أ. د. عادل الأسطة - أدب العائدين: حيرة العائد/ محمود درويش ثانية..

لا أعرف تحليلاً نفسياً لشخصية محمود درويش من خلال شعره أو نثره، ومثله أيضاً سميح القاسم، علماً بأن نصوصهما الشعرية والنثرية معاً تسلمنا مفاتيح دراسة شخصية كل منهما، وكل منهما يختلف حقاً عن الآخر، على الرغم من محاولات الربط بين الاسمين من نقاد كثيرين وقراء أكثر، بل ومن سميح القاسم نفسه، ومثله اميل حبيبي الذي جمع رسائل الاثنين في كتاب «الرسائل».

تسلم سيرة سميح القاسم «إنها مجرد منفضة» (2011) للناقد مفاتيح شخصية سميح، كما تسلم أشعاره كلها، من ألفها إلى يائها، شكلاً ومضموناً، الناقد ما يعوزه لدراسة سميح، في تقلباته وتناقضاته وجمعه بين الضدين: الدين والعلمانية، تماما كما جمع بين شكلي القصيدة: التفعيلة والعمودي، وبين هجاء الحكام ومديحهم. ولم يكتب درويش سيرته، كما كتبها سميح، بالتفصيل، وإنما أوجزها في كتابه «في حضرة الغياب» (2006)، وظل الشاعر حذراً في كثير من تفاصيل حياته، ولم يخض في أشعاره في تفاصيل شخصيته كعلاقته مع المرأة، إذ ظل متكتماً في هذا الجانب، وعبر عن الواقع السياسي والوطني ومفاصل القضية في كثير من قصائده وقد تراجعت الذات في القصائد الوطنية، وهي كثيرة، ليحتل الهم العام الصدارة.

لمحمود درويش قصيدة عنوانها «سقط الحصان عن القصيدة» وفيها يضيف: وأنا سقطت مضرجاً بدم الحصان، وهي تظهر صلة قصيدة الشاعر بالثورة، وكان كتب هذه القصيدة بعد أوسلو، حيث خفت الموضوع الوطني، وتقدمت مكانه موضوعات أخرى برزت في مجموعاته منذ «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» (1995)، وإذ عاد الشاعر من المنفى، فقد آثر التعمية والغموض، في أثناء الكتابة، في تحديد موقفه من مدريد وأوسلو. «إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار» كتب في 1992، واستقال من اللجنة التنفيذية، وكان غير راض على ما تم إنجازه، وحين عاد إلى رام الله انزوى في مكتبه في السكاكيني، ومارس نشاطاً أدبياً، وآثر الظل والهامش، وكان أحياناً قليلة، حين تتأزم الأوضاع، يخرج عن صمته ويعبر عما يعتمل في نفسه.

إن عنوان كتابه النثري «حيرة العائد» لهو التعبير الحقيقي عن حالة الشاعر ما بين 1995 حتى وفاته، وحين مرت السنوات الخمس ولم يحدث تقدم في مسار العملية السلمية ـ أي لم تقم الدولة ولم يحدث الاستقلال ـ أدرك الشاعر الورطة التي وقع فيها الفلسطينيون ممن ساروا في نهج (أوسلو)، وسننتظر عشرين عاماً حتى نصغي إلى أحد مهندسي السلام، وهو السيد ياسر عبد ربه، يعلن عن الخطأ الذي ارتكب في أوسلو.

هذا الاكتشاف المتأخر كان درويش يدركه ويعبر عنه في بعض نصوصه، ويعد نص «في تحرير الجنوب» الذي ألقاه في أيار 2000، في جامعة بيرزيت أهم هذه النصوص، إذ فيه كتب بصراحة:
«إن الاحتلال هو الأب الشرعي للمقاومة» (ص52)و»هذا ما فعلته الانتفاضة الفلسطينية أمس، وهذا ما فعلته المقاومة اللبنانية اليوم.

لقد أرغمت الأولى إسرائيل على الاعتراف المتأخر بوجود الشعب الفلسطيني وعلى الانسحاب أو إعادة الانتشار، من جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة.

وأرغمت الثانية إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان لأنها لم تعد قادرة على تحمل ثمن الاحتلال، لا لأنها انتبهت فجأة إلى قرارات مجلس الأمن. وهكذا فإن الدولة التي لم تكف عن القول إن العرب لا يفهمون غير لغة القوة هي الدولة نفسها التي تقول انسحابها إنها هي نفسها لم تفهم غير لغة القوة».

هذه الفكرة التي يعبر عنها الشاعر، في مرحلة السلام، أي قبل أن تبدأ انتفاضة الأقصى بأربعة أشهر، هي فكرة تحفر عميقاً في نفسية الشاعر ـ هنا يختلف عن اميل حبيبي الذي كان يؤمن بالحل السلمي والمقاومة السلمية، ولعلّ بذورها تعود إلى ما بعد حزيران 1967 مباشرة، على الرغم من أن الشاعر كان في حينه عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي وكان يقيم، مثل حبيبي، في حيفا.

ما سبق يعني أن الشاعر الذي عاد إلى رام الله وفق اتفاقات أوسلو كانت قناعاته مختلفة كلياً عما كان يسير في ركابه ظاهراً، وأن الشاعر الذي اتهمه بعض خصومه بأنه يدعو إلى التعايش مع الدولة العبرية، كان في قرارة نفسه يدرك شيئاً آخر ويعيه لدرجة أنه كرره على مدار ثلاثة وثلاثين عاماً مراراً.

إن نص «في تحرير الجنوب» (2000) هو ابن نص «الفرح عندما يخون» (1967) ونص «صمت من أجل غزة» (1971) ونصوص أخرى لاحقة ظهرت في كتبه النثرية وقصائده النارية.

في حزيران 1967 خان الفرح الشاعر، كما خان العرب كلهم. ولكن ما الذي جعل الشاعر لا ينهار، وجعله يكتب أدباً فيه قدر كبير من التفاؤل؟ إنها المقاومة التي جاءت كرد فعل فوري على الهزيمة، هزيمة الجيوش العربية، وهكذا ينهي درويش نصه النثري:
«لا بد أن يصقلنا الفرح، ستبدأ المقاومة.. ستبدأ المقاومة؛ انتهى كل شيء، وتبدأ المقاومة، وإذا جاءك الفرح مرة أخرى، فلا تذكر خيانته السابقة». (ص151).

في كتابة لاحقة تحت عنوان «صمت من أجل غزة» (1971)، وكانت المقاومة في غزة، في حينه في أوجها، سيعزز الشاعر ما ذهب إليه، أو إنه سيعبر عما يفتعل في نفسه:

«ولكن سرها ـ أي غزة ـ ليس لغزاً: مقاومتها شعبية متلاحمة.. و»قد ينتصر الأعداء على غزة. (وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة صغيرة) قد يقطعون كل أشجارها. قد يكسرون عظامها. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم. ولكنها: لن تكرر الأكاذيب. ولن تقول للغزاة: نعم. وستستمر في الانفجار..»

في العام 1973، وفي حرب تشرين، لن يختلف موقف الشاعر الذي يقبع في داخله، كثيراً: بالحرب وحدها نستطيع صنع السلام. و»من فوهة هذه البندقية: ينهمر السلام على الأرض الحزينة» (ص37 من وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلم) و»نحن نذهب إلى الحرب فنصل إلى الولادة» (ص39) و»ما أجملنا شهداء، وما أقبحنا لاجئين» (ص31)

هل اختلف الأمر كثيراً حين كان الشاعر يقيم في باريس؟ في العام 1987 اندلعت الانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وواجه الفلسطيني عدوه المدجّج بالأسلحة، واجهه بالحجارة، وهنا سيكتب الشاعر قصيدته الشهيرة «عابرون في كلام عابر» التي أثارت ضجة كبيرة: «منكم السيف ومنا دمنا». والشاعر الذي كان يقيم في مدينة النور مازال هو الشاعر الذي طرد طفلاً من قريته البروة، وعاش اللجوء لفترة، قبل أن يعود، متسللاً، إلى وطنه ويعيش لاجئاً فيه، وهذه القصيدة لم تكن نغمة شاذة في مسيرة درويش الشعرية، ففي قصيدته «الأرض» 1976 كتب: سنطردهم من صخور الجليل.

في «حيرة العائد»، وعلى الرغم من عودته إلى جزء من وطنه، ظل الشاعر يدرك ببصره وبصيرته أن ثمة خللاً ما في المفاوضات وفي العودة: فلماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار، وحين رثى عرفات قال إن عودته كانت عودة إلى سجن مؤثث بصور الأشياء لا بحقيقتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى