د. أحمد الحطاب - منزلة العلماء عند الله

عند قراءتي سورة آل عمران ، استوقفتني الآية 18 التي تقول :
" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ".
و ما استأثرني في هذه الآية هو عبارة "و أولو العلم"، أي المنزلة التي خص بها الله سبحانه و تعالى العلماءَ إذ اقترن ذكرُهم باسم الله و الملائكة. و نحن نعرف حق المعرفة منزلةَ الملائكة عنده جل علاه. و المقصود هنا بالعلماء هم العارفون المتضلِّعون في العلم دينيا و دنيويا. و بعبارة أخرى، المتفقِّهون في علوم الدين و الدنيا. و هنا، تجدرُ الإشارةُ إلى أن القرآن الكريم لم تَرِدْ فيه مفردة "علم" بصيغة الجمع. الله سبحانه و تعالى في العديد من الآيات و في مختلف السور يتحدث عن العلم الشامل الذي يجمع بين كل العلوم سواء كانت دينيةً أو دنيوية. يقول سبحانه و تعالى في سورة طه، الآية 98: " إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا "، أي شمِل علمُه كلَّ شيء. و هنا، لا بد من الإشارة أن كلمة "شيء" اصطلاحيا تعني "كل ما هو موجود"، أي مكونات الكون برمته بما فيها الملموسة و غير الملموسة، الحِسِّية و المعنوية، الحية و غير الحية، الخ.
و هنا لا بدَّ من التذكير أن العلماء الأوائل من يونانيين و رومان و فارسيين و خصوصا المسلمين منهم كانوا يجمعون بين علوم الدين و علوم الدنيا، فكانوا في نفس الوقت فقهاء و فلاسفة و رياضيين و علماء اجتماع و فيزيائيين و كيميائيين و لغويين و أطباء... خلافا للعصر الحاضر الذي تشعَّبت فيه العلومُ حيث أصبح الاختصاصُ و الاختصاصُ الدقيقُ هما السائدين في الأوساط و التّجمّعات و المدارس العلمية. فنرى المجال الواحد يتفرَّع إلى عدة اختصاصات، أحيانا، من الدقة بمكان. و إن كانت لهذه التَّخصُّصات مزايا لا يُنكرها أحد، فإنها في نفس الوقت لها مساوئ كثيرة من بينها انغلاق التخصصات على نفسها و لم يعد بينها ارتباطٌ حتى لو كانت هذه التخصصات تنتمي لنفس المجال. كما أصبح المُتخصِّص منعزلاً عن ما يجري في المجالات الأخرى. بالطبع، إن الإنسان لا يمكن في الوقت الراهن، بحكم تعدد التَّخصُّصات و المعارف، أن يكون موسوعةً لوحده. لكن انعزالَ العلوم بعضها عن بعض كان و لا يزال مصدرا للمشكلات و على رأسها المشكلات البيئية.
و من أجل تجاوز هذا الوضع، أوصت منظمة اليونسكو بتبنِّي ما اصطُلِح عليه ب Transdisciplinarité، أي المعرفة الشاملة التي تخترف الحواجز التي وضعها الإنسان بين التخصصات و المجالات. و بعبارة أخرى، تبنِّي نهجاً يسمح للمعرفة أن تنتقل من مجال إلى آخر و من تخصص إلى آخر حسب ما تقتضيه الحاجة و شموليةُ هذه المعرفة.
و كما قلتُ أعلاه، إن انعزالَ مجالات المعرفة و التخصصات له خطورته و أعطَيتُ كمثال المشكلات البيئية. لكن هناك خطورة أكبر تكمن في كون جلِّ العلماء المهتمين بالعلوم الدنيوية ليست لهم إحاطة بالعلوم الدينية و خصوصا ما له علاقة بمجالاتهم المعرفية. كما أن جل العلماء المهتمين بالشؤون الدينية ليست لهم دراية (قد يجهلون كل شيء عنها) بالعلوم الدنيوية من رياضيات و فيزياء و كيمياء و بيولوجيا و أنثروبولوجيا و علم اجتماع و فلسفة و طب، الخ. الكل يبقى أو يتقوقع في حدود مجاله أو اختصاصه و لا يهتمُّ بما يجري في مجالات المعرفة الأخرى. من أين تأتي الخطورة؟ الخطورة في الانعزال و التَّقوقُع.
بالنسبة لعلماء الدين، و هذا شيء معروف، هناك نسبة لا يُستهان بها تفسِّر أو تأوِّل القرآنَ و الأحاديثَ تأويلا حرفيا أو تأويلا لا يأخذ بعين الاعتبار الزمان و المكان و الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية التي نزل فيها القرآن الكريم أو تمَّت فيها صياغة الأحاديث. و هذا الوضع غالبا ما يؤدي إلى التشنُّج و التَّعصُّب اللذان قد ينتهيان بالتطرف و الادعاء بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة بينما هذه الأخيرة ليست في متناول البشر. بل أكثر من هذا، فإنهم يريدون أن يفرضوا معرفتَهم هذه على الناس بدعوى أنهم أعلم من غيرهم في الأمور الدينية أو لحاجات في نفس يعقوب. و الحقيقة أنهم لو كانوا مُتفتِّحين على مجالات المعرفة العلمية الأخرى للاحظوا أن محتويات هذه المجالات بما فيها الفيزياء و الكيمياء و البيولوجيا و علم الاجتماع، الخ. ما هي إلا تفاسير بشرية لظواهرَ و أشياءَ و حالاتٍ قد لا تدوم طويلا بحكم التقدم الاجتماعي و الاقتصادي و العلمي و التكنولوجي، الخ. نفس الشيء ينطبق على العلوم الدينية التي هي عبارة عن تفاسير بشرية للقرآن الكريم و الأحاديث النبوية التي هي الأخرى، حسب الإسناد، فيها الصحيح و الحسن و الضعيف. و تنوع التفاسير و التأويلات و اختلافها هو الذي أدى إلى تعدد المذاهب و مدارس تفسير و تأويل القرآن الكريم. فبأي حق تتقوقعُ هذه الفئة ممن يُسمُّون أنفسَهم علماء الدين في دائرة ضيقة بعيدة كل البعد في الكثير من الحالات عن العقل و الصواب؟
أما بالنسبة لعلماء الأمور الدنيوية، الخطورة تأتي في كون البعض منهم، هم الآخرون، على غرار علماء الدين الذين سبقت الإشارة إلهيم، يظنون أنهم يملكون الحقيقة لما وصلوا إليه من معرفة علمية و خصوصا أن هذه المعرفة، حسب اعتقادهم، هي نتاج ملاحظات و تجارب لا غبار عليها. و الحقيقة أنهم لم يفعلوا شيئا سوى أنهم، بواسطة قدراتهم العقلية و الفكرية، استطاعوا أن يُعطوا لبعض الظواهر تفاسيرَ تتلاءم و مستواهم العلمي و محيطهم الاجتماعي و قد لا تصمُدُ هذه التفاسير مع مرور الوقت و تقدُّمِ مجال المعرفة و الوسائل المستعملة في الملاحظة و التجريب. و هذا ما حصل و يحصل مند قرون بدأ بالحضارات الأسيوية و مرورا بالحضارات اليونانية و الرومانية و الفارسية و الإسلامية و انتهاء بالحضارات المعاصرة. فكم هي عديدة النظريات و المعارف التي ظهرت في تلك الحقب من الزمان و لم تعد لها صلاحيةٌ اليوم. و هذا صحيح بالنسبة لكل العلوم الدنيوية من فييزياء و كيمياء و بيولوجيا و فلسفة و تاريخ و علم اجتماع و علم نبات، الخ. و على سبيل المثال، فيزياء نيوتنNewton ليست هي فيزياء إنشتاين Einstein و طب ابن سيناء ليس هو الطب المعاصر، الخ. و الخطير في الأمر هنا هو أن البعض من هؤلاء العلماء قد يصبحون مغرورين بحكم ما توصلوا إليه من علوم و معرفة فيصيبهم الاستعلاء و الطُّغيان و كأنهم يملكون الحقيقة المطلقة التي لا يملكها إلا الله سبحانه و تعالى. كان على هذا الصنف من العلماء الإلمام بقدر و لو ضئيل بالعلوم الدينية و القرآن الكريم الذي أصبحتْ تولي له الأوساط العلمية اهتماما كبيرا.
و هنا، لا بد من الإشارة أن مجموعَ ما توصل إليه الإنسان من معارف علمية ليس ناتجا كله عن الملاحظة و التجريب. بل العديد من الظواهر الطبيعية الفيزيائية ليست مرئية و لو بأقوى المجاهر كالجاذبية و القوة و الطاقة و النظرية الذرية و طبيعة الضوء، الخ. فالباحث يتعامل مع مظاهرها و ليس مع الظواهر في حد ذاتها. فكل ما توصل إليه العلم في شأنها ناتج عن الاستنباط.
و ما يجب قولُه في هذا المقام هو أن العلماءَ، سواء كانوا دينيين أو دنيويين، إن لم يتحلَّوا بالتواضع، فإنهم أخطئوا الصواب. و ذلك لأنهم مهما تعدَّدت و تنوَّعت و اختلفت علومُهم و معارفُهم، فإنها تبقى دائما محدودةً مصداقا لقوله تعالى : "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الإسراء، آية 85). و العلم الدنيوي نفسه يشهد بهذه القلة إذ أن أي بحث مهما كان نوعُه و مهما كانت أهمِّيتُه، إذا أتى بحلّ أو حلول لمشكلة ما أو مشكلات، فإنه في نهاية المطاف، يطرح تساؤلات و مشكلات جديدة أخرى يجب على العلم أن يخوضَ فيها و هكذا. و هذا ما يقتضي من العلماء أن يكونوا متواضعين أمام الله الذي "وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً" و كذلك مصداقا لقوله تعالى : "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر، الآية 28).
و قد لا أبالغ إذا قلتُ إن العَالِمَ الذي يجب أن يوصفَ بالعَالِمِ هو الذي يجمع بين علوم الدين و الدنيا حيث يربط بين هذه و تلك كلما اقتضت الضرورة ذلك. و هذا الربط هو الذي يقوده إلى خشية الله. و الخشية هنا ليست هي الخوف من الله بل هي الخضوع له و الاعتراف بعلمه الشامل، الشمولي، الكامل و المتكامل. و هنا تحضرني آية كريمة أخرى تقول : "هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر، آية 9). غير أن عبارة "الَّذِينَ يَعْلَمُونَ" يجب أن لا يُدركَ معناها بكيفية مطلقة، أي كل العلماء. بل هم فقط من يربط بين العلوم الدينية و العلوم الدنيوية، القانتون و المسبِّحون بحمده جل جلاله.



[HEADING=2] Для просмотра нужно войти или зарегистрироваться [/HEADING]
Смотрите публикации, фото и другие материалы на Facebook.
www.facebook.com
www.facebook.com

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى