكذا تفكير محظور على صغار الضباط مثلنا وترف لا يمارسه سوى القادة الكبار والساسة الأفاقين وهم يصدرون إليك الأوامر بالتقدم باستمرار فتزداد المسافة بينك وبينهم كل يوم.
وذلك الصباح كان عصام فرحا فرحا عظيما حتى تناثر فرحه من حوله وحين سألته عن السبب قال ذلك لأنني رأيت في الحلم "مشاعر" تعانقنا حت ما كدنا ننفصل وتوهجنا حتى كدنا نشتعل يا الله كم كانت تلك الهنيهات رائعة ومعجزة وخارقة. كم كانت مدهشة وضيئة "ومشاعر" كانت لطيفة ورقيقة حد الذوبان والتلاشي لطفا وحبا وعشقا. شففنا حتى ذبنا وتجسد حبنا يسعى بيننا فنتبادل لمسه ورشفه وتدليله ثم نذوب فيه ويذوب فينا ثم لا تعود ذواتنا تبين.
وحين صحوت أدركت أشياء كثيرة ووجدت إجابات لأسئلة عديدة فتطهرت من رجسي ولواعجي وأعتراني صفاء نادر فرأيت ثم رأيت ثم رأيت".

وفي المعركة التالية كانت كلماته هذه ترن في أذني والرصاص يئز من فوقنا تلفت أبحث عن عصام فرأيته يتقدم جنوده بمسافة، ناديته فلم يرد علي وظل قدما إلى الأمام يسير، وإذ يزداد تساقط الرصاص من حولي أرقد على الأرض واتخذ ساترا لكنه لا يرقد ولا يتخذ ساترا من الرصاص لكنه يسير .. أناديه يلتفت إلي وكانت عيناه تبرقان ببريق عجيب وفوهة رشاشه حمراء من اللهب وينطلق منها الرصاص بلا توقف وأستدار ثانية وتابع سيره في أطمئنان وثقة.


[HR][/HR]
[1] ملكي: مدني ويعتبرها العسكريون سُبه.
[HEADING=3][2] يومية الخسائر : إحصائية رسمية بعدد الجرحى والقتلى و المفقودين في المعركة.[/HEADING]
[3] العتلة في السريع : في وضع في الطلقات السريعة
[4] لا يكن = لا يوجد . في البرقيات العسكرية
[5] العرين : شعار الكلية الحربية السودانية "مصنع الرجال وعرين الأبطال"
[6] نموذج البرقية العسكرية بالراديو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى