مسعد بدر - مقدمة سيرة الزير سالم

تعرف بادية سيناء سيرتين شعبيتين اثنتين: السيرة الهلالية، وسيرة الزير سالم، ولم أسمع – وأنا ابن هذه البيئة – نموذجًا ثالثًا.
والسيرتان كلتاهما إنتاج أصيل لهذا المجتمع. أثبتُّ أصالة وتفرد السيرة الهلالية في مقدمة كتابي (السيرة الهلالية – رواية من سيناء) الذي جمعتُ فيه هذه السيرة، والذي أصدرته هيئة قصور الثقافة عام 2019. وسوف أثبتُّ وشيكًا (في فصل خاص) أن رواية بادية سيناء لسيرة الزير سالم هي أيضًا رواية أصيلة متفردة.
وأساس التفرد أن الراوي الشعبي يتخذ السيرة قالبًا يصب فيه أفكار مجتمعه ومُثُله وقيمه وآماله؛ فتخرج السيرة ترجمانًا لهذا المجتمع بالذات، وهذا لا يمنع أن تتشابه وتلتقي مع روايات أخرى من بيئات مغايرة؛ فإن التقاطع والتوازي قائمان ثابتان في جوهر العمل نفسه. وإني أذكر تمامًا كلمة عمنا الراوية المرحوم (رفيع عيد بدر) حين قال لي: "نحن بقايا الهلالية"! قلتُ له: "كيف"؟ قال: "حياتهم تماثل حياتنا، في عاداتهم، وهيئة بيوتهم، وطعامهم، وعاداتهم، وسامرهم، و...". رحم الله عمَّنا الكبير؛ لم يدُر بخلده أنه هو وغيره من الرواة هم الذين صاغوا السيرة وَفق مقياس ثقافتهم، ونسجوها على منوال حياتهم.
في هذا الكتاب نقدّم للقارئ الكريم نصًّا لم يسبق نشره، وهو (سيرة الزير سالم)، وهذه السيرة تحتل المرتبة الثانية في الأهمية بعد السيرة الهلالية، ومع ذلك هي سيرة شائعة في كل أنحاء بادية سيناء وبين كل قبائلها. وكما هي الحال في السيرة الهلالية؛ فإن سيرة الزير لها أحداث محددة، وفيها تعبيرات لغوية ثابتة، وأبيات شعرية متوارثة، يحكي الراوي ذلك كله وَفق ما وصل إليه، ووَفق ما حفظت ذاكرته. وهذا يعني أن السيرة تنقص عند راوٍ وتزيد عند آخر، وأن رواية تُكمل رواية، أو تُخالف رواية، لكنها المخالفة الطفيفة التي لا تمس جوهر العمل، ولا تخلّ ببنيته الأساسية.
وإذا كان هذا التنوع يُحدِث إمتاعا لمن يستمع إلى الروايات المتشابهة والمختلفة في آن واحد؛ فإن ذلك يُعدّ إشكالا ليس هيّنًا يواجه من يتصدى لجمع هذه الروايات وتوليفها لتخرج في عمل واحد مكتمل. وأول إشكال يتمثل في اختلاف لهجات الرواة تبعًا لاختلاف لهجات قبائلهم؛ فتعذّر أن أدوّن السيرة باللهجة أو اللهجات المحلية المتعددة، وإلا غَدَتْ أخلاطًا من لهجات شتى قد لا تتسق ألفاظها وتراكيبها في بعض المواضع. أضرب على ذلك مثلا بكلمة (هذا) التي تشير إلى المذكر لدى كل الرواة، إلا راوايًا من قبيلة (الدواغرة) يشير إلى المذكر بكلمة (هذي). ومثال آخر كلمة (عمَّتي)؛ فإن راوي الدواغرة ينطقها: (عمَّتِيَا)، بينما سائر الرواة ينطقونها: (عمْتِيْه)؛ فوجدتُ في الفصحى مخرجا من هذا التضارب اللهجي.
كل الرواة أعرفهم معرفة شخصية وبيني وبينهم تواصل وتفاعل، إلا راويًا واحد من قبيلة الدواغرة تكفل الأصدقاء بتسجيل روايته وإرسالها لي بصوته؛ فله ولهم الشكر كله. وهذه أسماء الرواة الذين نقلت عنهم، مرتبة ترتيبا ألفبائيا، وكلهم صاحب فضل:
1- أحمد سالم العقيلي، نقلا عن والده، قبيلة العقايلة، موطنه الأصلي قرية قطية، مركز بئر العبد، وأسرته تقيم الآن في مديرية التحرير، محافظة البحيرة.
2- زكريا أحمد منصور؛ نقلا عن جده لأمه المرحوم: عيد عبد الكريم العوابدة، قبيلة الرميلات، حيّ النعاميّة، غرب مركز رفح.
3- سلّام اسليم سالمان الرويّس، من قبيلة الدواغرة، قرية الفايضة، جنوب مركز بئر العبد.
4- المرحوم: سِلمي سليمان أبو جبيل، قبيلة الرميلات، حيّ الماسورة، مركز رفح.
5- المرحوم: ضيف الله سلامة البعيرة، قبيلة الرميلات، قرية قوز أبو رعد، مركز رفح.
هذا، وقد علمتُ أن بعض العجائز من قبيلة الترابين ومن قرية المنبطح تحديدا، وهي قرية في وسط سيناء تتبغ مركز الحسنة - علمت أن بعضهن تحفظ هذه السيرة، ولكن الوصول إلى النساء في بيئتنا هذه أمر فيه حرج كبير، ولو كنّ عجائز، وهذه إحدى عراقيل جمع التراث؛ فلم أخرج من زيارتي لهذه القرية إلا بالقليل، جملة أو جملتين!


أنماط الرواة في بادية سيناء
سبق القول إن هذه الرواية تُعدّ نصًّا محفوظًا لا يضيف الراوي إليه شيئًا من ذات نفسه، وإنما يتفاوت الرواة تبعًا لما وصل إليهم من روايات، وتبعًا لما حفظت ذاكرتهم.
غير أن هنا أمرًا يتفق حوله الرواة جميعًا وهو أنهم يعايشون السيرة معايشة حقيقية وكأن أحداثها تجري بينهم الآن. ثم هم يختلفون في مظاهر هذه المعايشة، وسوف أعرض الآن ملامح تفاعل كل راوٍ مما سمعت منهم.
فالمرحوم سِلمي أبو جبيل كان رجلًا شجاعًا صُلبًا ماهرًا في فنون القتال بالسيف؛ فإذا حدّث فإنه يُعنى عناية خاصة بإبراز مواقف البطولة الخارقة، يحدّث ثم يكرر الحديث محاولا قدر استطاعته أن يمثّل المعنى بصوته، وأن ينقل للمستمع خلجات نفسه من خلال تنغيم الصوت أو رفعه، ومن خلال النبر والسكتة واللفتة والإشارة باليد، وبكل وسيلة يراها تعينه على التعبير عن تفاعله وانفعاله. ولعل أشهر المواقف التي كنّا نحب أن يرويها لنا ذلك الموقف الذي يحكي أن الزير سقط بحصانه في حُفَر حفرها له أعداؤه، وأن ابن أخيه نشله من الحفرة الأخيرة، وهو نشل الحصان!
وأما المرحوم ضيف الله سلامة فقد كانت حكايته عجبًا! جلستُ أمامه بجهاز التسجيل وهو بدأ يحكي إلى أن وصل إلى حيث أنزل كليب أخاه في البئر يريد أن يتركه فيها ويتخلص منه غدرًا! فاصطرعت الخيل على الماء وعجز كليب عن السيطرة عليها؛ فنادى الزير من قعر البئر بصوت مجلجل: "هراه مدموج القطاة! يلعن أخ يسخَى في أخاه"! فهدأت الخيل واستكانت. هنا انخرط المرحوم ضيف الله في بكاء صادق حار، ومدّ يده إلى جيبه واستخرج منديله يكفكف به دموعه الغزار! ثم أعاد المقطع وأعاد البكاء، ثم كرر الحديث والبكاء لم ينقطع، ثم نهض وغادرنا!
كنتُ أرقب المشهد وأنا دهِشٌ حيران، حتى حكى لي أبناؤه أن للمرحوم أخوين اثنين ماتا منذ زمن بعيد؛ فهو يعرف قيمة فقدان الأخ ويستذكرهما حين يروي أن كليب كان سيغدر بأخيه! وهذا يعني أن السيرة بالنسبة للعم ضيف الله ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي مواقف حية وعِبَر يراها المرء في حياته التي يعيشها بالفعل.
والمرحوم (عيد عبد الكريم العوابدة) كان في الأصل شاعرًا مغنّيًا شهيرًا ظريفا ذا حضور مرِح، وقد ذاع عنه شعره الممزوج بالدعابة والسخرية والطرائف؛ فليس غريبا أن تتفرد روايته التي نقلها عنه حفيده (زكريا أحمد) بمواقف طريفة عجيبة تدل على تفاعله مع السيرة، وتؤكد على تأثير شخصيته في سرد أحداثها، ومن الشواهد على ذلك لهْوُ الغيلان الصغيرة بالزير، وكيف كانوا يتقاذفونه كأنه كُرَة!
وأخيرًا، يبدو الراوي (سلّام الرويّس) رجلًا رقيقًا متعاطفًا مع أبطال السيرة؛ فهو يترحّم على كليب والزير، ويدعو لهما! كما يبدو حريصا على القيم التي تتضمنها السيرة، رابطًا بين عصرها وبين هذا العصر الذي ضاعت فيه المبادئ والفطنة والنباهة، في رأيه، فيقول مثلا: كانت لدى الناس فطنة.
والسيرة عند هؤلاء الرواة حدث انتهى ولم تنتهِ آثاره بعد؛ فإنهم يزعمون أن طائفة من الناس الرُّحَّل يسمّونهم (النَّوَر) هم بقايا قوم جساس الذين أذلهم الزير، وأنهم إلى اليوم يحيون حياة الذل التي فرضها عليهم بطل السيرة: الزير سالم.
أما ما يعيب كل الروايات التي جمعناها؛ فهو ضياع وزن الأبيات الشعرية التي وردت؛ فإنها تقصر وتطول وتضطرب تفعيلاتها وقوافيها، بحيث يستحيل ضبطها دون إعادة صياغتها من جديد، وهذا أمر يتعارض مع كون الرواية نصًّا لا دخل للراوي فيه، فضلا عن أن الجماعة الشعبية تَعُدّ السيرة نصا علويًا لا يجوز المساس به تصحيحًا أو تعديلًا.
ولعل السبب في ضياع ضبط الأشعار هو تقادم الزمن، وتفاوت الرواة في القدرة على الحفظ، وأن هؤلاء الرواة لم يكونوا شعراء يملكون الحسّ الموسيقي في نقلهم النصوص. حتى المرحوم عيد؛ فقد كان مغنّيًا لا شاعر قصائد، وللغناء في بادية سيناء أوزان تغاير أوزان القصيد؛ فضاع الوزن هنا كما ضاع في روايتهم للسيرة الهلالية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى