عبد الغني سلامة - القوة الرمزية، والقوة الناعمة، والعقوبات الأميركية

لم يعد خافياً على أي مراقب أن أميركا تستغل الحرب الروسية الأوكرانية بما يخدم أهدافها في التربع على عرش النظام الدولي، والهيمنة عليه، فالعقوبات التي فرضتها على روسيا من الواضح أنها ليست لدفع روسيا لإيقاف الحرب، ولا للدفاع عن أوكرانيا، إنما لإضعاف خصمها اللدود «روسيا»، وإقصائه عن الحلبة، من خلال تقويض قوته، ليس باستنزاف قدراته العسكرية وحسب؛ بل، والأهم، من خلال استهداف مقومات قوته الرمزية وقوته الناعمة، حيث أن العقوبات لم تكن اقتصادية، كما درجت العادة، إنما شملت الفنون، والآداب، والرياضة، والسينما، والإعلام.. وكل المكونات الحضارية والإنسانية الأخرى، بما يؤدي إلى شيطنة روسيا، وتشويه صورتها، والتركيز على أنها نظام أوليغارشي وقمعي.
وفي حقيقة الأمر، مثل هذا الاستهداف مارسته أميركا أيام الحرب الباردة، حيث دأبت على تقديم نموذج الحضارة الغربية الرأسمالية بصورتها المثالية، مع دعاية متعمدة لإبراز الجوانب الترفيهية والاستهلاكية والهوليودية، وحرية الفرد.. في مقابل النموذج الاشتراكي؛ حيث الفقر، والطوابير، وشح المواد، والقمع، والكبت.
اليوم، لم تعد روسيا اشتراكية، بل هي دولة نيوليبرالية، لذا أخذ الصراع على «النموذج الأفضل» صوراً وتعابير مختلفة، استهدفت أميركا هذه المرة كل ما يمت بصلة للنموذج الروسي الحضاري، حتى وصل الأمر إلى الشطرنج، بل وحظر مشاركة القطط الروسية في مسابقات للحيوانات الأليفة!
اليوم، لم يعد صراع الدول عسكرياً وحسب، ومع أهمية الجانب الاقتصادي والتجاري، إلا أن عناصر أخرى دخلت الحلبة، ونافست بأهميتها السلاح، والاقتصاد، وحتى التكنولوجيا.. ذلك ما يُعرف بالقوة الناعمة، والقوة الرمزية.
بالنسبة «للقوة الناعمة»، فقد تعددت تعريفاتها، لكن أكثرها يحصرها في الموارد الثقافية والسياحية ذات الطابع الترفيهي، أو في الفكر والأدب والفنون والسينما، وأحياناً الأدوات والتفاعلات ذات الطبيعة التعاونية، مثل منظمات التعاون الدولي، واستضافة متدربين، وتنظيم معارض ومؤتمرات ومسابقات في شتى الحقول، وأيضا الأدوات الاقتصادية، كالقروض والهبات، وأحياناً القوة العسكرية في صورتها غير الصراعية العنيفة والمباشرة، مثل المعونات العسكرية وبرامج التدريب والمناورات المشتركة.
ويَجمع مفهوم القوة الناعمة بين التعقيد والبساطة، والأبعاد المعنوية والمادية، والطابعين الأكاديمي والعملي التطبيقي، والسياسي والاجتماعي. ونظراً لطبيعته المزدوجة فهو مفهوم يستدعي الأبعاد الفكرية والثقافية وكل ما يتعلق بالهويات والتفاعلات الاجتماعية. (علي معوض، «مفهوم القوة الناعمة»، مكتبة الاسكندرية).
أما «القوة الرمزية؛ فبحسب بيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي، فإن السلطة أو القوة ليستا شيئا متموضعا في مكان ما، وإنما هما عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، تستهدف كل بنية العالم الاجتماعي، من أجل تعزيز آليات الهيمنة والسيطرة على المجتمعات المستهدَفة. وتشمل القوة الرمزية حقول اجتماعية مختلفة كاللغة، والدين، والفن، والأزياء، والرياضة، والأذواق الاستهلاكية والجمالية.
ويكون تأثير القوة الرمزية أعمق وأخطر، لأنها تستهدف أساساً البنية النفسية والذهنية للجمهور المستهدَف، بمعنى أنها تخاطب الوعي واللاوعي في آن معاً؛ فالقوة الرمزية تمارس فعلها العميق، وتخطط من أجل فرض وتحقيق الأهداف المرسومة، وإنتاج الأدوات والآليات والمعايير المناسبة والناجعة لتثبيت وخلق واقع إنساني واجتماعي وسياسي مرغوب فيه ومخطط له، بطريقة منظمة وفعالة، وغير مباشرة.
ولو أخذنا اللغة كمثال، سنجد كيف خططت بريطانيا قبل قرنين (ونجحت) في جعل لغتها الإنجليزية، اللغة الأولى في العالم.
أما أميركا، فقد فرضت وعمّمت نموذجها وثقافتها من خلال منتجاتها الاستهلاكية «المرغوبة» (الجينز، ماكدونالدز، ستاربكس، وعشرات الماركات التجارية الأخرى)، ومن خلال السينما، وصورة الأميركي البطل، الخارق.
ومع رواج مفهوم «القوة الناعمة» وانتشاره، امتدت محاولات تطبيقه إلى دول أخرى غير أميركا؛ مثل الصين واليابان وكوريا والهند وتركيا وإيران والدول الأوروبية.. كعلامة على الصعود العالمي والإقليمي لتلك القوى.. بما يدلل على صعودها «السلمي» وتعاظم نفوذها، باستخدام عناصر القوة الناعمة كموارد وآليات مكملة ومخففة للطابع الصراعي للصعود، وتقليل احتمالات الحروب، والأهم، إبراز قوة الدولة الصاعدة، وعولمة نموذجها.
ويمكن استعراض بعض الأمثلة، لو بدأنا بالصين، سنجد منتجاتها في كافة أسواق العالم، حتى لو كانت بمواصفات أقل جودة لبعضها (وهو نموذج خاص وذكي يلبي رغبات مختلف طبقات المستهلكين). وفي السياق ذاته سنجد المنتجات التركية الآخذة بالانتشار على نطاق عالمي (بمواصفات جودة أعلى، وهو نموذج خاص يعكس مستوى التصنيع والتكنولوجيا التركية). وإلى جانب الصناعات، تهتم تركيا بنشر اللغة والثقافة التركية من خلال مسلسلاتها التاريخية والدرامية.. تماما كما تفعل كوريا، التي لم تكتفِ بالصناعات التكنولوجية الذكية، فقد أخذت تهتم بمجال الميديا، وبدأت الأفلام الكورية تحصد جوائز عالمية، أما مسلسلاتها فقد صارت تنافس المسلسلات العالمية، والفِرق الغنائية باتت تحقق نسب مشاهدة تعد بالمليارات، وتتوفق على أشهر الفرق العالمية).
وفي مجال الميديا أيضاً، نشب صراع بين اليابان وأميركا منذ عقود خلت، حيث ركزت اليابان على ما يسمى «الإنيمي»، وأفلام الصور المتحركة في مقابل نموذج والت ديزني الأميركي.. فكلتا الدولتين تتصارعان على الاستحواذ على قلوب الأطفال من خلال تقديم كل طرف لحكاياته الشعبية، ونموذجه وثقافته الخاصة.
اليوم، الدول التي لا تمتلك عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية، باتت معنية بتقديم عناصر قوة أخرى، في مقدمتها السياحة، وإبراز الرموز التاريخية والروحية والثقافية والفنية.. وهي ساحة صراع حامية الوطيس.
للأسف، الدول العربية مغيّبة عن هذه الساحة الحيوية، رغم امتلاكها للكثير من عناصر القوة الناعمة، التي تعوض ضعفها العسكري، بل وتجعل منها طرفا فاعلا ومؤثرا في الساحة الدولية.. ربما كانت مصر الأكثر تأهيلا لممارسة هذا الدور على الصعيد الإقليمي، لديها النيل، وقناة السويس، وآثار مصر القديمة، وكوكبة من العلماء ورواد الفكر والثقافة والأدب، وعمالقة الفن والغناء.. ونحن في فلسطين، لدينا عدالة القضية، وقوتها الأخلاقية، والشرعية الدولية، ولدينا روايتنا الوطنية والثقافية والفلكلورية، ولدينا الأقصى، والمهد، والتاريخ، ومحمود درويش، وإدوارد سعيد، وإسماعيل شموط، وناجي العلي، وإرث القسام، وياسر عرفات وجورج حبش.. وشعب متمرس ومستعد للتضحية.



عبد الغني سلامة
2022-03-23




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى