أ. د. عادل الأسطة - القدس ثانية… وماذا بعد؟… ماذا بعد؟

ينهي محمود درويش قصيدته "في القدس" من ديوانه «لا تعتذر عما فعلت»، 2003، بالآتي:

"وماذا بعد؟“
ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية:
هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟
قلت: قتلتني… ونسيت، مثلك، أن أموت.“

لم يصدق محمود درويش نفسه حين زار القدس ثانية، فقد انقطع عن زيارتها ما لا يقل عن 25 عاماً. وفي القدس التي زارها ثانية رأى المجندة الإسرائيلية ثانية وبعد ربع قرن فصاحت هي حين رأته مندهشة، إذ كانت قتلته.

قتلت المجندة الإسرائيلية الشاعر ولكنه لم يمت، وهي أيضاً مثله لم تمت. لقد نسيا الموت على الرغم من القتل. هل ما ورد في القصيدة حقيقي وهو ما حدث حقاً بين الشاعر الفلسطيني والمجندة الاسرائيلية؟ إذن أين هو عنصر الخيال في الشعر؟

لا أعرف كيف قارب النقاد هذه القصيدة التي قاربتها في دراسة لي نشرتها في مجلة "الأسوار" العكاوية في العام 2004. وأغلب الظن أنني فرقت بين القتل والموت وقلت: ليس كل قتل يؤدي إلى الموت. كلمة ”قتل" تحيل إلى مدلولات عديدة أحدها الموت البيولوجي، وهناك القتل النفسي والقتل المعنوي والقتل الروحي.

تحيل القصيدة وعلاقة الشاعر بالمرأة اليهودية إلى قصة حب درويش فتاة يهودية وإلى قصائد سابقة له عديدة ظهرت في أشعاره قبل خروجه من الأرض المحتلة وأشعاره بعد خروجه، وتحيل أيضاً إلى نثره مثل كتاب «ذاكرة للنسيان.. سيرة يوم: المكان آب.. الزمان بيروت»، 1986، وإلى المقابلات العديدة التي أجريت معه وأتى فيها على ذكر علاقته بالمرأة اليهودية وما أكثرها.

وخلاصة تلك العلاقة أن الشاعر أحب فتاة يهودية شيوعية ثم انفصلا بسبب حرب حزيران 1967 والتحاقها بالجيش، وقد أتى على افتراق الحلمين في قصيدته "شتاء ريتا الطويل“، 1991، وكتب عن حلمين يتقاطعان "فواحد يستل سكيناً وآخر يودع الناي الوصايا“.

هل رأى درويش في زيارته القدس، بعد ربع قرن، الفتاة التي أحبها وهل صاحت به: ألم أقتلك؟ يوم افترقنا بسبب التحاقي بالجيش فما الذي أعادك؟

لو كان الشاعر على قيد الحياة لربما سألته عن المعنى وعن نسبة الواقع والخيال في هذه القصيدة ولكن.. القصيدة هذه وقصيدة أخرى سبقتها تأتيان على القدس ومكانتها لدى درويش. شاعت واحدة ولم تشع الثانية وقد يعود السبب إلى بروز دال القدس فيها بروزاً واضحاً لافتاً، وفي هذه كتب الشاعر عن المدينة التي تندلع فيها الحروب بسبب حجر شحيح الضوء. وبغض النظر عن سبب اندلاع الحروب في القدس فإن كتابة الشاعر عن المدينة كانت لافتة. ليست هذه القصيدة أول قصيدة يكتب فيها درويش عن القدس التي زارها أول مرة بعد احتلال الاسرائيليين لها في حرب حزيران 1967.

إثر هزيمة العرب واحتلال المدينة تمكن الشاعر من زيارتها خلسة، فقد كان يخضع للإقامة الجبرية في حيفا. تسلل في القطار إلى القدس وزارها فرأى مدينة حزينة شبه مهجورة وكتب قصيدته "تحت الشبابيك العتيقة " وأهداها "إلى مدينة القدس وأخواتها" وكتب نصاً نثرياً عنوانه "تقاسيم في سورة القدس" ونشره في كتاب «يوميات الحزن العادي» عام 1973.

كان حزن الشاعر كبيراً، فالدرج مهجور والشبابيك مغلقة و..و..و…

كان محمود درويش يومها شاعراً ماركسياً ورأى في القدس مدينة محتلة ولم ينعتها بأي نعت ديني ولم ينظر إليها من منظور ديني. إنها مدينة عتيقة من مدن وطنه السليب، وفيما بعد، بعد إعادة طباعة الديوان، وبعد محاولات إسرائيل تهويد القدس خص درويش القصيدة بالقدس وحدها وحذف دال "وأخواتها "من الإهداء، ومع مرور الأيام حذف الإهداء كله.

لم تكن قصيدته "تحت الشبابيك العتيقة "القصيدة الوحيدة في القدس. فقد عاد وكتب وهو في المنفى قصائد أخرى. غادر الشاعر حيفا في 1970 ليدرس الفلسفة في موسكو ولم يعد في 1971 إلى حيفا. لقد سافر إلى مصر واستقر فيها، فهل نسي القدس؟

في 1972 أصدر درويش ديوانه »أحبك أو لا أحبك» وفيه ذكر القدس غير مرة.

في قصيدة "مزامير" كتب عن أورسليم وفي قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي كتب فيها عن سرحان بشارة سرحان أتى على القدس وبين مكانتها لدى الحكام العرب أو من يفكر منهم أن يصبح حاكماً.

كان في هذه الأثناء في مصر وبدأت فجيعته من العالم العربي تكبر و تزداد، ورأى أن الحكام العرب يستغلون اسم القدس ليصلوا إلى كراسي الحكم. وقد عبر عن هذا بقوله:

"وما القدس والمدن الضائعة سوى ناقة تمتطيها البداوة إلى السلطة الجائعة" و"وما القدس إلا صندوق تبغ وزجاجة خمر".
لم يكتب الشاعر في قصيدة "سرحان..." ما تعنيه القدس له. كتب عما تعنيه للعرب/ البداوة.

القدس مطية الحاكم العربي للبقاء في كرسي الحكم أو هي مطية من يريد أن يعتلي سدة الحكم، إنها صندوق تبغ أو زجاجة خمر للحاكم ولكنها لدرويش وطنه "ولكنها وطني“.

هل كان للقدس بعد 1972 حتى 2003 حضور في شعر الشاعر؟

في الرسائل المتبادلة بينه وبين الشاعر سميح القاسم أتى على الطلب منه أن يقرأ قصائد عن القدس في إحدى الدول الأوروبية، هو وشاعرة يهودية. كيف كتب الفلسطيني عن القدس وكيف كتب عنها الاسرائيلي؟

مرة تجادلت أنا والشاعر فاروق مواسي حول قصيدة القدس في أشعار محمود درويش واختلفنا. هو كتب عن خلافنا في كتاب أصدره عن القدس في الشعر الفلسطيني وأنا كتبت دراسة عنوانها "إشكالية قصيدة القدس: محمود درويش نموذجاً"ونشرتها في مجلة كنعان في حزيران 1998.

هل كتب محمود درويش قصائد عن القدس؟

موضوع أثرناه من قبل وها نحن نثيره من جديد. إنه موضوع إشكالية مثل المدينة نفسها؛ المدينة التي دُمّرت ثماني عشرة مرة وأعيد بناؤها ثماني عشرة مرة.

"وماذا بعد؟" ماذا بعد؟

صاح (ترامب): ألم أقتلكم أيها الفلسطينيون؟

ولا شك أن الإجابة ينطق بها الشباب الفلسطيني على مداخل رام الله والمدن والقرى والمخيمات: "قتلتنا ونسينا، مثلك، أن نموت"
وماذا بعد؟
ماذا بعد؟


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى