نضال البيابي - هل تجوز الرحمة على شيرين؟

ما بعد الموت هو دعامة الكهنوت الأساسيَّة وحجر الزاوية فيها، وهو مسوغ وجود الكهنة وموظفي السماء والدجاجة التي تبيض ذهباً، ومن هنا مكمن المفارقة، تنتفي الحاجة إلى خبراء خرائط الفردوس حينما لا يكون هناك فردوس. فعندما شاءت مشيئة الله أن يكون الخلود أرضياً في رواية جوزيه ساراماغو "انقطاعات الموت"، وهو خلود بلا مخاوف ماورائية، وبلا أبعاد ومراتب طبقيّة، وبغير مفاجآت برزخية: أنت إلى الفردوس، وأنت إلى الجحيم، وأنت بين بين، ثار الكهنة وأنكروا على الفور الخلود الأرضي، لأن مزيّة الكنيسة تكمن في أنها عندما تحتكر ما هو سماوي، تحكم ما هو أرضي، وعندما لا يكون هناك موت على الأرض فلن يحفل أحد بـ "علم المنايا". وإذا مات الموت ماتت الكنيسة وكل دور العبادة وأفلس وعاظ السلاطين. فالأفول السعيد للموت يعني أفول الأصنام وكل السلطات التي تحتكر هذه الورقة الرابحة دائماً وأبداً في كل زمان ومكان.

لن أتحدث هنا عمَّا سوف يحدث بعد الموت أو عن المصير الأخرويّ للأغيار فهذا من اختصاص علماء الجفر وقارئي الفنجان، ولكني سأركز على استيهامات المقهور وانهماماته بالشؤون الأخرويَّة باعتبارها تعويضاً يسدُّ به عجزاً أو خوفاً إزاء أمر ما من خلال المبالغة في إظهار شيء آخر، هذا من جهة، واستبطاناً مزدوجاً لتصورات المُستعمِر عن المُستَعمَر من جهة أخرى. على ضوء تداعيات ردود الفعل التي حرَّضها حدث الاغتيال الذي تعرضت له المراسلة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، والذي بدا بكل حيثياته السياسية والدينية و"الجندرية" مربكاً للوعي الديني وأعاد للأذهان مقولة فرويد عن "نرجسيَّة الفروق السطحيَّة"، فرصاص الاحتلال هذه المرة لم يستهدف طفلاً أو رجلاً مسلماً كي يكون التضامن الشعبي عفوياً ولا يستدعي نبشاً في بطون التراث وأحشائه وجدلاً عقيماً حول مدى استحقاق الشهيد لشهادته، إنما استهدف امرأة شاءت الصدف الكونيَّة أن تكون مسيحيَّة، فمسّ الوتر الأشد حساسيَّةً وتوتراً عند الإسلاميين، "الهويَّة الحقيقيَّة" أو "جوهر العقيدة" التي تميز كما يقولون بين المنتمين إليها والخارجين عنها أو منها، ولذلك كان الإسلاميُّ الذي لا يخشى في الله لومة لائم مدركاً لخطورة الأمر وجسامته وجديَّته، صحيح هو أدان حادثة الاغتيال وشجب بحماسته المعهودة وصوته الجهوريّ وحشية الاحتلال ولكن بشيء من التحفَّظ والتحرَّز لكيلا يقع في المحظور فينقص من ميزان حسناته بقول طائش ليس له من مسوغ شرعي، فمن لا جزاء له عند الله - مهما صلح عمله الدنيوي- فأنّى يستحق الجنة! ومن ليس له من ثواب في الآخرة، فلا يجوز الدعاء له بالرحمة "حتى لو قُتِل في سبيل وطنه أو دفاعاً عن أرضه وأهله"، بل لا يجوز الاستغفار والترحم على الوالدين لو كانا "كافرين". وهذا ما عليه رأي مُجمَلِ الفقهاء أعلم الناس بأصول الشريعة وأحكامها، شيعة وسنة، ولن تجد ديناً رسمياً أو "عقيدة تامة" لم "تُطهرها" الفلسفة بعد بمنأى عن هذه الروح الاصطفائيَّة، أو لنقل إنها أنفة المؤمن وشعوره العارم بالعزة.
وهذا ما تفطن إليه إخوان الصفاء قبل أكثر من ألف عام، الذين تأثروا بالمعتزلة وبالفلسفة فأسسوا مذهباً متجاوزاً لدين الفقهاء و"أهل الحرف" يتكئ على التأويل واستنطاق النص - الذي لم يعد نصاً أزلياً قائماً بذاته مستغنياً عن معونة الفلسفة - بما يلائم متطلبات الإنسان والواقع. وفي هذا تقول الرسالة 45 من كتاب الرسائل (إخوان الصفاء وخِلاَّن الوفاء):" ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى، أن لا يعادوا علماً من العلوم أو يهجروا كتاباً من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب..." ولعل وصف أبي حيان التوحيدي لأحد مؤلفي الرسائل في كتابه "المقابسات" يكشف عن ملامح القطيعة التي أحدثوها مع المذاهب الرسميّة في عصرهم:" تبصّر في الآراء والديانات، وتصرّف في كل فن... قالوا إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال... وصنّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة... وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثوها في الورّاقين، ولقنوها للناس، وادّعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه."

وإذا كانت "الشريعة طب المرضى" كما ينقل أبو حيان عن المقدسي الذي يقال إنه كان أحد مؤلفي الرسائل، فإن "الفلسفة طب الأصحاء" غير أن الشرائع قد تكون علة المرض وأصل الداء إذا طغى البيان وغاب البرهان، إذا صار الواقع في خدمة النص لا النص في خدمة الواقع، وإذا بات المؤمن في خدمة الدين وليس العكس، وإذا تم التعبد بالنص وإن مزق المجتمع وفرق بين "المرء وزوجه"، وإذا صار المؤمن لا يرى العالم إلا من خلال لغة التحريم والتأثيم.
إلا أن الإيمان أو الإقرار بالغيبيات لم يكن في حد ذاته عند إخوان الصفا سبب "مرض القلب" ما دام تمّ التوفيق بين الدين والفلسفة، بمعنى ألاّ يؤثر الإيمان بالغيبيات على "طلب المعارف الحقيقية" كما لو أنهم فصلوا بين الأمرين، بل أنهم ذموا كل إيمان يُعطل ملكة البحث عن المعارف والعلوم متخذين من النص القرآني رافعة لهذا التوجه العقلاني بما أنه يمتدح المؤمنين "الذين أوتوا العِلم درجات" وطبعاً لم يفسروا العلم في هذا السياق بـ"العلم الديني". أكثر من ذلك، قضوا تماماً على محرضات "النرجسيَّة الدينيَّة" بما أن جانباً من الحقيقة قد يوجد في كل دين وعند كل ملة، ونقرأ في الرسالة 42 ما يؤكد على هذا المذهب:"فاعلم أن الحق في كل دين موجود، وعلى كل لسانٍ جارٍ، وأن الشُبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن... ثم اعلم أن اختلاف الشرائع ليس بضارٍ." وفي الرسالة 40 يؤكدون على خطورة التعصب لمذهب على آخر بما أن التعصب يحوّر الأشياء على عكس ما هي عليه في الواقع فيرى المُريد ما يشتهيه وليس ما هو كائن: "ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب، لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل، وينهى عن إدراك الحقائق". لكن في تصوري أن أهم مرتكز قامت عليه "الغنوصية الإسلامية" التي أسس إخوان الصفا إرهاصاتها الأولى في الفكر الإسلامي هو إعادة الاعتبار للأفلاطونية التي تقول بنظرية "الفيض الإلهي" التي يُجرد فيها الله من رغبات عبيده، إذ لا يمكن أن تؤسس دوغما مذهبية إلا على إله خلقته الرغبة واستيهامات الجماعة، ولهذا كان الأساس الذي قامت عليه أخلاق المذاهب الإسلامية الرسمية هشاً، باعثه الخوف وسيكولوجية العبيد أو جدلية الغالب والمغلوب الخلدونية، الفضائل البراغماتيَّة التي تكتسب قيمتها من الثواب الأخروي وليس من ذاتها أو أثرها الحقيقي، الالتزام الديني الذي يحفزه الخوف أو الطمع، غير أن هذه الدوغما وإن كانت نقيضَ ما يدعو إليه إخوان الصفا ومذاهب الظل عادة، فإنهم رأوا فيها شيئاً من النفع والفائدة لبعض العامة أو من ضربت عليهم المسكنة، لأنهم إذا اعتقدوا في الله أنه ينظر إليهم ويراقبهم على الدوام ولا تخفى عليه خافية من أمرهم كبحوا بعض شرورهم وفي ذلك "صلاح لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم".

وإذا كان هذا الأمر صحيحاً في بعض جوانبه، غير أن المفارقة التي تتضمنها المحرمات الدينيَّة تتجلى في التحريض على عكس ما يشتهيه المُشرع خصوصاً في الجانب المعاملاتي أو السلوكي وليس العبادي، وهو ما رأى فيه فرويد موقفاً ازدواجيَّاً حيال ما هو حرام، أي الازدواج الوجداني إزاء الفاكهة المحرمة: التأرجح بين اشتهاء الشيء والنفور منه في آن معاً، وسأعود لهذا الموقف بشيء من التفصيل.
تشكل لفظة "الطاعة" من حيث دلالاتها اللغوية والشرعية والاجتماعية وما تفرضه من إخراس للحسّ النقدي أو "الوسواس الخناس" حجر الرحى في المذاهب الإسلاميَّة المعاصرة ودعاة النقاء الديني، كما لو أن هناك فعلاً إسلاماً جوهرياً لم يتغير ولم يتبدل ولم تتعدد تجلياته على مدار التاريخ، وهذا هو أيضاً منظور الاستشراق الكلاسيكي بوجه الاستعماري تحديداً، الذي يختزل "الشرقي" ودينه في قوالب تبسيطيَّة ساذجة يمكن التعبير عنه من خلالها بكلمة أو كلمتين تفصله عن شروط التاريخ المادي وتواريخ التشكل، وكما يقصي الخطاب الديني الرسمي المتورط في نزعة جوهرانية المذاهب الضالة والملوثة والمشركة من حياض الحق، يقصي المستعمر في إطار النزعة ذاتها وبوحي من منطق المقابلات الثنائيَّة ممارسات "السكان الأصليين" بوصفها منحطة وغير متحضرة ومتوحشة، في حين أن تاريخ الأديان والحضارات، ومنها الدين الإسلامي، يكشف أن التطوّر أو التحول والترحل وتعدد الرؤى وتنوع المذاهب والتناص والتلاقح فيما بينها كان من لوازم الوجود للأديان والحضارات كلها، لكن المؤسسات الكهنوتيَّة الإسلاميَّة التي تستعيد الدور ذاته الذي أداه الإكليروس المسيحي لا تزال محكومة بمنظور القرون الوسطى عن الدين الصحيح المستقيم الذي لا تشوبه شائبة وما عداه زندقة أو كفر، وفي سبيل الدفاع عن حرمات هذا الدين الصحيح المتخيل كل شيء يمكن تبريره، ويمكنك أن تتخيل ما هو "الحكم الشرعي" لمن يتبنى الآن مثلاً موقف إخوان الصفا من العقائد الإسلاميَّة ونظرية الفيض والشخصيات المقدسة أو موقف ابن سينا من الفلسفة قياساً بالشريعة أو محاولات ابن رشد في عقلنة الديني أو موقف ابن عربي من النص الديني؟!

الطاعة من مصدر طاع بمعنى امتثال الأمر عن رغبة بغير إكراه، والطَّوْع نَقيضُ الكَرْهِ، وفي هذا التعريف تحوير ونفي ضمني لإرادة "المُتغلب"، فمن يحتكر العنف يحتكر المعنى، فكل مقولات السلطة، تضمر عنف الإقناع، فهناك فعل أمر تقريعي متضمّن في كل جملة خبرية أو إرشادية تتوخى القبول والتسليم بل المسارعة للطاعة، فالضمير الديني ليس سوى صوت الأنا الأعلى للجماعة التي نتوق إلى إرضائها ونخشى إغضابها، وعليه فإن الانقياد والطاعة لا يكونان بغير إكراه، ظاهراً كان أم خفياً، ولو كان انقياداً لغوياً، ولذلك قيل يشقّ عَصَا الطاعة بمعنى يَتمَّرد ويَثور، أو يرفض أن ينقاد، والتمرّد على الإمام يعني الخروج عليه والخروج من البغي، ولا تكون الطاعة إلاَّ عن أمر، وطاعة أولي الأمر واجبة، وقال أبو هلال العسكري إن الطاعة إنما تقع رغبة أو رهبة، ونَقيضُ الطاعة فقهياً المعصية، والعاصي هو من ترك ما أمر الله به، فإما أن تكون مطيعاً أو عاصياً، فليس هناك منطقة وسطى أو رمادية بين الحلال والحرام، فالحلال هو المباح الذي عُلم إباحته بالشرع، أما الحرام فلا يكون إلا قبيحاً، ولهذا فإن الحرام في كل شريعة هو محظور مؤبد، أو هكذا يعتقد المُشرّعون، ونلاحظ أن المطاوعة لا تأتي بمعنى سلبي إلا في مطاوعة النفس الأمارة بالسوء، وقيل لا تطاوع النفس فترميك بالهلاك، ولا تأتي الطاعة كذلك بمعنى المعصية إلاَّ في طاعة من ليس له حق التشريع، وحتى طاعة الوالدين لا تكتسب فضيلتها في فعل الطاعة ذاته إنما فيما تحيل إليه، والمطواع صيغة مبالغة من طاعَ، وهو الذي يُسرع إلى الطاعة، ولو حذفنا الألف في مطواع لبقي المعنى صحيحاً، وبَيْتُ الطَّاعة هو بيت الزوج المهجور، ومن تَطاوعَ للأمر تكلّفه حتى يستطيعه أو يصبح عادةً، ومن تطوَّع بالمال أعطاه عن طواعية واختيارٍ، والإنسان الذي يكون طوع يديك يفعل ما تأمره به، وطاعة عمياء أو طاعة مطلقة تأتيان بالمعنى نفسه، أي طاعة دون معرفة الأسباب. وأصل الدين بهذا المعنى هو الطاعة كما يقول ذلك العسكري في فروقه اللغوية، وإذا أطلق الدين فهو الطاعة التي يجازى عليها بالثواب، ودان الناس لملكهم أي أطاعوه، والطاعة "الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك" بتعبير العسكري.
أما الهوس بانتهاك المحرمات فلا تفسره مقولة "كل ما هو ممنوع مرغوب"، لأن الناس لا يرغبون في كل ممنوع، ولكن الرغبة في انتهاك الحرام الديني هي رغبة العبد فيما يحوزه السيد من امتيازات، فمحرمات السيد ليست هي محرمات العبد، فالسيد لطالما كان مستثنى ويجوز له ما لا يجوز لغيره، ولأن الأخلاق على أساس ديني لا تخلو من طبقية وتمييز عنصري وجنسي، صار الحرام مرغوباً لأن الانتهاك يحقق شيئاً من المساواة ولو على الصعيد السيكولوجي، فالمرأة ترغب في أن تكون رجلاً والمضطهَد يرغب في لعب دور الإقطاعي المضطهِد، ولا شيء يحقق هذه المعادلة كانتهاك محرمات الإقطاعي الذي حرمها على سواه بينما هو يتمتع في فردوسه بوافر من المتع الماورائيَّة، متع يراها العبد كهبات سماوية اختص بها ذوو الشأن الرفيع والنسب الشريف، فلا يمكنك أن تصير نداً للسيد ولو كنت أذكى منه فهو سيظل يسمو عليك بالقوة وبالرأسمال الرمزي، لكن الإقطاعي ليس غبياً فهو يترك باب الفردوس موارباً لبعض الفتات ولشيء من المتع المحرمة، التي ستصبح عرفاً اجتماعياً ومتنفساً ضرورياً لتعزيز وهم المشاركة، مشاركة متع الإقطاعي ورغباته، هروب من العبودية إلى العبودية ولكن بعنوان آخر، فيمكن أن تكون سيداً حتى لو لم تستطع تغيير طبقتك الاقتصادية، إنما من حيث محاكاة بعض متع السيد خصوصاً الجنسية منها. وثمة خيار آخر يلجأ له التابع، هو أخلاق الزهد التي ليست سوى إنكار للذات التي لم تستطع الانتصار حتى في الحلم، الزهد الذي يصبح إفراطاً في الفضيلة والطقوسيّة، ازدراء ظاهري لرغبات الجسد ناشئ عن وجدان مهان، فالزاهد الذي هو من حزب اللذة على غير علم منه، يزعم أن مصدر زهده هو حرية الإرادة، فهو اختار ألا يرغب في الحرام، أو امتنع عنه طلباً للأجر، وفي الواقع زهد لأنه رغب فيئِس، فما كان له أن يزهد لو أنه ظَفِر بما كان يأمل، ولولا حب الحياة لما التهبت حماسة زهده. ومن أرغمه الواقع على التزهد والتقشف سيكون كل شيء في حياته على سبيل التعويض، والتعويض في التحليل النفسي هو وسيلة أو حيلة لاواعية يسدُّ بها الفرد ضعفاً أو عجزاً جسديَّا أو نفسيَّا من خلال المبالغة في إظهار صفةٍ أخرى، وعلى هذا النحو تصبح لذة العبادات تعويضاً عن اللذَّات الحسيَّة، والحب الإلهي استعارة تشي بأن الرغبة لم تزل بعد عطشى، وابتهالات المحراب تنفيساً عن فقدان اللذة على سرير الحب. غير أن ما لا يقوله الزاهد وإن أراد حينما ينظر إلى السماء إلهي لم خلقتني عبداً شقياً؟ فتحور الكلمات بما يلائم آداب الخطاب بين الأدنى والأعلى فيقول عوضاً عن ذلك: الحمدلله على كل حال، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وقدر الله ما شاء فعل، تزلف المقهور على الورع، المحكوم عليه بالتقوى، المتخلي عن المرغوب من أجل غاية أسمى، وليست سوى تعويضات مكثفة من المتع الحسيّة الأخرويَّة. ولهذا فإن الزاهد ليس نقيضاً للمُشرّع الأخلاقي، كلاهما ينطلق من عقل دنيوي، غير أن الزاهد لا تكفيه حياة واحدة فهو يطمح للخلود، فتحقيق الرغبة أضحى بمثابة عملية ثأر من الحرمان الدنيوي، ولولا هذا الأمل لأعلن على الفور موقفاً إلحادياً ضد السماء وليس ضد من جعلوا وجوده لغيره وسلبوه نعيم الدنيا والآخرة.

ولأن المقهور لا يعرف عن ذاته سوى القليل ولأنه كائن ملدوغ فلا يمكن "أن يتحدث بهدوء معملي عن خواص العقربة!" كما تقول رضوى عاشور، فهو من حيث لا يدري يستبطن مفاهيم السلطة البرّانية وأحكامها التي شكلته ليس على صعيد مسار الرغبة والرعب الدائم من فكرة الموت الفجائي المتربص به فحسب، بل على صعيد اللغة وسؤال الهوية، إذ يعيد إنتاج وجوده بما يتسق مع متطلَّباتها التي لم تكن يوماً مفارقة لسياقه الاجتماعي والثقافي والديني، وفي كل سردية عن الذات تتضمّن آثارها وبصماتها سواء في علاقته بالآخر أو في علاقة الدال بالمدلول، وكل استلاب مادي هو في أصله استلاب لغوي، واللغة مزدوجة الوظيفة، وسيلة الوهم التي فيها الشفاء، فداء الفصام الذي تعاني ويلاته الذات لم يبدأ في الدماغ وإنما في اللغة، والمقهور يعيش في سجن من الكلمات، أو بتعبير هيغل "الوعي الشقي" الذي يتجسد في تحول حكم السيد الخارجي إلى "ضمير العبد الخاص"، الوعي المنقلب على ذاته، شهوانية التماهي مع تصورات "المُتغلّب" عن المغلوب، وعلى قدر التعظيم له يكون تبخيس الذات، وما يبدو مقاومة عشوائية أو معارضة لأحكام السيد يكشف عن ارتباط عاطفي به، الاستشراق معكوساً في سياق الأجساد المروَّضة استعمارياً وفقهياً، ويا للمفارقة، فتنتج أدبيات "الخصمين" نسقاً مزيفاً من الرغبة، فتصير الرغبة "أفيوناً" والدين "عصا المُنهكين وعكازهم".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى