خالد جهاد - الخوف في مرآة البحر

قد لا يوجد مشهد آخر يمتلك ذات القدرة على دفعنا للبوح أكثر من مشهد صفحات البحر المتموجة، والتي تهدأ أحياناً لتثور في أحايينٍ أخرى وتأخذنا حيث عجز البشر أن يفعلوا لتحتوينا دون كلمات، فلا نصغي سوى لهدير أمواجها أو نوارسها العابرة أو الباعة الجائلين حولها، وكأنها تخدر كل مافينا إلا عواطفنا التي تصحو بكامل لياقتها ووجعها وكأنها ستلتقي بمن يداويها ويضع يده عليها ليخبأها داخل عبائته، وينقلها إلى عوالم أخرى أكثر سلاماً وأماناً، تحتاج فيها إلى أشخاص ٍ يختلفون عن أولئك الذين هربت منهم لتحدث البحر، متجاهلةً الكثير من المشاهد الحزينة التي عاشتها أملاً في استبدالها بأخرى أكثر إشراقاً، تحاول رسمها على ملامحها كشمسٍ في دفتر طفلٍ صغير..

فتلتقي بأشخاصٍ جدد يبدأون في رؤية فيلمك من مشهده الأخير، والحياة تماماً كشريط السينما، ساحرة، سريعة، وكثيراً ماتكون خادعة، وطبع الناس يجافي التفكير وعلاقتهم بالحقيقة كعلاقتهم التي يفضلون فيها الأغنية على الموسيقى، والصورة على الكلمة، ومساحيق التجميل على الجمال، والإثارة على الأنوثة، وابتسامة هوليوود على السعادة، وتجهيزات سرادق العزاء على الميت..

إنه المشهد.. اللقطة، البريق، التجمهر.. صورة من الواقع وإن لم نوافق عليها، ووجه آخر للحياة لا نعرفه إلا بعد أن نمشي لمسافات ٍطويلة في دروبها ونتبلل بحكاياتها المنهمرة كالمطر وصورها التي لا تكف عن مفاجأتنا في كل لحظة بمشهدٍ جديد، يبدأ بثرثرةٍ على جانب الطريق بين عاشقين على وشك الشجار، سيارةٌ مسرعة تكاد تدهس أحدهم دون مبالاة، زحامٌ أمام أحد المطاعم الشعبية، نساءٌ تشتم الرجال، رجالٌ يشتمون النساء، أسواقٌ مكتظة دون أن يشتري منها أحد إلا نادراً، أغانٍ هابطة، باعةٌ متجولون ليس لديهم حقاً ما يبيعونه سوى بعض الهواتف المسروقة، غانياتٌ يائسات، أطفالٌ متسولون يهربون من الشرطة ليناموا تحت الجسور وفي الأبنية المهجورة، محدثون يتباهون بكلابهم وثيابهم، اعلانات بلهاء تحاصرنا بها الإذاعات والشاشات والطرقات، كلمات أجنبية بدون داعي، خيانات مجانية، علم بلا علماء، تدين شكلي، عواطف باردة، ضحكات جبانة في الظلام، دموع وقحة في عيون المذنبين، ووجوهٌ يتساقط اللحم عنها لتموت من الفقر والمرض والغربة ببطىء في أحضان العتمة بعد أن مضى بها قطار الحياة مسرعاً قبل أن تعيش، ويتحطم تحت لوحةٍ إعلانية ضخمة لأحد (المشاهير) الذي يقود سيارةً بمئات آلاف الدولارات بعد نجاح فيلمه الجديد عن (المهمشين) الذين لا يكف عن إغاظتهم..

كلهم كانوا يتوهجون كالنجوم في سماء ٍمن الخوف، ويبدون مثل تطعيم ٍ اجباري عليك أن تأخذه كي يسمح لك بركوب حافلةٍ تقلك من المسافة بين بوابة الحياة إلى حيث الحياة أياً كان موقفنا منها، تلك الحافلة التي يركبها الجميع ذاهباً إلى أحلامه أو عائداً من خيباته، يحلون فيها خلال رحلتهم معادلاتٍ مستحيلة بين القلب والرغيف، النجاح والسعادة، الغربة والراحة، الصداقة والصدق، الطفولة والحزن، الحنان والرعب..
تلك التي لا تجتمع مع الأخرى وكأنها غريمتها رغم أنها تبدو عاديةً جداً، لكنها تشبه دائرة الحذر التي تعيشها كل الكائنات بين تخفٍ وتمويه ٍ يتوائم مع قسوة الطبيعة طمعاً في الإستمرار، فنحيا جميعاً بالخوف، نتأرجح بين مفرداته، خوفاً من جوعٍ أو مرضٍ أو فقد، خوفاً من ألمٍ أو ضعف أو حاجة.. حتى لمن نحب، أو حتى خوفاً على من نحب، وبين الشهقة والدمعة في محراب الوحدة تنسج الحكايا، تلك التي تدور أحداثها بعيداً عن الكاميرات، ولا تتصدر (التريند) أو شباك التذاكر، ولا تستخدم فيها المؤثرات أو العواطف الإنسانية كسلعةٍ للفت الأنظار.. حكايات مملة وعادية لكنها حكاياتٌ حقيقية يرويها أصحابها للبحر متسائلين عن موعد عودتهم كي ينتهي خوفهم الذي طالت رؤيته في مرآته..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى