علي حسن - بين العقاد والآنسة مَيّ

تقول "مَيّ" في رسالة إلى أستاذها الدكتور "يعقوب صروف": "أتمنى أن يأتي بعد موتي مَنْ ينصفني، ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية، والتحمس لكل شيء حسن وصالح وجميل؛ لأنه كذلك، لا رغبة في الانتفاع به".
كأن "مَيّ" تعرف أن الإنصافَ أمنيةٌ قد لا تتحقق حتى بعد وفاتها!
إن أغلب ما كُتِبَ عن "مَيّ" لم يتناول أدبها الرفيع، وأفكارها السامية كأديبة مرموقة، وإنما تناول متوهَمًا عشقها لأديب هنا أو شاعر هناك، مع خيال قادرٍ على نسج قصص واختلاق حكايات جاذبة لنوعية من القراء تنشد التسلية وتدمن الإثارة! وغالبًا ما تعترض مثل هذه الكتابات طريق باحث جاد يتعقب تراث "مَيّ" وأدبها العظيم فتعطله عن مقاصده، كونها تصدر عن كتاب كبار، وتتصدر قوائم المصادر عند البحث والاستقصاء!
لقد طالت الافتراءات كل مَن قصد صالون "مَيّ" ولم ينجُ من نصلها شيخ أو كهل! وزاد هؤلاء الخائضون كَيل بعير لمَن كان شابًا وسيمًا ذائع الصيت. لهذا تصدر جرانيت أسوان "عباس محمود العقاد" (١٨٨٩-١٩٦٤) ونبي المهجر "جبران خليل جبران" (١٨٨٣-١٩٣١) قائمة الاهتمام.
في هذا المقال سوف نتناول ما أُشيع لسنوات طويلة عن العلاقة الغرامية بين "العقاد ومَيّ"!
بدايةً؛ اعترف أنه ليس في استطاعتي احتواء كل المصادر التي تناولت علاقتهما، وتقديمها للقارئ في مقال واحد، فهذ المصادر تُعجز الراِصد وتَتجاوز الحصر، ولكن ربما أستطيع أن انتقي من كل صبار ضخم شوكة مؤلمة لم تُؤذِ "مَيّ والعقاد" فحسب، وإنما شوهتْ أعظم فترات الحياة الثقافية المصرية والعربية نضارةً وبهاءً وعطاءً بما ليس فيها!
إن أشدَّ الشوكات ألمًا ما يُغرِسَهُ ابن أو قريب في ظهرك؛ وما أصاب "مَيّ" من عَنتْ معلوم، وإنما الحديث عن "العقاد" وما كتبه ابن أخيه "عامر أحمد العقاد" (١٩٣٦-١٩٨٥) في كتابيه "لمحات من حياة العقاد المجهولة" عام ١٩٦٨، و"غراميات العقاد" عام ١٩٧١.
لقد ترك "عامر" كل تراث عمه العظيم فما اقترب منه، لكنه اتخذ روايته "سارة" كوثيقة تُثبتْ ما يقوله عن عمه! ورواية "سارة" عمل أدبي، لا علاقة له بالواقع، والعقاد كاتب ليس بهَيَّاب ولا جبان، وعندما أراد الحديث عن نفسه، أفصح وبيّنَ في كتابه الشهير "أنا"!
فهل عَدِم العقاد بعد موته مَن يدفع عنه أقوال ابن أخيه "عامر"؟ كلا.. فقد شهد الأستاذ "محمد خليفة التونسي" (١٩١٥-١٩٨٨) أحد تلاميذ العقاد في مقالة له بعنوان "أبلغ تكريم لذكرى العقاد كتابة تاريخه بأمانة وصدق" نُشِرتْ في جريدة القبس الكويتية قال فيها: ".... كان العقاد كما عرفناه مباشرةً خلال معاشرة اثنين وثلاثين سنة مثالًا عاليًا في الوقار والرصانة ورعاية الحُرمات، والحرص على كرامته في كل موقف إلى حد الصرامة، وكان يبدي لـ "مَيّ" إعجابه بها، ومودته لها في خطاباته لها فكان يخاطبها بالنثر والشعر، ونظمه فيها أحر عاطفة من نثره لأنه يحتمل مالا يحتمل النثر، كما تدلنا رسائله إليها.... لقد افترى على مَيّ كثيرون، اتهموها بحبها هذا وذاك وذلك، والذين عرفوا أخبار "مَيّ" من مصادرها الصحيحة، ونفذوا من وراء ذلك إلى أخلاقها وسرائرها يجزمون بأنها كانت "قديسة" وكانت في تصرفاتها تحرص أشد ما تحرص القديسة على طهارة ظاهرها وباطنها. ولاشك في أن القديسات، ومثلهن القديسون غير مبرأين من نزعة الحب الذي لا سلطان لصاحبه عليه، فإنهم من لحمٍ ودمٍ، يخامرهم كل ما يخامر البشر من خواطر، ولكنهم يكبحون أهواءهم عن أن تحوم حول أصغر الحرمات.
ومَن كانت مثل "مَيّ" تسيطر عليها وساوس التطهر فلا بد أن تكون أبعد من كل ريبة. ولكن ذلك لا يمنعها من أن تخلص في صداقتها لأحدٍ حتى تظن أن هذه الصداقة حُبًا، وأن يتسع عقلها وتعاطفها مع كل مَن حولها فتقابل المودة منهم بالمودة، بل تقبل ما يشبه ذلك من تلميحات غزلية، وتغفر لصاحبها سماحة وعطفًا، وحرصًا عليه، حتى يرتدع عن محاولاته التي يمليها عليه ضعفه من جانب، وإعجابه بها من جانب آخر، ويبقى كل من الطرفين حيث هو، قريب بعيد، كأنهما الخطان المتوازيان لا يلتقيان، مهما امتدا!" (القبس الكويتية عدد ٣١٢٥- ٣/٢/١٩٨١).
نتوجه إلى الأستاذ "طاهر الطناحي" (١٩٠٣-١٩٦٧) الذي تناول الآنسة "مَيّ" في كتابه "أطياف من حياة مَيّ" الذي يحمل بين طياته عددًا كبيرًا من الأخطاء التاريخية والهَنات التي يصعب على القارئ حصرها، بداية من الصفحة الأولى للقسم الأول "مَيّ الأديبة الإنسانة" تصدمك أخطاء -ربما- غير مُتعَمَّدة لكنها تدل على أن الأستاذ "طاهر الطناحي" لم يبذل نحوها جهدًا كافيًا في البحث، ولو فعل لكان قادرًا على تدارك الكثير مما نعده أخطاءً فادحةً!
الاستهلال مع السطر الأول من الكتاب وقوله: "عَرفتُ نابغة الأدب العربي "الآنسة مَيّ" قبل وفاتها ببضع سنوات، وكنت وقتئذ كاتبًا ناشئًا، وقد وصلني بها عملي في الصحافة والأدب، وكانت وقتئذ تحرر بحوثًا في الهلال والمقتطف والرسالة.. وقد حرصت في ذلك الحين على زيارتها كثيرًا؛ لاتزود من أدبها زادًا وفيرًا، وكانت جلساتها عامرة بأسمى الأفكار وأحسن الآراء وأطرف الذكريات، وكنت في هذه الجلسات أشهد من حلاوة الحديث وصفاء النفس ولطافة الحس ورقة العاطفة ورهافة الوجدان ما يذكرني بأميرة الأندلس "ولادة بنت المستكفي بالله"."(أطياف من حياة مي، الهلال- ص٩)
لقد كان العصر الذهبي لصالون "مَيّ" بين عاميّ (١٩١٣-١٩٢٩) بعد ذلك بدأت النكبات تنهال عليها بداية بوفاة والدها "إلياس زخور زيادة" عام ١٩٢٩، ثم لحقت به والدتها السيدة "نزهة خليل معمر" عام ١٩٣٢. بعد رحيل والدتها قضت "مَيّ" ثلاث سنوات في ترحال وسفر، وانغمست في طلب العلم كي تنسى آلامها وأحزانها، وهنا يجدر الإشارة إلى التحاق "مَيّ" بجامعة لندن، ثم السوربون وغيرها في باريس، ثم جامعة "بيروجيا" في نابولي لدراسة الفن والتراث الإيطالي. ثم بدأت مأساتها مع أبناء عمها "حنا" فور عودتها، فتحصنت ببيتها ورفضت تمامًا لقاء أي إنسان!
ومن قول الأستاذ "الطناحي" هناك احتمالين، إما بضع سنوات هي عنده أكثر من (٣-٩) ولكي يملك القدرة على هذا الوصف لمجلس "مَيّ" يكون قد تعرف عليها في أوج مجدها عام ١٩٢٥، وهو حينئذ عمره ٢٢ عامًا، وصالون "مَيّ" لا يدخله إلا مَن وَجَهَتْ إليه دعوتها بخط منمق جميل! احتمال آخر أرجحه، أن الطناحي تقابل معها يوم أن اعتزلت العالم، وأوصدت بابها أمام المخلصين منهم، كما فعلت مع الدكتور "منصور فهمي" (١٨٨٦-١٩٥٩) والأستاذ "العقاد" الذي قال أنه لم يلتقِ بها منذ عام ١٩٣٥ وحتى وفاتها!
من هنا نستنتج أن وصفه الرائع البليغ كان سماعيًا، وأنه لم يشهدها، تمامًا كما تذكر صالون "ولادة" ولم يرها!
في فقرة ثانية يقول الأستاذ "الطناحي": "وقد وُلدتْ الآنسة "مَيّ" في بلدة الناصرة عام ١٨٩٥، ووالدها إلياس زيادة من لبنان، ووالدتها سيدة متعلمة من فلسطين..." (المصدر ص١٠)
وهذا خطأ تاريخي، حيث أن "ميّ" وُلدَتْ في ١١/٢/١٨٨٦، والسيدة المتعلمة والدتها هي "نزهة خليل معمر" ذلك الاسم الذي -ربما- لا يعرفه الأستاذ "الطناحي" أو يعلمه وحجبه عن القراء اعتقادًا منه بأنه لا يجب ذكر اسماء النساء!
فقرة ثالثة يقول "الطناحي": "قد حدثتني عن نشأتها الأولى فقالت:" في مشاهد لبنان الجميلة، حيث الجنان المزدانة بمشاهد الطبيعة الضاحكة والجبال المشرفة بجلالها على البحر المنبسط عند قدم هاتيك الآكام الوادعة....". (المصدر- ص١٠). وبالبحث وجدت النص لـ "مي زيادة" بحذافيره في مجلة الهلال عدد فبراير١٩٣٠ تحت عنوان "أهم حدث في حياتي" ج٤- ص ٤٠٠).
"الطناحي" بعد ذلك يروي مأساة "مَيّ" من الصفحة (١٤-١٦) بحيث لا يتردد في ملء الفراغات بحكايات مثيرة، وعبارات تؤجج عواطف القراء، ثم ينسى أنه قد أخبرنا بما دار بينهما في أحد اللقاءات، فيعيد تفاصيل اللقاء ثانيةً مسودًا به صفحة كاملة من كتاب في حجم كف اليد!
لن أطيل على القارئ، فالكتاب متوفر، ولن يجد القارئ عناءً في اقتنائه إلكترونيا أو ورقيًا وهذا هو المؤسف في الأمر، لأن مأساة "مي" المسكينة لن تنتهي أبدًا طالما هذه الكتابات ذائعة الصيت، والاستشهاد بها لا يصطدم بحافة جبل شاهق كي يُدفن في هاويته السحيقة!
نمر سريعًا لنصل إلى القسم الثاني "أدباء أحبوا مَيّ" مع الأخذ في الاعتبار أن القسم الأول لا تكاد تُطْوى صفحاته دون ملاحظة أو خطأ! وفي القسم الثاني يصبح الأستاذ "الطناحي" أكثر حريةً، فيخبرنا أن الأستاذ "العقاد" أفضى إليه بمكنون قلبه قائلًا: "أحببت في حياتي مرتين: "أحببت سارة وهذا ليس اسمها الحقيقي وإنما هو اسمها المستعار، أطلقته عليها في قصتي المعروفة بهذا الاسم، وأحببت "ماري زيادة" الأديبة المعروفة باسم "مي". كانت الأولى مثالًا للأنوثة الدافقة الناعمة الرقيقة، لا يشغل رأسها إلا الاهتمام بجمالها وأنوثتها ولكنها كانت إلى ذلك مثقفة. وكانت الثانية وهي "مَيّ" مثقفة قوية الحجة تناقش وتهتم بحرية المرأة... كلتاهما جميلة، ولكن الجمال في "مَيّ" كالحصن الذي يحيط به الخندق، أما الجمال في سارة" فكالبستان الذي يحيط به جدول من الماء النمير..." ثم يقول "الطناحي" بعد ذلك: "ذلك ما سمعته من العقاد في حديثٍ معه. (المصدر- ص٥٣)
في رواية "سارة" كل ما سبق، وقد علِمَ السرَ كل مَن قرأ الرواية، وليس كما أخبرنا "الطناحي" سرًا خصه به العقاد في حديث خاص كأنها "فضفضة" صديق حميم! كذلك فعل الشاعر "كامل الشناوي" حين وضع اسم "مَيّ" مكان "هند" ثم قال إنه استطاع نزع السر من قلب "العقاد"!
يستمر الأستاذ "الطناحي" في وصف العلاقة بين "العقاد" والآنسة "مَيّ" فيقول:
"وهو كان أصغر رواد هذا الصالون سنًا، حين كان يؤمه في سنتي ١٩١٥، ١٩١٦ وكانت سنه لا تزيد عن سبعة وعشرين سنة، وكانت سنها لا تجاوز الحادية والعشرين..."(المصدر- ص٥٤)
كأن الطناحي يريد خلق صورة جديدة يبدو خلالها الرجل المحب أكبر سنًا من محبوبته، كما اعتاد الناس في بلادنا، فقام "بتسنينهما" من جديد! فجعل "مَيّ" تصغره بست سنوات، على عكس الحقيقة، فهي مولودة عام ١٨٨٦والعقاد وُلِدَ عام ١٨٨٩، فهي تكبره بثلاث سنوات، والتقيا عام ١٩٢٠، عندما دعته لحضور ندوة الثلاثاء في بيتها!
يتناول "الطناحي" بعد ذلك جانب الرسائل بين "العقاد ومي" فيصفها برسائل "الحب والهُيام" وسوف نضعها أمام القراء فيستنبطون منها الصفة الصحيحة للعلاقة التي جمعت الرصين "عباس محمود العقاد" بالنابغة "مي زيادة".
رسالة بعث بها العقاد إلى "مَيّ" من أسوان بادئًا رسالته بـ "آنستي الأديبة اللوذعية مي زيادة" ثم وصف لها "قصر الملا" بأطلالِه وأعمدته والبيئة التي تحيط به! فردت "مَيّ" بقصيدة لـ "أبي العلاء المعري" ثم حدثته عن صالونها وأن الأستاذ "نجيب هواويني" تغيب عنه الأسبوع الماضي! وفي رسالة أخرى من "مَيّ" ناقشت العقاد في نقده كتاب "المواكب" لجبران خليل جبران، فيرد العقاد برسالة قال فيها: "آنستي العزيزة مَيّ.. وصلني خطابك الرقيق وكم كنت أود أن أسمع أو أقرأ النقاط التي وافقتِ عليها أو عارضتها في مقالي عن المواكب لجبران، وأنا أعرف أن له مكانة في نفسك......". فبعثت إليه "مَيّ" برسالة يصفها الأستاذ "الطناحي" بأنها مستعجلة! تقول فيها: "الأستاذ الجليل العقاد...."!
وتحت عنوان "سهام الحب" يقول: "مضت مدة بلا رسائل بين الأستاذ "العقاد" والآنسة "مَيّ"... وبينما هو جالس في مكتبه هبطت عليه رسالة طويلة، تصف فيها رحلتها إلى روما، وتحدثه عن أهم شيء في نظره وهو المكتبات.... ثم كتبتْ وصفًا لينابيع روما في أربع صفحات منفصلة عن الرسالة، جعلت عنوانه "نشيد إلى ينابيع روما" أودعت فيها عواطفها الشابة المشوبة التي تنم عن الحب المكبوت، وثورة القلب المحروم، وقد قالت في هذا النشيد الذي لم تنشره في كتاب من كتبها: "... تفيضين من كل صوب ينابيع المدينة الخالدة، وتهزجين من كل ناحية، وتنادين بالنابه والخملان على السواء... على مقربة من المعابد والبِيَعْ والمَحَاريب.... على ضفاف نهر التيبر الأشهب.... عَمَدت يد الفنان إلى مقالع الرخام الملون ومناجم المرمر الشفاف.... كم ذا طَلبَ عطشي الارتواء من المثول إليكِ يا عيون روما.... كم ذا تمنيت أوضاع تماثيلك وملامحها... وما فزت بفهم جديد إلا كانت الخاطرة المستحدثة وقودًا لعذاب فكري..." (المصدر ص ٥٧-٥٨).
أولًا.. هذا المقال الوصفي الفذ تم نشره في مجلة الهلال (ج٣٤ عدد يناير ١٩٢٦ ص ٣٤٣-٣٤٦) أي بعد عودتها مباشرة من رحلتي روما وألمانيا! ثانيًا.. تم نشر المقال في كتاب "كلمات وإشارات" مؤسسة نوفل- ص ٤١-٤٥). ثالثًا.. كيف استدل الأستاذ "الطناحي" بأن "مَيّ" أرسلت بالورقات الأربع منفصلات عن رسالتها؟ ثم كيف طاوعه القلم في محاولة إيهام القارئ بأن وصف "مَيّ" لينابيع روما والمعابد والبِيَع والمحاريب ونهر التيبر والرخام والمرمر والتماثيل على أنها عواطف "مَيّ" الشابة المشوبة التي تنم عن الحب المكبوت وثورة القلب المحروم؟!
يستكمل "الطناحي" شارحًا ما يتخيله من علاقة حب بين "العقاد ومَيّ" فيقول: "فحركت برسالتها في نفسه الشوق إليها، وحفزته إلى التعبير الصريح عما يضمره نحوها من شعور عميق وحب روحي صادق، فرد عليها بهذه الأبيات التي لم تنشر في ديوان
آل روما لكموا مني الولاء = وثناء عاطر بعد ثناء
وسلام كلما ضاء لنا طالع = الإصباح أو جَنَّ مساء
في حِماكم كعبة ترمِقها = مُهجٌ منا وآماقٍ ظماء
هذا قول "الطناحي" وأُنَبئُ القارئ بأن هذه القصيدة يضمها ديوان "وحي الأربعين" بعنوان "حُجاج وروما" (موقع هنداوي- ص ٦٣-٦٤) وتختلف كثيرًا عما أورده الأستاذ "الطناحي" الذي نبهنا أنها لم تُنشر في ديوان، كي يَقر في قلب القارئ أن "العقاد" -صديقه- قد اختصه بها دون سواه!
ربما القارئ الآن لم يعد في حاجة إلى رصد حياة "مَيّ" وآثارها بعينيّ الأستاذ "الطناحي"، وتأكد أنه جانبه الصواب والأمانة التاريخية حين تصدى للحديث عن هرمين شامخين في عالم الأدب!
نحن لا ننزع عنهما الصفة البشرية، والحق في الحب، لكننا لا نختلقه اختلاقًا! كما فعل غيرنا بعد أن بدأ كتابه بمقولة "مَيّ": "أتمنى أن يأتي بعد موتي مَن ينصفني.."! لقد كان الأستاذ "الطناحي" صديقًا للعقاد، الذي قدم له كتاب "الساعات الأخيرة"! ما أصعبهما مرارة وغصة حين تنكشف النفوس بعد الموت، يقول الأستاذ الكبير "عباس محمود العقاد" في مقدمته لكتاب صديقه "طاهر":
"من سطره الأول إلى سطره الأخير وفاء للشموس الغاربة، وذكرى للأيام الذاهبة...!"
ما زلت عند رأيي في كتاب "الذين أحبوا مي" للشاعر "كامل الشناوي" (١٩٠٨-١٩٦٥) في أنه يسيئ إليه قبل أن يسيئ لكاتبة من الطراز الأول، استطاعت أن تقود حركة التنوير والنهضة لأكثر من ربع قرن، وما زالت مؤلفاتها محل تقدير وتَهافُت من الشباب قبل كبار السن!
قد كان للكتاب نصيب الأسد فيما تناولتُ من قصص لا تتوافق مع الحقائق والتزام الصدق والموضوعية في الطرح في "سلسلة مَيّ والذين معها"، وأراه "كُتَيَّبًا" استغرق من كاتبه سُوَّيعات قليلة قبل أن يتحف القراء به!
لقد قسم الشاعر "الكُتَيَّب" إلى شطرين، الأول عن "مَيّ" وغرام الأدباء والشيوخ لها، والثاني عن المجاهدة الجزائرية "جميلة بوحيرد" عنوانه "اوبريت جميلة" ولا أجد تشابهًا بين "مَيّ وجميلة" إلا أنهما قد تحملتا مالا يتحمله بشر من ظلم البشر! وقد ظلم الأستاذ "كامل الشناوي" الآنسة "مَيّ" ظلمًا بينًا.
أول فقرة في "كُتَيَّبهِ" ذائع الصيت، وتحت عنوان "مَن هي؟" يقول: " وُلدتْ "مَيّ" في فلسطين عام ١٨٩٠، وعقب ولادتها انتقلت مع والديها إلى لبنان، فدخلت مدرسة راهبات، واتقنت الكتابة باللغة الفرنسية، وذاع صيتها الأدبي وهي في العشرين من عمرها، وصحبت أبويها إلى مصر قبيل الحرب العالمية الأولى...." (الذين أحبوا مي- دار المعارف- ط٢- ١٩٨٧- ص٧).
هل يصدق القارئ أن كل ما ورد في هذه الفقرة غير دقيق، والصحيح منها فقط هو "فلسطين" و"مدرسة راهبات" و"اللغة الفرنسية"!
نطوي صفحات الكُتَيَّب سريعًا حتى نصل إلى "الحب العاصف بينها وبين العقاد" فيقول "الشناوي":
"اتصلت بالأستاذ "العقاد" أسأله شيئًا من ذكرياته عن "مَيّ" فتكلم عن أدبها وذكائها وروحها، وتدينها، وطريقتها في التعبير والأداء، وحرصها على إتقان كل حرف تكتبه، وإجفالها الشديد من النقد!
قلت له: "إني لمحت من خلال دواوين شعره صورًا عديدة في .... وإذا لم يخنِ تكهني فإن اسم "هند" الذي ورد في أكثر من مقطوعة شعرية تفيض بالغزل والشوق والحنين ليس إلا اسمًا مستعارًا لـ "مَيّ" أطلق العقاد ضحكته المكبوته وقال: "أظن استنتاجك هذا صحيحًا"! قلت: "ولقد رأيت كل ملامح "مَيّ" في قصة سارة، إن "مَيّ" هي البطلة المنافسة لـ "سارة" لقد وصفتَ إحداهما فقلت إن حولها نهرًا يساعد على الوصول إليها، ووصفت الأخرى فقلت إن حولها نهرًا يمنع من الوصول إليها، إن "مَيّ" هي هذه الأخرى ولا شك! وأبدى العقاد دهشته من استنتاجي وقال: "لقد حاولت جهدي أن أكتم هذه الحقيقة عن أقرب الناس إليّ، وكان في عزمي أن أجهر بها يومًا ولكن بعد أن يصبح هوانا العفيف تاريخًا يجب أن يُسجل، وإن عندي من رسائل "مَيّ" إليّ وعندها من رسائلي إليها ما يصلح كتابًا يصور علاقتي بها، وهي علاقة قائمة على الحب المتبادل".... ورجعت إلى صديق العقاد، وكان يلازمه منذ ثلاثين عامًا بلا انقطاع، وسألته عما يعرفه عن علاقة العقاد بـ "مَيّ" فسرد لي تاريخًا طويلًا من الأزمات النفسية التي عاناها العقاد في حب "مَيّ" وقال أنه فهم من العقاد أن "مَيّ" تبادله حبًا بحب، وذكر لي الصديق أن العفة كانت علاقة مميزة لـ "مَيّ" الأديبة و"مَيّ" الأنثى، وهذه العفة أو الكبت هو الذي أورثها الجنون" (المصدر- ص ٢٢، ٢٣).
نكتفي بهذا، وندع الأستاذ "العقاد" يردُ على الأستاذ "كامل الشناوي" بنفسه:
"وقد كانت "الحشمة الصعيدية" لا تفارقني بحكم العرف الذي نشأت عليه، وكنت أشهد مجلس والدي في صباي فلا أسمع خبرًا من هذه الأخبار التي تدور على الحريم، وكل ما يتصل به من سر أو علانية، فإذا عرض اتفاقًا، فإنه يُعرض ليُصرف على الأثر، ولا يُعاد إليه... وكانت "مَيّ" رحمها الله، مولعة بالإلحاح عليّ في هذه الأحاديث، خاصةً وهي تنظر إلى تحرّجي من الخوض فيها نظر الحضري إلى الريفي "الخام" القادم من القرية صباح يومه..." (رجال عرفتهم -ص ١٥٣)
العقاد هنا يشعر بالخجل ويأنف من الخوض في الحياة الخاصة للأسر والعائلات من زواج وطلاق، وكانت "مَيّ" -مداعبة- تتعمد إحراجه لأنها تعلم خُلقه وخجله، فكيف يتناولها "العقاد" في رواية؟
و"مَيّ" التي خبرها العقاد جيدًا ليست أقل خجلًا منه، يقول العقاد: "وكنت أشفق عليها من فرط احتراسها وكلفتها فقلت لها مجترئًا على مصارحتها : "أنا على رأيك يا صديقتي في أن الناس لا يُؤمَنونْ، ولكنني لست على رأيك في نفع الحذر، وشدة الاحتراس، بل عندي أن عناء الاحتراس أضرّ من كل عناءٍ يصيبنا به ترك الحذر، وقلة المبالاة.
فلا تبالي، ولا تحترسي، وانطلقي في حياتك فذلك أخف الضررين". فقالت: "كأنك تعيد عليّ ما قاله الأستاذ داود بركات!" قلت: "وماذا قال؟" فقصت عليّ حديثًا جرى بينهما في السفينة وهما عائدان من أوروبا، وكانت تقام في السفينة سهرة راقصة والليل رائقٍ، والبحر ساجٍ، والطرب غالب على المسافرين. ورآها الأستاذ "داود" منزوية في ركن من الأركان كأنها تأبي أن تشاركهم، أو تشارك الطبيعة في فرصة صفاء، فناداها كالزاجر المندّد: "ما بالك تعكفين على نفسك عكوف العجائز؟ تعالي وارقصي واطربي مع هؤلاء الفتيات والفتيان، فمنهم مَن هو أكبر منكِ، وكلهم يسبقونك في مجال السرور". قلتُ لمي: "وماذا أجبتهِ؟" قالت: "تضايقت منه!" ثم أومأت إليّ مُنذِرةً، باسمةً وهي تقتضبُ الحديث:
"فإن أردتَ أن أتضايق منك فعُد إلى نصيحتك ونصيحته.. وإياك أن تعود!" (الرسالة- عدد ٤٣٥- ٣/١١/١٩٤١)
هل هذه امرأة لعوب؟ وهل امرأة يخشاها الكاتب الجبار ننتزعها من الأدب انتزاعًا ونسقطها في أحضان الرجال؟ لقد شعر العقاد أنه "تجرأ" عندما صارحها بأنه يخالفها في التزامها وانعزالها عن الناس!
أما "مَيّ" فتقول: "على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك، وما أشواك المرأة لا التكتم والحشمة والطهارة.. كما قال ذلك القِس" (سوانح فتاة- نوفل-ط٣- ص٧٥)..
"عباس محمود العقاد" كما ذكر لنا في كتابه "أنا" (دار التقوى- ط٢٠١٦) وهو كتاب قلما نجد له شبيهًا في عنوانه ومدلولاته العظيمة، يخبرنا فيه أنه وُلد في أسوان، يوم ٢٨/٦/١٨٨٩ وجده كان يعمل بصناعة الحرير في دمياط، ثم انتقل إلى المحلة الكبرى فأطلق الناس عليه اسم "العقاد" أي الذي "يعقد" الحرير.
من المحلة انتقل الأبناء إلى أسوان بلقبهم. أما والدته فهي كردية، جاءت إلى مصر مع أسرتها من "ديار بكر" واستقرت في أسوان وتزوجت هناك! يقول العقاد: "تدرجت في المدارس، ثم جئت إلى القاهرة للكشف الطبي عندما التحقت بإحدى وظائف الحكومة عام ١٩٠٤، وكان عمري إذ ذاك ١٥ سنة".
الأستاذ العقاد عصامي في تعليمه وثقافته، حصل على الشهادة الابتدائية، ثم اتخذ القراءة سبيلًا للتعلم والرقي، وكان له نظرة خاصة في المرأة فهي عنده: "تُحب لتهبَ وتستسلم، وتغمض عينيها في نشوة الثقة والاعتماد الطيع الأمين، فليس للمرأة في قرارة نفسها سعادة أكبر من سعادة الطاعة".
أما "مَيّ" فهي الفتاة الوقورة المحافظة ابنه الأديرة وربيبة الراهبات، ثقافتها موسوعية، تحترم دينها وجسدها وقلبها وعقلها، لا تلج مواضع السوء والريبة، مسيحية متدينة، حافظت على صلوات الآحاد منذ طفولتها، التحقت في السادسة بدير الراهبات اليوسفيات في الناصرة، ثم سافرت الثالثة عشر إلى لبنان لاستكمال دراستها في دير "راهبات الزيارة" التابعة لمدرسة عينطورة، ثم قضت سنة دراسية في مدرسة "الراهبات اللعازارات" بعدها عادت إلى الناصرة في الثامنة عشر، ثم هاجرت مع والديها إلى مصر عام ١٩٠٧.
ذهبت "مَيّ" إلى بيت المقدس للحج بمفردها ثلاث مرات، الأولى عام ١٩٢٣، والثانية عام ١٩٢٤ والثالثة عام ١٩٢٥. وثم حظيت بشرف لقاء بابا الفاتيكان "بيوس الحادي عشر" أثناء زيارتها لروما عام ١٩٢٥ ومنحها وسامًا بابويًا تقديرًا لخدماتها الثقافية ونبوغها (مأساة النبوغ- سلمى الحفار الكزبري- ج١ ص٣٣٩).
أعجب ما في الأمر أن امرأة بهذا السمو والثقافة، لم يلتفت لنبوغها أو يتأمل تراثها وأدبها العظيم ونقله إلى أبناء الأمة إلا ما ندر من الكتاب، بينما تناولها الغالب الأعم كما تناولها كامل الشناوي والطناحي وعامر العقاد وسلامة موسى وأنيس الدغيدي وغيرهم بما لا يتسع المقال لذكرهم!
تقول "مَيّ زيادة": " يجب أن يكون الوسط راقيًا جدًا ليُقَدّر الفرد الراقي وإلا أهمَلَهُ، وعدَّ نبوغه جنونًا، ورأى في توجعه من التقهقر والانحطاط وقاحة وشرودًا." (مؤسسة نوفل -كلمات وإشارات- ج١- ص ١١١)


علي حسن / مصر
أعلى