د. أمين الزاوي - أربع رسائل في صندوق بريد مشمّع

كلّما فكّرت في المكانة الاجتماعية والثقافية والسياسيّة التي تتموضع فيها مفاهيم التعدّد والهويّة واللّغة والدّين في الجزائر والعالم العربي اليوم يُصيبني شيء من الرّعب والخوف، نحن فعلاً نفتخر بتعددنا اللّغوي في الجزائر إذ كنّا وما نزال نحلّق بين أربع لغات على الأقل: العربية الجزائرية (لغة أمّي) واللّغة البربرية (لغة الجزائريين) والعربية الفصحى (لغة المدرسة وغنيمة الإسلام) والفرنسية (لغة نتداولها في اليومي وغنيمة حرب التّحرير).

نحن كائنات تاريخية بأربع لغات، نملك شمسا جميلة وأرضا تمتد إلى ما يعادل أربع مرّات مساحة فرنسا، إنّه أكبر بلد إفريقي يحوز على أطيب التمور وأجود الخمور ولكنّنا نعيش قلقا وفقرًا! ثمّة ما يحيّر. أن تكون ابن أو ابن الحفيد الأدبي واللّغوي لكاتب ياسين (صاحب نجمة) أو للشيخ محند أومحند (أمقران الشعراء: أمير شعراء القبائل) أو لمفدي زكرياء (شاعر النشيد الوطني الذي توفي في المنفى) أو لعبد الله بن كريو (زعيم الشعر الشعبي) فهو هديّة من السماء وفخر تاريخي وثقافي. من وجهة نظر لغوية فنحن الشعب المختار، بحوزتنا كلّ ما نحتاج إليه وربّما أكثر، نملك لغة ثدي الأم في الفم ولغة الجنّة في القلب ولغة الحلم الجزائري في الروايات البديعة.

اسمحوا لي أن أقول لكم بأنّني خائف.

نعم، هذا الغني الذي يشبهني خائف.

كل الأشياء التي تحيطني تستوقفني: هل ثمّة نزاع أم تعايش خفيّ بين هذه الجواهر اللّسانية واللّغويّة التي تشكّل كنزًا لا يقدّر بثمن في هذا البلد؟

كل ما يحيط بي يستوقفني بقوّة.

الرّسالة الأولى: إلى الشّاعر الشّيخ محند أومحند (1840-1905): أسڤاز أومربوح 2964

ها أنا أستيقظ بعد خمسين عاما من الاستقلال وفي كلّ صباح أرى من جديد المشاهد ذاتها للكابوس نفسه. هكذا يسألني الشيخ محند أومحند: كيف حال الشّعر الأمازيغي؟ أتلمّس لغتي وأرد على الشيخ: أنا حفيدك ولكن ليس لي سبيل لفهم كلامك، لقد قطعوا عنّي لغة حليب الأم، تلك اللّغة التي اهتزّت لها كلماتك وأبياتك التي احتفت بالحبّ والنّساء والحشيش والسّفر والتشرّد، اللّغة التي حمدت بها الله وأثنيت بها على رسوله، هذه اللّغة لا تملك أبجديّة موحّدة ومتّفق عليها. إنّها تمشي حافية القدمين، البعض يريد أن يكتبها من الشّمال إلى اليمين، والبعض الآخر من اليمين إلى الشّمال، وهناك أيضا من يريد أن يكتبها من الأعلى إلى الأسفل. ثمّة من لا يهتم بها وقد يغتصبها وثمّة من يتاجر بها سياسيا. أن تفكّر أو أن تعيد التّفكير أو حتى تطالب بلغتك أيّها العزيز الشيخ محند أومحند … يا كبير الشعراء: «نحن لسنا أمام مشكل عرقي وإنّما أمام مشكل ثقافي وسياسي والمطالبة باللّغة لا بدّ أن ترتبط بالمطالبة بالديموقراطية»، الأمر محزن يا أمير الشعراء.


الرّسالة الثّانية: إلى كاتب ياسين (1929-1989): عندما يقوم الجزائري بجزأرة فرنسيّته

حتى وإن كانت المدرسة الجزائرية منكوبة فإن الجزائريّين قد تعلّموا اللّغة الفرنسيّة في مدرسة ما بعد الاستقلال أكثر ممّا تعلّموها في المرحلة الكولونيالية، لقد أعطت المدرسة الجزائريّة المنكوبة للّغة الفرنسية على مرّ خمسين عاما من الاستقلال حضورا لم تمنحه لها الفترة الكولونيالية على مدى قرن واثني وثلاثين عاما.

1962-2012: بعد نصف قرن ومنذ خمسين عاما والجزائريّون والجزائريّات يعيشون زيفا «سياسيا صحيحا»، فاللّغة الفرنسية في الخطاب السيّاسي لغة «أجنبيّة»، لغة عدوّ الأمس وبالنّسبة للبعض ما يزال عدوّ اليوم. لكن إذا عدنا إلى اليومي والمعيش الجزائري فإن كلّ الناس باختلاف طبقاتهم يتّفقون على أن الفرنسيّة لغة رهيفة، لغة الأحلام والأماني، وإذا ما اعتبرناها لغة سيّئة، فإن اجتماعات الوزراء تجرى بالفرنسيّة. لذلك، بعيدا عن كل الديماغوجيات، بعيدا عن كل الخطابات الإنتهازيّة، بعيدا عن الوطنيّة المزكومة وشديدة الانفعال، ها أنا أدعو إلى نقاش ثقافي هادئ بين النخبة الجزائريّة لتوضيح وضعية هذه اللّغة الأجنبية، لغة أجنبيّة لكنّها حيّة وتكبر كلّ يوم.

حضور اللّغة الفرنسيّة في الاستعمال اليومي في الفضاءات الثقافيّة والمخيال الفردي والجماعي، هذا الحضور يستدعي منّا تعريفا مغايرا لمفهوم «الأجنبي» أو «الغريب»، فالمكانة الخاصّة للّغة الفرنسيّة في الجزائر على المستوى الشعبي والسياسي والمؤسّساتي تستوقفنا بوصفنا نخبة لنقدّم إجابة فكريّة وفلسفيّة للسؤال الآتي: ما الذي يعنيه «الغريب» في الوقت الرّاهن من وجهة نظر ابستيمولوجيّة/معرفيّة؟

إن شباب جزائر اليوم، هؤلاء الذين لم تطأ أقدامهم يوما بلدا أجنبيّا، هؤلاء الذين ولدوا خلال فترة العشريّة الدمويّة يتحدّثون الفرنسيّة، فرنسيّة خاصّة بهم ذات شعريّة محليّة مدهشة. إنّهم يغتصبون اللّغة، وهو الإغتصاب الوحيد المسموح به والذي تتم ممارسته على لغة نحبّها حدّ الكره، فالجزائريّون يبدعون شيئا فشيئا لغة فرنسيّة تعبّر عن حالهم والتي يمكن أن نسمّيها «الفرنسيّة الجزائريّة».


الرّسالة الثّالثة: إلى أبي الحاج سي عبد الله (1918-2001): صباح الخير

في سنوات السبعينيات وبينما كنت برفقة أخي الأكبر في طريقنا إلى المدرسة الثّانوية لتسجيلي في السّنة الأولى، وقبل أن نخرج استوقف أبي أخي قائلا: «سجّله في القسم المعرّب»، وبعد أن غاب للحظات في صمته واصل ليقول: «إنّ مستقبل البلد حسب الإذاعة الوطنيّة سيكون بين أيدي المعرّبين». لم أفهم شيئا حينها ولكنّني حملت بداخلي كلمات أبي، وعلى مدى ثلاثين عاما إلى أن صادفت ذات يوم تلك العبارة النّبوءة لكاتب ياسين والتي ماتزال تحيل إلى الحاضر: «إذا كنّا عربا فلماذا يريدون تعريبنا وإذا لم نكن عربا فلم تعريبنا؟».

السياسة الموسميّة سمّمت فضاء التعايش بين اللّغات في الجزائر، الأمر يكاد يكون مسرحيّة تقوم فيها السّلطة بتوزيع اللّغات ما بين فئات المجتمع لتقوم كلّ فئة بلعب الدور الذي أسند إليها. على هذا النّحو تم وضع اللّغة العربيّة تحت تصرّف الفئة المتديّنة، وبداية من السنوات الأولى للاستقلال قام المخيال الجزائري بسجن العربيّة داخل رؤية دينيّة وتمّ طرد وإقصاء كلّ الكتابات العقلانية مثل نصوص أبي العلاء المعرّي (937-1057) أو نصوص ابن رشد (1126-1198) ونصوص أخرى كثيرة. هكذا صار المعرَّب (بفتح الرّاء) أو المعرِّب (بكسر الرّاء) ومن جيل لآخر حبيس أيديولوجيات حزب الإخوان المسلمين التي انتقلت إلى الجزائر عن طريق المعلّمين المصريّين المتعاونين، والوضع ما يزال نفسه إلى يومنا هذا.

لقد أدّى مسار التّعريب المرتبط بالدّين إلى ظهور الشعبويّة الدّينيّة واغتصاب اللّغة العربيّة، لغة «ألف ليلة وليلة» وامرؤ القيس والحلاّج، لذلك، معركة تحرير اللّغة العربيّة من مضمونها الدّيني والأيديولوجي في مسيس الحاجة إلى حراك علمي وفنّي وثقافي.


الرّسالة الرّابعة: إلى الشيخة الريميتي (1923-2006): «هو قُدامي وأنـا موراه»

بينما أنا طالب بجامعة وهران سنة 1978، كنت من الأوائل الذين تجرّأوا على محاورة الشيخة الريميتي ونشر الحوار فيما بعد، لطالما اعتبر حكم هواري بومدين هذه السيّدة القديرة رمزا للممنوع والمحظور، لقد كانت بمثابة المطرقة التي كسرت كلّ الثّوابت الاعتقادية والنزعات المحافظة في تلك المرحلة السيّاسية. ثلاثون عاما أو أكثر بعد وفاة الفنّانة (بتاريخ 16 ماي 2006)، يحزنني أن يتم دفنها بصمت وتستّر وكأنّه قد تم دفن العار، لا شيء تغيّر في الحقيقة. تحيّة كبيرة إلى بيونة، تلك ريميتي أخرى. الشيخة الريميتي أكثر قوّة وأكبر من وزارة مثل وزارة الشؤون الخارجيّة. لماذا أحدّثكم عن هذه الديفا (النّجمة) الجزائريّة؟

الديفا في ترحالها من سيدي بلعباس إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة مرورا بالأولمبيا في باريس تحاكـي جزائر التعدّد والإختلاف، لم تكن تملك سوى لسانا وأحبالا صوتية تصدح باللّغة الجزائريّة التي حوّلها صوت الريميتي إلى لغة عالميّة.

لقد كانت الديفا من خلال صوتها القويّ والشفّاف تمثّل جزائر الكثرة Algérie(s) Les بتعبير الشاعر الجزائري جان سيناك الذي اغتيل سنة 1973 في قبو بالعاصمة، وبقيت قضية اغتياله بلا متابعة. كانت الريميتي تُبهج الجميع؛ قبائل آيت ينّي وشاوية آرّيس وبني ميزاب غرداية وعاصميّ سوسطارة مرورا بالوهراني سيد الهوّاري والبشّاري في بلبالة والمغترب في مونتريال والسّاكن بمحافظة باريس السادسة عشر… «شارل ديغول قبّل وشامها» كما أخبرتني وهي تكشف أمام عينيّ المندهشتين يديها العظميّتين الحبلى بالأسرار، كانت الريميتي تحمل بداخلها وعلى جسدها كل ما تكتنفه الجزائر البهيّة والحزينة: اللّغة الجزائريّة، الغناء، الوشام، العفوية، الصراحة، الشجاعة، المغامرة وروح الشعب الجزائري وروح الجزائر. لقد ظلّت الشيخة الريميتي بعد كاتب ياسين تعرّف العالم بجزائر البسطاء، لم تكن «عالمة» بمفهوم الأنثروبولوجي ليفي ستراوس بقدر ما كانت صاحبة ثقافة نبويّة، ثقافة مستقبليّة وتاريخية ثاقبة.

لماذا أحدّثكم عن الشيخة الريميتي؟

كل أصوات التراث الجزائري اليهودي قد تمّ احياؤها عن طريق الريميتي: رينيت الوهرانيّة (1915-1998)، موريس المديوني (1928-2006)، ليلي بونيش (1921-2008)، وآخرون. هكذا تستوقفنا تلك الذاكرة العميقة لطليطلة المسلمة والمسيحيّة واليهوديّة، التي تقبع خلف الشيخة الريميتي وتسكن بداخلها. بوصفي كاتبا فإن صوت الريميتي يستحضر فيّ تلك الذاكرة، لقد كانت وفيّة للغة لخضر بن خلوف وبن قيطون وبلخير والخالدي، إلخ. لقد وفّرت الريميتي الحماية للغة أمّي وكلّ الأمّهات. اللّغة الدّارجة لا تخيف سوى أعداء الفن الحرّ وحريّة القول لأنّها تمثّل الذكاء الشعبي، التعدّد اللغوي يُحرج التفاهة (أحيّي هنا استاذي مصطفى الأشرف).

أيّها الأعزاء، سي محند أومحند، كاتب ياسين، أبي، الشيخة الريميتي، أنا ثمرة هذه الجزائر الكبيرة بخوفها وشجاعتها، بخمرها وصلاتها، بلغاتها ووحدتها بتاريخها العريق وبكم.

سلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى