محجوب حامد آدم - خُسران!

تجمهر جُل أهل القرية حول دار الشيخ أحمد ، يحمدلون له السلامة بقدوم إبنه إبراهيم بعد وحشة دامت ثلاثة عقود متتالية في غفلته الوئيدة، يدفعهم الفضول لرؤيتِه ومعرفة غُرُوبه الطويل ، فقد تَعوْد أهل القرية في كل مرة أن يسمعوا رواية جديدة تفسر ذلك الغياب.
خرج إبراهيم من القرية ذات صباح مطير، يَحمِل حقيبة صغيرة، ومُثقل بأحلام كبيرة تفوق هطول ذلك الصباح الجميل، مُوشحاً بدعوات أمه، وعبق تلك الحضرة الصوفية التي أقامها والده إنطلاقاً من معتقداته التي تؤمن بأن مثل هذه النفحات سبب لحضور القلب مع الله، فقد دعا شيخ خلوة تحفيظ القرآن الكريم ومريديه لختم المصحف الشريف في ذلك النهار القائظ على مائدة مستديرة في الأرض، يتوسطها ذلك الكبش السمين المطهي على طريقة "التندور"وهو يضمخ أرجاء المكان بروائحه المتصاعدة إلى أعلى معجوناً بأصوات التلاوة الجماعية، وأصعِدَة دخان البخور العدني تشكل سحابة ملونة بالتقوى والورع.
أغلب المُتجمهرون لا يعرفون إبراهيم في واقع الأمر، تلك ثلاثون عجافاً مضت، شكلت طفولتهم البعيدة، حفر عليهم الزمن أخاديد من العمر الموزع في أشكالهم وأحلامهم البسيطة يسمعون عنه تلك الحكايات المريبة التي تمنع عودته إلي القرية .
الشيخ أحمد الذي إحدودب بفعل السنين وجُورِها تنهمرالدموع عن مقلتيه في تهاطل كما ذلك الصباح السحيق، وهو يحتضن ابنه الذي يقف الآن على تخوم الخمسين بسنتين إثنتين فقط، بذات الطريقة نفسها وهو يودعه يافعاً، معولاً على حماسه الذي سيعيد البستان إلى سابق عهده شامخاُ يعطي بسخاء .
يبحلق إبراهيم في سقف الغرفة وهو يواري دمعتين مكابرتين بطرف عمامته، الأصوات تعلو وتهبط في المكان:
- حمدا لله على السلامة.
الدار يعج بالزوار ، يتحول إلى مزار تكثُر فيه الحلقات والأحاديث البعض حسب أعمارهم يتحلقون حول بعضهم، والكل لديه تفسير يختلف عن الآخر عن سبب عودة إبراهيم، الغير متوقعة.
يقتحم عمه إدريس ضجيج المكان وهو يسحب كبشا كبيراً، يرديه وسط الدار وهو يدوس على وسطه بإحدي رجليه، بينما يده اليمني تستل خنجراً عن حزام تحت جلبابه يطوق خصره وهو يردد بصوته الأجش بذلك الزهو الكامن في بداوته:
- الله أكبر ...
ثم يمسح ما تبقي من دم في طرفي الخنجر على وبر الكبش، ثم يعيده إلى خصره وهو يخطو نحو الغرفة ليعانق ابن أخيه بذلك الشوق العتيد.
لم يتمالك إبراهيم من السيطرة على نفسه، بل أجهش بالبكاء وهو يعانق عمه وقد خيم فضاء الغرفة صمت رهيب.
يوشوش أحدهم على أذن صديقه:
- ماذا سيفعل لو علم بوفاة أمه..؟
لم ينتظر جواباً، بل أردف قائلاً:
- نعل الله الغربة وشياطينها ، الله يكون في عونه.
يتكاثف البخار أعلى القدر وهو يغلي بفعل لحم الكبش، شباب القرية يتوزعون الأدوار في ترتيب الحاضرين وتوزيع الأكل، إبراهيم يرنو إلى بخارالقدر من مكانه وهو يرتّب السنوات الطويلة الضائعة بين الكبشين.
ليالٍ ممتدة كما البيوت المتراصة أسفل الجبل التي تشكل هيئة القرية، المزارع الموزعة على جنبات الطريق، هناك على طرف النهر الموسمي، يتوسط بستانهم جبلين صغيرين، يقف على أحدهما وهو ينظر إلى البئر المتهالكة والموتور المعطل وتلك الشجيرات التي يصفر لونها بفعل العطش، الأشجار الباسقة ما عادت ترمي ثمارها كسابق عهدها، ولم يعد البستان كما كان يبدو من على الجبل مخضراً، بهيّاً وأزهي من طاووس.
الشيخ أحمد يكفهر وجهه الوضاء وتنكمش قامته المديدة، يخاف غدر الزمن، وأن تهتز هيبته ووقاره ورزانته أمام أهل قريته.
ألقم إبراهيم غيابة الجُبّ حجراً كبيراً، ثم عاد إلى البيت مُلطخاً بقرار إغترابه حتي يعيد لوالده ذلك التوازن الذي يخاف أن يفقده.
- سأسافر يا أبتي!.
- عليك بمواصلة دراستك وأنا سوف أهتم بأمر البستان .
- يجب أن أفعل شيئا من أجلك يا أبي ، ها أنت تموت واقفاً كالأشجار .
يفيق إبراهيم من ذُهوله على صوت ينادي:
- هيا الغداء جاهز.
في وسط الدار يتحلق إبراهيم مع عدد من أقربائه حول مائدة الغداء، لم يذق في ذلك النهار طَعَماً للأكل، بل كان ينظر إليهم مُتوجساً، يُجهد ذاكرته التي لا تعرفهم.
أفاق إبراهيم على حزن أمه، كان فجراً باكياً أمرّ من العلقم، رسم على وجهه تجاعيد نبتت على محياه وصدق فيه القول السائد: “يظل الرجل طفلاً حتي تموت أمه، فإذا ماتت شاخ فجأة“.
شاخ إبراهيم وشاخت أحلامه والبستان الذي خرج من أجل إعماره وها هو يقف حزيناً، محاصراً بأعمامه وأخواله وغيرهم من الأهل الذين يصعُب عليه معرِفتهم، يضِيع صوته الواهن الذي كان أشجي من حمامة بين ضجيجهم .
باغته أحد أخواله:
ما كنت محتاجاً لغياب طويل كهذا ، ماذا جنيت الآن من غربتك، ما جدوي كل الفلوس التي كنت تبعثها، أو التي إدخرتها، هل ستعيد لنا أمك؟!
قاطعه أحدهم:
- لا تكن أغشم من السيل، ليس الوقت مناسباً لهذا الكلام، أرجوك نتحدث حول هذه المواضيع في وقت لاحق ..؟
يعيد حديثه بحنق:
- ليس هناك ما يستحق التأجيل، هذا عاق وقاطع رحم، هو نفسه لم يستح.. و إلّا لما انبرى عن الناس هكذا كالموتي.
ثم يواصل وهو يوجه حديثه لإبراهيم:
- يا أبني العمر هو الشئ الوحيد الذي كلما زاد نقص، والدنيا ليس لها قيمة من غير رضي الوالدين ومحبة الناس، ها أنت تعود من بلد عشت فيه غريباً، سوف تعيش غريباً أيضاً، لم تعد القرية كما تركتها، لعل تكتشف ذلك بنفسك حين تحاصرك ثلاثة عقود مضت لا تحمل فيها ذاكرة مشتركة بيننا.
يتدخل الشيخ أحمد:
- لا تفكر في المفقود حتى لا تفقد الموجود، للغائب بدل العذر ألف عذر، بارك الله فيكم ولا قيمة للإنسان بلا أهله، وإذا إختفى عني إبني فهنا حولي ألف إبراهيم، كانوا سندي وعوني، وهذه نعمة الأهل التي أوصانا بها الرسول عليه السلام .
يرد الجميع بصوت كورالي :
- عليه أفضل الصلاة والسلام
عليه أفضل الصلاة والسلام
يأخذ الحديث دروب أخرى، بينما إبراهيم في صمته يحُوم حوله طيف أمه، يأخذه الصوت بعيداً نحو الغروب وهى تحكي له أحاجي القرية القديمة، ترتشف قهوتها أمام الكوخ الكبير والقمر يوزع ذلك الضوء الباهر على التلال في خطوط متوازية فتبدو كأنها جداول تأخذ الماء نحو الحقول، وهو يتوسد حُضن أمه وفمها مكتنز بالحكايا ومطرز بأحبار القمر، ثم يصحو على صوت أبيه بُعيْد إيابه من البستان مُدوزناً صوته بإيقاع حوافر حصانه الأبيض الجميل .
يخرج فجأة عن صمته وهو يقول:
- خذوني إلي قبر أمي!
بصُحبة عمه إدريس وصل إلى مقابر القرية، ما أن دله على المكان الذي ترقد فيه أمه حتي جثا على ركبتيه باكياً، يهذي بكلماتٍ غير مفهومة، إبتعد عنه عمه وقد خنقته العبرة وهو يترحم بالدعاء على الموتى ويسوى بعض الحجارة المتناثرة في مكان واحد
أخده عنوة عن المكان وهو يقول:
- إدعو لها بالرحمة والمغفرة، فلا شيء ينفعها غير الدعاء.
تسربل حزنه وهو يسير على ساقين ثقيلتين تصارع وحل الذكريات تجر خلفها كتل من الأحزان، تفيض وتنحسر في خلجات النفس كلما أخذته إلى ذلك الصباح وهي تُقبّله بعينين دامعتين، وصوت متحشرج، متبتل في زهده بالدعاء، وعن كيف وصل بهذه الصعوبة إلي مدينة كرن تاركاً خلفه قريته الوادعة تحت الجبل وهي تُحدق في نهر عنسبا الموسمي.
على متن أوتوبيس "حجي حسن" وصل إبراهيم إلي أسمرا، ومنها إلي مصوع ، كانت دهشته تتواثب بالأفراح وهو يري البحر الأحمر لأول مرة في حياته، قبل أن تأخذه البحار والمحيطات في تلابيبها لاحقاً
مكث يومين في مدينة مصوع مأخوذاً ببحرها وشواطئها الخلابة، زار مسجد الصحابة في جزيرة رأس مدر وقد حكى له المشرف على حراسة المسجد بأنه:
" أول مسجد بني في صدر الإسلام عام 615 م بعد أن وطأت أرجل الصحابة أرض الحبشة"
من مصوع إستغل إبراهيم واحدة من سفن الملاحة البحرية إلي جدة ، التي مكث بها زهاء عشرة سنوات ، عمل خلالها في الكثير من الأعمال المختلفة، كان حريصاً لجمع كل ما كسب من مال وإرساله لوالده، إلى أن إهتدي عن طريق أحد أصدقائه إلى مغادرة جدة، وإختفي تحت سماوات متعددة، من حينها لا أحد يعرف له سبيلاً، حتي ظهر فجأة في القرية بهيئته الخمسينية التي يخفى بين أيامها ولياليها الكثير من الأسرار التي لم تسرد بعد .
أصبح قدوم إبراهيم حديث القرية ، غيابه الطويل سر ذلك اللغط المثار حوله، فقد إعتاد أهل القرية العيش في كنف خيرها، يشدهم الإنتماء إلى المكان أكثر من أي شيء مهما كانت المغريات، يظل الإرتباط بالأرض وإنسانها كٌنه لايعرف حقيقته أحد وعشق لا يحتمل التأويل، بهذه البساطة إستنكر أهل القرية ما فعله إبراهيم بنفسه وأهله وأرحامه.
كان إسبوعاً لم يخل مجلس أو إجتماع إلّا وكان يشغل حيزاً كبيرا فيه ، حتي خطيب مسجد القرية أفرد خطبة الجمعة لصلة الأرحام والمحاسن المترتبة عليها .
يجلس إبراهيم في المسجد بالقرب من والده يشده المكان إلي طفولته وهومتلصصاً للوصول إلي المصعد المؤدي إلي المئذنة قبل أن يشعر به أحد كل يوم جمعة ، ثم يلوح بيديه إلي أقرانه من ذلك العلو الشاهق بذات الخبث الطفولي المليح . تفر الإبتسامة من بين شفتيه إذ يتسلل إلي مسمعه قول الخطيب وهو يقول :
- إن من أعظم سبل الوفاء بحق صلة الرحم الدلالة على الطاعات بالنصح المبذول بالحكمة والموعظة الحسنة، لذا فلنحرص على زيارة الأرحام وإغتنام الفرص لتحقيق ذلك، ومن لم يلتزم بصلة الرحم ويتمُها على أفضل وجه يكون قد وصل إلي درجة عالية من الإمتثال إلي أوامر الله، وإرتقي في الفضل والخير، ومن إمتنع عن وصل رحمه فقد خسر الكثير، وفاته فضل عظيم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "الرَحمُ معلَقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله " رواه مسلم . "
شعر كأنما سهم شق فؤاده، وأن خطبة نهار هذه الجمعة تعنيه هو أكثر من غيره.
بعد الإنتهاء من الصلاة خرج من المسجد متأبطاً ذراع أبيه، عدد كبير من الناس يلتفون حولهما، تتكاثف أصواتهم وتخبو بذلك القدر من العطف والجفاء :
- حمدا لله على السلامة
بينما هو يصارع تلك العاصفة التي لفته بالذكريات و في أعماقه تتناسل عشرات الأسئلة العصيّة!
القاهرة
6 / مايو 2021
أعلى