أمل الكردفاني- العدالة الإنتقائية selective justice

تجتهد اوروبا وامريكا لمحاكمة بوتين على جرائم حرب على حد زعمهم.
قبل سنة تقريباً قدم معهد أوروبي فرصة اختيار مشروع بحثي عن تعزيز العدالة الجنائية الدولية، وذلك عبر تقديم خطة لموضوع مختار. بالفعل تقدمت بخطة عن محاكمات نورنبرج وطوكيو بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والاختلالات الإجرائية التي حدثت فيها بما جعلها أشبه بمحاكمات بدوافع سياسية ولا ترتبط بالعدالة. كنت أدرك أن هذا الموضوع سيتم رفضه وهذا ما حدث بالفعل، لأنه كان سيعتمد على دراسة دقيقة لتلك الأخطاء واستمرار ذلك الطابع الانتقائي حتى فيما تلا ذلك من محاكمات حتى اليوم.
وكنت أعتقد أن هذا بالفعل سيعزز العدالة الجنائية الدولية، حينما لا تكون عدالة انتقائية بل -كما قال كانط- العدالة من اجل العدالة ولا شيء غير العدالة.
لم اكن بريئاً كل البراءة، فالمسيطرون على مؤسسات الغرب (التمكين) لا يحبون سماع هذه الأشياء كثيراً. فهم مثل باقي أنظمة العالم لا تحب أن تسمع إلا ما يروق لها.
العدالة الانتقائية مورست في السودان منذ الاستقلال، وآخرها عدالة قحط التي أثارت غباراً من الفوضى. ولكنها كانت ايضاً تقليداً كرسته الحركة الإسلامية في بواكير استلامها للسلطة (لم يتغير شيء) فالتاريخ يعيد نفسه عند القطعان.
المهم، ظلت مؤسسات العدالة في السودان تمارس دورها إما في حماية النظام الذي أنشاها أو في الإنتقام ممن يقف ضد نظامها هذا. فمحمود محمد طه ليس بدعة في أروقة العدالة الانتقائية في السودان ولا من تم اعدامهم في عهد البشير، ومن نجوا من الاعدام في عهد قحط الكئيب.
لقد طعن الكثيرون في الشريعة الإسلامية وقالوا بأنها تطبق عقوبات وحشية كقطع اليد والرجم.. فرددت عليهم -ولا أقصد الدفاع عن الشريعة الإسلامية بل الدفاع عن العدالة المحضة- قلت لهم بأن العقوبات كلها وحشية، قد يكون قطع اليد أخف من الزج بإنسان في السجن لسنوات حيث تفقد فيها الأسرة عائلها، لكن هذا ليس هو المهم. فالمهم -وهو أهم ما يجعل القانون عادلاً مهما كانت عقوباته بشعة- هو أن يطبق على الجميع، حكاماً ومحكومين، اي مبدأ المساواة أمام القانون.
فإذا كنت أنا كسارق ستقطع يدي، والوزير الفاسد ستقطع يده فأنا اقبل بهذه العقوبة، أو كما قال مونتسيكيو: إن القانون يجب أن يكون كالموت.. لا يستثني أحداً..
لكن القانون في السودان يستثني دائماً من يضعونه، وهنا يكون الظلم وليست بشاعة العقوبة. إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد.
كانت هذه العدالة الانتقائية في عهد الكيزان وفي عهد قحط والآن في عهد البرهان ومن قبلها في عهد الصادق المهدي ونميري وعبود حتى عنبر جودة. إنها لعنة هذا الشعب الظالم التي يلقيها كتعويذة سوداء على نفسه وضد نفسه باستمرار.
إن العدالة الإنتقائية هي أشد أنواع الظلم. ولذلك فإن الله تعالى أول ما حرم الظلم (على نفسه) لأنه لو استثنى نفسه (رغم أنه هو الله) لما كان بإمكانه أن يدعو عدالته عدالة.
فالمساواة أمام القانون تعني اللا إنتقائية وهي قمة العدالة، وهي الجوهر المفقود في السودان وفي أكثر بلاد العالم تحضراً..
(يتبع)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى