أ. د. عادل الأسطة - تداعيات الحرب في غزة ٢٠٢٣ ملف -ج2- (21..28)

ج2

21- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : الصمود على بكسة حامض : " سحر خليفة وعزمي بشارة ويحيى السنوار"

كتب إميل حبيبي " باق في حيفا " وبقي ، ونطق قبله توفيق زياد باسم الباقين من شعبه " هنا باقون " وصمدوا ، مع ما هم عليه في هذه المقتلة من صمت ، خلافا لما كانوا عليه في ال ٧٤ عاما السابقة ، ليظلوا على أرضهم في ظل توغل اليمين الإسرائيلي وصدمته وردة فعله الجنونية مما حدث في ٧ أكتوبر ، وكتب كتاب آخرون عن الأرض والتشبث بها وماتوا فيها ، ومنهم سميح القاسم ومحمد نفاع ، أما محمود درويش فقال إن أباه نهاه عن السفر ، فمن لا وطن له لا قبر له ، ولكنه لم يلتزم بما قال ، ولحسن حظه هو وراشد حسين أنهما على الرغم من مغادرتهما فلسطين دفنا في ترابها .
في أثناء متابعة الرواية والوقوف أمام فكرة البقاء والصمود أستحضر ثلاثة أصوات لها تأثيرها في الواقع الفلسطيني هي سحر خليفة وعزمي بشارة ويحيى السنوار .
عرفت سحر روائية وعزمي مفكرا والسنوار سياسيا . أنجزت الأولى ما لا يقل عن عشر روايات والثاني روايتين والثالث رواية ، وفي الرواية تتعدد الأصوات الروائية وتتنوع ، والحكم على موقف الروائي ، من البقاء أو الرحيل ، لا يعتمد على ما يقوله الشخوص بل بما يمارسه الروائي .
تشبث بطل حبيبي بخازوقه ورفض الهجرة ومثله حبيبي نفسه ، ولا نستطيع أن نخوض في هذا ونحن نناقش حالة كنفاني ، لأنه في ١٩٤٨ حين ترك عكا كان في ال ١٢ من عمره ، أما الحسيني ؛ جمال واسحق ، فكتبا وهما في القدس ؛ وجد الأول نفسه خارجها في ١٩٤٨ وفي ١٩٦٧ ومات الثاني فيها ودفن .
خليفة التي أقامت في نابلس حتى ١٩٩٣ استقرت لاحقا في الأردن ، وبشارة الذي ولد في الناصرة وعاش فيها غادر إلى العالم العربي ، وأما السنوار فما زال في غزة وهو الذي قاد أحداث ٧ أكتوبر .
في روايات سحر التي كتبتها في الأرض المحتلة شغل موضوع الأرض والبقاء فيها حيزا كبيرا من صفحاتها ، وقد بدا ذلك في " الصبار " و " عباد الشمس " وبدرجة أقل في " باب الساحة " و " الميراث " .
في " الصبار " ( ١٩٧٦ ) تصوير لواقع أهل نابلس بعد ١٩٦٧ ، هؤلاء الذين صاروا بالآلاف عمالا في المصانع الإسرائيلية التي دفعت لهم أجورا مرتفعة أغرت كثيرين منهم بترك الأرض وإهمالها ، ومع ذلك فقد كان سلوكهم هذا أفضل من الهجرة إلى . لقد فضلوا البقاء والعمل على الهجرة إلى وصاروا يتغنون بالبقاء والصمود .
" أنا صامد صامد
على بوكسة حامض "
يردد طفل فلسطيني يسخر من الصمود ، ولكنه حتى في عبارته الساخرة هذه يعكس حوارات كثيرة دارت على الألسن يدعو أصحابها إلى عدم الهجرة ؛ التي بدأت مع حرب أكتوبر ١٩٧٣ تتزايد بخاصة إلى دول النفط التي فتحت حدودها للوافدين ودفعت لهم الأموال المغرية .
إن نغمة الحزن على ما ألم بالأرض منذ هجرها مالكوها وصاروا عمالا في المصانع الإسرائيلية تبرز بجلاء على ألسنة شخوص الرواية المنتمين وطنيا ، وتستمر هذه النغمة أيضا في الجزء الثاني " عباد الشمس " ( ١٩٧٩ / ١٩٨٠ ) .
في " باب الساحة " ( ١٩٩٠ ) التي كتبت عن الانتفاضة الأولى إتيان على التضحيات الجسام في مقاومة الاحتلال ، وتنتهي الرواية بمشاركة فعلية لإحدى الشخصيات النسوية بالمجابهة من أجل فلسطين التي تصورها بغولة تأكل أبناءها .
"الميراث " ( ١٩٩٧) التي تأتي على مرحلة السلام المبندق ، كما تقول روح الرواية ، معبرة عن رؤية سحر ، لا تشجع على البقاء ، فعادل القادم من ألمانيا ليستقر في وطنه يفاجأ بحجم الخراب ، فيقرر العودة إلى حيث جاء . هل كان ما قام به هو ما يدور في أعماق الكاتبة ، إذ سرعان ما غادرت أيضا لتستقر في عمان ؟
لا يختلف بشارة ، في روايته " حب في منطقة الظل " ( ٢٠٠٦ ) ، عن خليفة .
عزمي ابن الناصرة مدينة توفيق زياد صاحب قصيدة " هنا باقون " التي تتلمذت عليها أجيال من الفلسطينيين الباقين فتغنوا بها وصمدوا ، عزمي مع تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء السكان ، إثر اتفاقية أوسلو ، عبر على لسان بطله عمر عن شعوره بالغربة وعدم الانسجام ، ما جعله يفكر بمغادرة أرض الآباء والأجداد . ما فكر فيه عمر مارسه عزمي الذي غادر واستقر في قطر .
عندما قاربت الرواية ، رابطا بين سلوك الشخصية وسلوك عزمي ( ٩ / ٩ / ٢٠٠٧ ) ، مرر لي الكاتب في مؤتمر جامعة فيلادلفيا في الأردن في ٢٠٠٩ ، وكنا معا على المنصة ، قصاصة وصف بها ملاحظتي بأنها ذكية .
عموما لقد سار الكاتبان على خطا محمود درويش وغادرا فلسطين ، ما دفعني لأكتب " سحر وعزمي على خطى محمود درويش " ( ٨ / ٩ / ٢٠١٣ ) .
اختلف يحيى السنوار في روايته الوحيدة التي يمكن أن تعد " سيرة روائية " " الشوك والقرنفل "( ٢٠٠٤) عنهما ، فهو الذي أنفق أكثر من عشرين عاما في السجون الإسرائيلية تشبث بالأرض وآثر البقاء ، على الرغم من قسوة الحياة في غزة . لقد عبر عنها في الرواية من خلال شخصية إبراهيم زوج مريم .
عندما كانت سبل الحياة في غزة تضيق تقترح أم زوجته عليه أن يخرج إلى الأردن عله يحصل على فرصة عمل في السعودية ، ولكنه يرفض الاقتراح ويحسم أمره بالبقاء وعدم مغادرة غزة ولو عاش فيها على الخبز وحده ، وعندما أنجبت مريم طفلة أسماها إسراء حتى تذكره كلما رآها بواجبه تجاه أرض الإسراء والمعراج والمسجد الأقصى " وبما أن الأولاد أحد أسباب تقاعس الناس عن الجهاد ، فإن تسميتها إسراء يجعل هذا سببا لدفعي لواجبي ، بدلا من أن يكون سببا لتقاعسي " .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ٢٥ / ٢ / ٢٠٢٤ )
السبت والأحد والاثنين ١٧ و ١٨ و ١٩ / ٢ / ٢٠٢٤

***

22- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : يوميات مقتلة غزة وإبادتها وإهلاكها جوعا

لا أعرف إن كان هناك من كتب يوميات المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة ؛ يوما يوما صباح مساء ، ولا أرجح أن من يكتب اليوميات أو يصدر كتابا تحت عنوان " يوميات " كتبها يوما يوما ، ولنا في الأدب الفلسطيني نماذج من خليل السكاكيني " يوميات السكاكيني " مرورا ب " يوميات الحزن العادي " لمحمود درويش و" يوميات غزة " لمعين بسيسو ، والأول هو أكثر من كتب اليوميات يوما يوما .
كنت أتابع صفحات عديدة لكتاب غزة المقيمين فيها لأقرأ يوميات ، فلم تشف غليلي باستثناء ما كتبه عاطف أبو سيف الذي عاش أجواء الحرب حتى يومها الخامس والثمانين ، ثم خرج من معبر رفح .
ولكي أكون أكثر صدقا فإن الصفحات التي تابعتها هي لعثمان حسين ونعمة حسن وطلعت قديح ومحمود جودة وعمر حمش ومريم قوش وشجاع الصفدي وخضر مححز وآلاء القطراوي ، وهناك إبراهيم خشان الذي لم أقرأ له من قبل . لقد كتب هؤلاء ، ومنهم من كتب يوميا ، ولكن نصوصهم كانت قصيرة غالبا ، وغالبا ما غلب عليها الطابع الإخباري ، ولا يعني هذا أن قسما منهم لم يكتب نصوصا تنفلت من السمة الإخبارية ؛ نصوصا لا تخلو من جماليات ما .
هل كان لسان حالهم هو قول محمود درويش في " حالة حصار " ( ٢٠٠٣ ) :
" الشهيد يعلمني : لا جمالي خارج حريتي " ؟
عندما كنت أحيانا قليلة ألتفت إلى خطأ لغوي أو نحوي - قد أقع أنا أيضا فيه - رد علي بعض الكتاب أن هذا ليس وقته .
كان أبو سيف بصفته الروائية يكتب موظفا قدرته اللافتة في السرد . كان يكتب في ظروف صعبة قاسية ، واللافت هو اهتمامه بالتفاصيل التي خلت منها كتابات الآخرين ، وعندما سألته كيف يكتب ما يكتب في هذه الأجواء ، أجابني بأنه يعاني كثيرا في الحصول على النت وشحن اللابتوب ، وأنه يستغل أماكن ، يرتادها في ساعات محددة ، تخلو من البشر .
وأنا أتصفح بقية ما كتبه غيره لاحظت أن أغلب كتاباتهم أقرب إلى المقطوعات القصيرة التي تصف ، وتعبر عن مشاعر آنية لحظية ، نادرا ما حفلت ببعد معرفي مستمد من كتابات سابقة ، وغالبا ما كان سبب ذلك الحالة النفسية وانقطاع الكهرباء والنت وعدم توفر أجواء القراءة والكتابة في ظل الاكتظاظ السكاني في الأماكن التي يقيمون فيها .
ومما لاحظته أيضا أن نصوص أدباء غزة في حروبها السابقة لم تستحضر ، فالحرب هذه هي استمرار لحروب عديدة عاشها القطاع من قبل ، من ١٩٥٦ و ١٩٦٧ حتى ٢٠٢١ وهذه الحرب ، وهذا دفعني إلى التساؤل عن السبب :
- أهو الظرف الذي يمرون به أم هو انقطاعهم عن قراءة النصوص السابقة أم عدم بقائها في ذاكرتهم ، إن هم قرأوها ؟
هذه الحرب هي استمرار لحروب سابقة ، وما يتردد فيها من حديث عن تهجير وإبادة كتب عنه إبراهيم طوقان ، وما يقال عن تهجير وتوطين في سيناء كتب عنه معين بسيسو في كتابيه " دفاتر فلسطينية " و " يوميات غزة " عن خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن ٢٠ ، وبالتالي يفترض أن تستحضر ذاكرة الكاتب تجارب سابقة ليبني عليها .
عندما بدأت أكتب يوميات غزة في هذه المقتلة ، وكنت كتبت يوميات حرب ٢٠٢١ ، وجدتني أعيش الحرب وأعيش أيضا الحروب السابقة ، كما كتب عنها كتاب كثر سابقون ، غير طوقان وبسيسو ، وأبرزهم محمود درويش وهارون هاشم رشيد وغريب عسقلاني ومريد البرغوثي وفدوى طوقان وزياد عبد الفتاح ... و .. ولعل ما ساعدني في ذلك هو ذاكرة ممتلئة بالنصوص السابقة ، ومكتبة تحفل بها كتب أصحابها ، وترف وقت لم يتوفر لكتاب غزة المقيمين فيها ، وقلق اللحظة قلقا إيجابيا لا قلقا سلبيا ، وتفرغ تام للكتابة تفرغا لم يحفزني لقراءة كتاب أو موضوع خارج محيط المقتلة ، وربما لأول مرة منذ عقود لم أقرأ كتابا جديدا أو أشاهد مبارة كرة قدم أو ... .
غير أن الذاكرة والنصوص السابقة وترف اللحظة والحالة لم تكن كلها وراء ما كتبت ، فهناك نشرات الأخبار وأشرطة الفيديو وقراء الصفحة وملاحظاتهم وهم لا بأس بهم ، وما أسمعه في الحافلة وفي الشارع أيضا على قلته ، ثم الأصدقاء الذين أمطروني بأشرطة فيديو ومقالات وحوارات بيننا عبر الماسنجر غالبا أو عبر الهاتف ، وكنت أصوغ بعض هذه الحوارات لتثري النص المكتوب ، كما كنت أتكيء على التعليقات أحيانا في كتابة موضوع استوحيته منها .
في حوار مع إحدى الفضائيات سألتني المحاورة إن كانت كتابة اليوميات مرهقة فأجبت بأنها تستهلك مني وقتي كله ، ولكن ما قيمة هذا أمام ما يعانيه المواطنون الغزيون !!
كتابتي هي كتابة من خارج مكان المقتلة . هكذا يجب أن ينظر إليها ولا أظنها مختلفة اختلافا كليا عن تلك اليوميات التي كتبتها في العام ٢٠٢١ .
في العام المذكور بدأت أكتب سلسلة يوميات تحت عنوان " ذاكرة أمس " واخترت لها أولا مدينة نابلس وشارع النصر في البلدة القديمة منها ، ثم اندلعت الحرب في غزة فشعلتني عن الشارع وما فيه ، وعندما بلغ عدد اليوميات مائة وجمعها لي الصديق المغربي مهدي ناقوس فكرت أن أصدرها في كتاب طلبه مني صاحب مكتبة دار الشامل في نابلس ، وتعذر إصداره . لقد اخترت للكتاب عنوان " يوميات شارع النصر وحرب غزة " .
في الحرب الدائرة حاليا اتصل بي الروائي زياد عبد الفتاح المقيم في مصر واقترح علي أن نصدر معا كتابا يحوي ما كتبه وقسما مما كتبت وهو ما كان ، فقد صدر الكتاب في هذا العام عن دار ميريت المصرية . وأظن أنه سيمكن القراء من التمييز بين شكلين من الكتابة ، وإذا قرأ المرء كتاب عاطف ابوسيف فسوف يرى الفارق واضحا بين الكتابة عن الحدث من غزة ومن الضفة الغربية ومن القاهرة .
والخلاصة أن كتابة يومياتي ما كان ليتم على ما كانت عليه لولا رفد الآخرين لي بمواد واقتراحات وأشرطة . إنها يومياتي ويومياتهم ويوميات غزة .

الأربعاء والخميس ٢١ و ٢٢ / ٢ / ٢٠٢٤
( مقال لدفاتر الأيام الفلسطينية ٣ / ٣ / ٢٠٢٤ )

***


23- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : العالم بعيدا عن غزة والضفة الغربية

في ٢٥ شباط ٢٠٢٤ غادرت نابلس ، لأول مرة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ ، بداية طوفان الأقصى ، لأشارك في ندوة ، في معرض الكتاب في سلطنة عمان ، ندوة عنوانها " التشبث بالأرض في الأدب الفلسطيني " . غبت ثمانية أيام وعدت في الرابع من آذار . ركبت السيارة والطيارة ونمت في فندقين وتجولت في الشوارع والأسواق وصالات المطار ، ولم أنس أنني وشعبي نعيش تحت الاحتلال ، وأن أهل غزة يعانون من ويلات الحرب وقسوتها ، وما مررت به قال لي إن الحياة ، بعيدا عن فلسطين ، مختلفة تماما ، وأن اهتمامات الناس هناك لا تمت بصلة لما نعانيه ونكابده ، وأن أكثر ما يمكن أن يقدمه الآخرون لنا لا يعدو عبارة تعاطف يمكن اختصارها ب " الله ينصركم ويكون بعونكم ويقويكم على عدوكم " .
مثلا السائق الذي أقلني من الجسر إلى عمان ، وهو لداوي لاجيء ستيني ولد في مخيم الجلزون وهاجر مع أهله في حزيران ١٩٦٧ ، تحدث طويلا عن معاناته وعذابات السواقين ، وكان فاتحة الحديث هو استفساري عن سبب عدم توصيله الركاب ، هو وغيره من السواقين ، إلى الموقف المحدد في " طبربور " . السائق لم يأت على ما يجري في غزة . الحديث عن غزة حضر مع صديق اصطحبني ليلا من الفندق إلى الأسواق الجديدة في عمان ، المقامة على أرض مبنى المخابرات الأردنية السابق في الشميساني ، ولأول مرة أسمع باسم ( بوليفارد
) . عالم مختلف تماما عما تختزنه الذاكرة . من مقر مخابرات إلى سوق تجاري حديث أوروبي الشكل والنمط . في بوليفار ليلا يعيش الناس حياتهم بالطول والعرض ، مكررين قول محمود درويش " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " ، كأن لا حرب هناك في غزة ، فلا قتلى ولا جرحى ولا جوعى ولا مشردين بلا مأوى ولا مرضى بلا علاج . لا شيء لا شيء من هذا ، فالعالم كله شبعان ريان وكاس غير عريان ولا ينقصه شيء ، وفي صالة الطعام في الفندق صباحا تحتار فيما تختاره ، بعد أن نمت ليلا في غرفة مكيفة .
في مطار الملكة علياء الذي وصلت إليه بسيارة حديثة مكيفة تمشيت وتابعت حركة البشر المنشغلين بختم جوازات سفرهم والتجول في السوق الحرة . في المطار ترد إلى مسامعك مفردات لغات مختلفة ، فتشعر أنك في برج بابل الذي يتحدث فيه البشر كل بلغته ، والفارق هو أن برج بابل في المطار لا يدخل اللغات إلى نهر ( ليثي ) ليفهم الجميع اللغات كلها بعد صهرها بلغة واحدة - أعني أن النهر لا يحول كل شيء يدخل إليه إلى ذهب - أي اللغات إلى لغة واحدة ، وفي المطار لا تفهم اللغات كلها . وفي المطار تصغي إلى صوت يوجه الركاب إلى طائراتهم ، والركاب مشغولون بأحاديث جانبية ، ربما عن العائلة والوطن والعمل وأسعار العملات والمشتريات ووجبات الطعام في الطائرة . في مطار الدوحة يصطحبك الصديق فخري صالح إلى صالة المها المسموح دخولها لحملة البطاقة الائتمانية ( إليت / Elite ) التي لم تفعلها أنت .
قبل أن أقطع جسر الملك حسين كنت أكتب يوميات المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة صباح مساء ، وأما منذ قطعته ، وصرت خارج حدود فلسطين ، فقد انصرف ذهني إلى السفر والطائرة والفندق والسوق والإقامة ، وما عدت أصغي ٢٤ ساعة إلى الأخبار وما عدت أشاهد الأشرطة واستحضر كتبي وأظل مشغولا بما سأكتب . لقد أخذتني تفاصيل السفر إلى عوالم مختلفة ، وصارت غزة وفلسطين بعيدة ، فانطبق علي المثل الشعبي " البعيد عن العين بعيد عن القلب " وتيقنت من أن مناشدة الفلسطينيين العرب والمسلمين ، لمساعدتهم ، ليس أكثر من سلوك دونكيشوتي .
في مطار مسقط استقبلنا مضيفنا العماني . رحب بنا وأقلنا إلى فندق هرمز ( داريسدون ) لننفق الليلة الأولى ونحاضر في مساء اليوم التالي عن " التشبث بالأرض في الأدب الفلسطيني " . هل ينسى العرب فلسطين ؟ ها هي تحضر في معرض الكتاب في سلطنة عمان ويصغي العمانيون إلى أبنائها - أي فلسطين ، يتحدثون عنها مدة ساعة ، ثم ... ثم تسير الحياة وتستمر ، وتنتهي المحاضرة والنقاش ، وينصرف الحاضرون الذين لم يتجاوز عددهم الأربعين إلى شؤون حياتهم ، وينصرف المتحدثون إلى الفندق ومطعمه يواصلون أحاديث جانبية عن الأدب والأدباء ؛ الأحياء منهم والأموات .
هل تدور حرب في غزة ؟
الحرب في غزة محتدمة يعاني من ويلاتها الغزيون ، أما نحن ، في الفندق والسوق وعلى شاطيء بحر عمان ، فنأتي على سيرة محمود درويش وبهارات عدن ونتمشى على الشط ، وحين نجلس في المقهى لنستمتع بمنظر البحر يطلب منا النادل أن نترك الطاولة لنجلس على أخرى داخل المقهى ، فالرياح تنبيء بمطر غزير ، وما هي إلا دقائق حتى انهمرت الأمطار واشتدت الرياح وطارت المظلات ، وفي داخل المقهى نتحدث مع الكاتب العماني محمود الرحبي والسعودي طاهر الزهراني عن روائيات وروائيين سعوديين ؛ محمد حسن علوان وعبده خال ووردة عبد الملك وصبا الحرز ورجاء صانع ، وينضم إلينا الكاتب المغربي محمد جليد ، لنواصل الثرثرة في الأدب ، ولا نأتي على ما يجري في غزة . هل كان يجري في غزة شيء ؟ هل كان ثمة قتلى وثمة جرحى يعانون من نقص الأدوية ومستلزمات العمليات الجراحية ؟
كأن لا شيء يحدث في غزة !!
غزة التي تعيش أسوأ كوابيسها .
في مسقط نزور المتحف الوطني وسوق مطرح ونشاهد قلعة الجلالي . في المتحف نحضر فيلما عن عمان ، وفي السوق يشتري فخري البهارات ، فقد نصحه بها صبحي حديدي ، وعن قلعة الجلالي يحدثنا محمد الشعري الروائي العماني . يحدثنا عن سجنها وبعض سجنائها ، والذاكرة ما عادت حديدية .
العالم بعيدا عن غزة لا يعرف عنها وقد يهتم بأمرها وقد لا يعنيه أمرها كثيرا ، وفي أحسن الأحوال قد يتعاطف مع المقاومين وينظر للحلول القادمة من منظور إسلامي ، فيبدو مطمئنا ، فالله في كتابه الكريم وعدا المسلمين بالنصر و ... و ... .
العالم بعيدا عن غزة والضفة الغربية يواصل حياته العادية كأن لا حرب هناك ولا جوعى ولا عطشى ولا قتلى ولا جرحى بالآلاف ولا .. ولا .. ولا .. .
مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية في ١٠ / ٣ / ٢٠٢٤ .
٥ / ٣ /:٢٠٢٤
عادل الاسطة

***

24- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : استحضار نصوص أدبية فلسطينية وأخرى عربية

في ٢٧ شباط ٢٠٢٤ شاركت في معرض الكتاب في سلطنة عمان بندوة عنوانها " التشبث بالأرض في الأدب الفلسطيني " ، صحبة الناقدين صبحي حديدي وفخري صالح ، وقد دعاني إليها الكاتب العماني سليمان المعمري .
كان مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية " تداعيات حرب ٢٠٢٣ : غزة وأبناؤها وغزاتها: هل تتواطأ الأرض مع الفلسطيني ؟ " مدخلا لحوار إذاعي مع الكاتب العماني ومن ثم سببا لدعوتي للندوة التي أنفقت أربعة أسابيع أكتب أربعة مقالات من أجلها ، مسترجعا ما يختزن في الذاكرة من نصوص أدبية فلسطينية قرأتها حول الموضوع وكتبت عنها ، ولأنني أسافر إلى سلطنة عمان لأول مرة ، فقد كان علي أن أسترجع نصوصا أدبية قرأتها عن عمان ، علني إن التقيت مع أبنائها أتحدث معهم في بعض ما يخص حياتهم ، فلا يعقل ألا أعرف شيئا عن بلادهم وحياتهم ، ولا يعقل أن أتحدث عن فلسطين ، فقط ، التي يعرفون عنها بلا أدنى شك .
هل ينسى قاريء فلسطيني قصة غسان كنفاني " موت سرير رقم ١٢ " ، ولكن هل تكفي هذه القصة وحدها ، وقد كتبت في خمسينيات القرن ٢٠ ، والسلطنة الآن مختلفة تماما عما كانت ؟
ليس إذن إلا الأدب العماني نفسه الذي تعرفت إلى القليل منه من خلال مجلة نزوى ومن رواية الدكتوره جوخة الحارثي " سيدات القمر " ( ٢٠١٢ ) التي فازت ، في العام ٢٠١٩ ، بجائزة مان بوكر العالمية للرواية المترجمة .
في قصة غسان قرأنا عن عمان الفقيرة التي يهاجر أبناؤها الفقراء ، في خمسينيات القرن ٢٠ ، إلى الكويت ، بحثا عن عمل يثرون من ورائه ويعودون إلى بلادهم فيتمكنوا من تحقيق أمنياتهم وتجسيد رغباتهم ، ولكنهم يموتون هناك في المنفى غرباء ومجرد أرقام فلا يجدون من يعرف أسماءهم أو من يهتم بجثثهم . هكذا يموت محمد علي أكبر مجرد رقم في مشفى كويتي . لا أهل حوله ولا أصحاب ، بل ولا اسم في المشفى له . إنه سرير رقم ١٢ .
قالت لي قصة غسان ، عن السلطنة ، القليل جدا ، ولكني عرفت الكثير من خلال رواية جوخة .
في صيف العام ٢٠١٩ درست طلبة الماجستير في جامعة النجاح الوطنية مساق " موضوع في الأدب العربي الحديث " واخترت رواية " سيدات القمر " نموذجا ، وصرت أكتب يوميا عنها على صفحة الفيس بوك ، بالإضافة إلى مقال أو اثنين في جريدة الأيام الفلسطينية ، وقد تجمع لدي مادة تصلح لنشرها في كتاب ، ومن خلال الرواية عرفت الكثير عن المجتمع العماني ، وقبل أن أسافر بأيام عدت إلى ما كتبت لأقرأه وأتذكر صورة المجتمع العماني ، كما ظهرت في الرواية التي عدها بعض قرائها قريبة من رواية الكاتب الكولومبي ( غابرييل غارسيا ماركيز ) " مائة عام من العزلة " التي تقص عن قرية ( ماكوندو ) ، إذ تروي رواية جوخة عن مائة عام أيضا ، ولكن عن قرية عمانية مفترضة ، هي العوافي ، وعن مسقط أيضا ما يقارب المائة عام .
عرفت من الرواية سلطنة عمان خلال مائة عام ؛ عرفت عن التركيبة الاجتماعية للمجتمع العماني الذي كان يتكون من أسياد وعبيد وكان قسم من الأخيرين راضين بعبوديتهم وإن أخذ قسم آخر يحتج ويتمرد ويهاجر من عمان إلى دول مجاورة كالكويت ، وعرفت أن للأسياد أسماءهم وللعبيد أيضا أسماءهم ، وكان الأخيرون ملك يد السيد يعطف عليهم إن أطاعوه و ينتقم منهم إن عصوا أوامره ، وأدركت جيدا لماذا كان أبي يكرر على مسامع أبنائه " أنت ومالك لأبيك " ، والحمد لله أنه لم يقل أيضا " أنت ومالك وأبناؤك لأبيك " كما هو حال مجتمع الأسياد والعبيد ، فالعبد وأبناؤه كلهم ملك للسيد .
وعرفت من الرواية أيضا عن الطعام العماني في زمن الفقر ، ما جعلني أسأل عنه ، وقد ظننت أن السكان ، أمام ثراء عمان الحالي ، قد نسوه ، فإذا به معروف حتى الآن . طعام " القاشع " وهو السمك الصغير الذي نطلق عليه اسم " السريدة " .
وعرفت من الرواية أيضا عن الشاعر " أبو مسلم البهلاني " ( توفي ١٩٢٠ ) وقصيدته النونية في المنفى والحنين إلى الوطن ، كما عرفت عن تأسيس جامعة السلطان قابوس وتطور الحياة من مجتمع إقطاعي إلى مجتمع يلامس الحياة المدنية العصرية .
ولم تخل الرواية أيضا من أمثال شعبية يرددها العمانيون ، وهي تبدو لنا غريبة غير مألوفة . منها مثلا " المحبوب محبوب جا ضحى وجا غروب والرامد رامد جاء حاش وسامد - المحبوب يبقى محبوبا في أي وقت أتى وغير المحبوب يظل غير مرغوب فيه مهما اجتهد في الحصاد والسماد " .
وأنا أقرأ عن ثنائية المنفى والوطن في " سيدات القمر " عن عمان ومنفييها وعودتهم إليها توابيت أو برفقة توابيت تذكرت قول محمود درويش :
- يا ليت لي منفى ليكون لي وطن .
وتذكرت موتانا في منافيهم الذين حرموا حتى من ميزة الدفن في تراب بلادهم .
ونظرت إلى هجراتنا التي ، منذ العام ١٩٤٨ ، تتكاثر ولا تبدو لها نهاية .
بعض أهل شمال قطاع غزة هاجروا في هذه المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة أكثر من تسع هجرات والحبل على الجرار والميناء الأمريكي سينجز عما قريب !!
" قلنا سنخرج
عما قليل سنخرج
لا تسألونا كم سنمكث بينكم
لا تسألونا "
كتب محمود درويش في ديوانه " هي أغنية .. هي أغنية " ( ١٩٨٤ ) عن خروج العام ١٩٨٢ من بيروت .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية في ١٧ / ٣ / ٢٠٢٤ )
أنجز في :
٧ و ١٠ و١١ و١٢ / ٣ / ٢٠٢٤
دفاتر الأيام الفلسطينية .

***

25- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : اغتصاب الفلسطينيات : حقيقة أم إشاعات ؟ رواية " تفصيل ثانوي"

في شريط فيديو شاهدته أصغيت إلى فلسطينية من غزة احتجزت ، في الحرب الحالية ، لفترة ، ثم أطلق سراحها ، تأتي على ما ألم بها . طلب منها الجنود أن تنزع ثيابها فاعترضت واقترحت إحضار مجندات إسرائيليات .
في ٢٣ و ٢٤ / ٣ / ٢٠٢٤ تحدثت جميلة الهسي ، من غزة وتقطن قرب مجمع الشفاء عن اغتصاب فلسطينية حامل وقتلها وجنينها ، وبعض الروايات زعمت أن الاغتصاب تم أمام زوجها .
اختلفت ردود الأفعال إزاء سلوك الاغتصاب ، فقسم صدق وتذكر أسطر مظفر النواب عن القدس عروسا تغتصب ، وقسم قال إنها إشاعات يقصد من وراء بثها تهجير الغزاويين ، وربما أهل الضفة الغربية ، وطلب من الفلسطينيين ألا يروجوها وألا يكرروا تجربة ١٩٤٨ ، حيث استغل الإسرائيليون موضوع العرض لتسهيل تفريغ الأرض .
إحدى الغزيات في شريط فيديو منقول عن فضائية رددت أسطر مظفر النواب عن ظهر قلب ، إذ رأت أن ما قاله ينطبق الآن على غزة .
ما سبق ذكرني بما ورد عن الاغتصاب في أدبيات الصراع الفلسطيني الصهيوني منذ ١٩٤٨ ، بخاصة أنني أعيد قراءة رواية عدنية شبلي " تفصيل ثانوي " ( ٢٠١٧ ) التي تأتي على حادث اغتصاب ضابط إسرائيلي وجنوده ، في آب ١٩٤٩ ، فتاة بدوية في صحراء النقب ، معتمدة على قراءة ساردتها مقالة صحفي إسرائيلي عن حادث الاغتصاب .
وأنا أكتب عن رواية أكرم مسلم " بنت من شاتيلا " ( الأيام الفلسطينية ٤ / ٨ / ٢٠١٩ ) أشرت إلى فعل الاغتصاب فيها وفي روايات أسبق مثل " الطريق إلى بئر سبع " ل ( ايثيل مانين ) و " بلد المنحوس " لسهيل كيوان ، وفي كتاب ( إيلان بابيه ) " التطهير العرقي " ، ويمكن العودة إلى المقال .
صدرت رواية " تفصيل ثانوي " ، والأصح القصة الطويلة ( النوفيلا ) عن دار الآداب ، في بيروت ، وتقع في ١٢٧ صفحة ، وقد نقلت إلى الإنجليزية والألمانية ونافست على القائمة القصيرة لجائزة ( مان بوكر ) البريطانية للرواية المترجمة ، وحصلت على جائزة ( ليبيراتور برايس ) من ألمانيا وكان يفترض أن تتسلمها الكاتبة في أكتوبر ٢٠٢٣ في فعاليات معرض الكتاب في فرانكفورت ، لولا تأجيل الحفل بسبب الحرب التي انحازت فيها ألمانيا الرسمية إلى إسرائيل ، ما أثار ضجة حول الموضوع كون الكاتبة فلسطينية ، علما بأنها تقيم في بريطانيا وتدرس في إحدى جامعاتها . ومن يرد أن يقرأ عن الضجة التي أعقبت الحدث فما عليه إلا أن يكتب اسم المؤلفة وعنوان روايتها وعبارة حرمان من الجائزة ليرى كيف تحولت تفصيل ثانوي إلى تفصيل رئيسي وشغلت الصحافة والقراء .
تتكون النوفيلا من قسمين بلا عناوين فرعية ؛ يدرج الأول تحت الرقم ( ١ ) ويمتد من صفحة ٥ إلى صفحة ٦١ ، والثاني تحت الرقم ( ٢ ) ويشغل الصفحات ٦٣ إلى ١٢٧ . ويسرد الأول ، بضمير الغائب / الهو ، سارد غير محدد الملامح ، والثاني بضمير الأنا وتسرده باحثة شابة فلسطينية من الضفة الغربية ، من مناطق " أ " تحديدا ، وتقيم في رام الله ، وتروي عن شغفها بالبحث عن قصة اغتصاب الفتاة الفلسطينية البدوية ، والباحثة من مواليد ١٩٧٤ ، وهو تاريخ ميلاد عدنية شبلي ، " ومرة أخرى ، مجموعة من الجنود يأسرون فتاة ، يغتصبونها ، ثم يقتلونها في ما سيصادف بعد ربع قرن يوم مولدي ، هذا التفصيل الثانوي ، الذي لا يمكن إلا أن يستهين به الآخرون ، سيلازمني إلى الأبد رغما عني ومهما حاولت تناسيه ، حيث ستبقى حقيقته تعبث بي بلا انقطاع ، بما فيي من ضعف وهشاشة .. " .
تغامر الباحثة التي لا يسمح لها بدخول المناطق المحتلة ١٩٤٨ والقدس ، فتوافق على عرض زميلتها المقدسية المتمثل بإعارتها هويتها لتسافر بها إلى يافا فتل أبيب فصحراء النقب مكان الاغتصاب ، ويستأجر لها صديق مقدسي باسمه أيضا سيارة ، وتحضر للمكان خريطتين ؛ واحدة لفلسطين قبل العام ١٩٤٨ والثانية إسرائيلية ، وتحكي من خلالهما تهويد المكان وعبرنته ، وتتمكن ، بعد جهد جهيد ، من الوصول إلى مكان الاغتصاب لتعاين حيثيات الجريمة وفجأة تدخل منطقة عسكرية فتقع في ورطة إذ ماذا لو اتصل جنود الجيش بالشرطة واكتشف أنها بهوية مزيفة وتقود سيارة مستأجرة باسم شاب . وتنتهي النوفلا بالأسطر الآتية :
" فجأة يغمرني ما يشبه الحريق الحاد في يدي ثم صدري ، يليه أصوات إطلاق نار بعيدة " .
والنهاية تترك مجالا للاجتهاد . هل أطلق الجيش النار على الساردة فقتلها أم أنها ، في لحظة اكتشاف الجيش لها رأت مصير الفتاة البدوية المغتصبة في العام ١٩٤٩ ؟
هل ثمة دلالة رمزية لحادث اغتصاب الفتاة أم أنه واقعي ؟
في طريق الساردة / الباحثة من رام الله إلى يافا إلى النقب تركز على المكان الذي تتحرك فيه وتنظر في الخريطتين وتقارن بينهما . كان الاسم وصار الاسم . هل هذه التغيرات في الأماكن واخفاء المكان الفلسطيني يوازي اختفاء الفتاة البدوية ، وبالتالي تصبح الفتاة رمزا لفلسطين أرضا ، وفي القسم الأول الذي يأتي على حادثة الاغتصاب نقرأ عن مرايا الذات والآخر - أي الفلسطيني واليهودي ، نقرأ ما قرأناه في الأدبيات الصهيونية والعربية ، فالبدوية رائحتها كريهة نتنة واليهودي يهتم بنظافته ، والأرض بأيدي العرب صحراء قاحلة سيحولها اليهود إلى جنة ... إلخ .. إلخ ، وهذا الموضوع يحتاج إلى كتابة خاصة يسأل فيها إن اختلفت الصورة المقدمة في الرواية عنها في سابقاتها

( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية في ٣١ / ٣ / ٢٠٢٤ )
أنجز في الاثنين والثلاثاء ٢٥ و ٢٦ / ٣ / ٢٠٢٤ .

***

26- رغيف خبز الفلسطينيين المغمس بالدم

لم تكن الحرب حربا بين طرفين مسلحين وحسب، فلقد كانت حرب وجود كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) بعد أحداث ٧ أكتوبر، وعزز قوله هذا وزير دفاعه (يوآف غالانت) حين قال مكشرا: لا ماء. لا كهرباء. لا طعام. لا وقود، ولم يكتف بالقتل.
دمرت إسرائيل المباني وهجرت سكان شمال القطاع ووسطه نحو الجنوب، ثم منعت لفترة طويلة دخول المواد الغذائية، فعز الرغيف وهلك الناس جوعا، حتى ليصح أن تنعت هذه الحرب بحرب الطحين والرغيف أيضا، وقد يكتب روائي رواية يسميها “شوال طحين” أو “كيس طحين” أو “الرغيف” أو “الموت جوعا” أو “أبو عمرة”، وتسميات مثل هذه عرفها الأدب العربي والفلسطيني، فللروائي اللبناني توفيق يوسف عواد رواية “الرغيف” (١٩٣٩) ولسميرة عزام قصة “خبز الفداء” (١٩٦٠) ولمحمد كمال جبر مجموعة “شوال طحين” (١٩٨٠) وللمغربي محمد شكري سيرة “الخبز الحافي” (١٩٧٢نشرت بالعربية ١٩٨٢) ولمحمود درويش قصيدة “الخبز” (١٩٧٧)، وفي متشائله أتى حبيبي على تسمية العرب الرغيف “أبو عمرة” وذلك حين كتب عن اللداوية التي هاجرت إلى عمان وعاشت مع زوجها الفقر والجوع “تستف الثرى” (١٩٧٤).
لم نشاهد أشرطة فيديو تصور المعارك بين المتقاتلين وحسب، ولم نقرأ فقط عن أخبار المعارك، ولم نر جثث الجنود الموتى أو صور الجرحى منهم فحسب، بل كثيرا ما قرأنا عن الجوع والموت جوعا لقلة المواد الغذائية ونقص الطحين، فاضطر الناس إلى أكل الخبز المصنوع من علف الدواب، وقرأنا أيضا عن قتلى كثر قنصهم القناصة أو قتلتهم المسيرات أو المدفعية وهم يسعون للحصول على كيس طحين، وشاهدنا وقرأنا ما هو أكثر.
قرأنا عن ابن جاع أبوه فغامر ابنه، في حصار جباليا، ليحضر له كيس طحين، فقنصه قناص. لم يعد الابن سالما ولا وصل الطحين، وشاهدنا شريط فيديو لامرأة تركت أولادها الخمسة مع أبيهم لتحضر لهم الطحين، فلما شعرت بثقل في صدرها ولعب الفار في عبها خوفا، عادت لتطمئن عليهم، فلم تجد الدار ولا الأولاد والزوج. لقد سوتهم القذائف بالأرض.
وأنا أتابع أخبار الطحين واختلاطه بالدم والجوع والاستغلال حضرت إلى ذهني أعمال أدبية فلسطينية عديدة أتى كتابها على رحلة الجوع في حياة الفلسطيني منذ ١٩٤٨، بل ومنذ أيام السفر برلك.
كانت سميرة عزام في قصتها أول من كتب عن خبز مغمس بالدم، فحين حوصر المقاومون في عكا وجاعوا غامرت سعاد بالخروج لتحضر الخبز لهم، فقنصها القناصة وهي عائدة، فسال دمها على الخبز، واضطر المقاومون إلى أكله حتى يصمدوا، فلم تكن لترضى لهم أن يموتوا جوعا. لقد حكى رامز لرفاقه المقاومين قصة فداء الحياة بالجسد والدم وهي قصة عرفتها أرض فلسطين “كلوا! هذا هو جسدي.. وهذا هو دمي فاشربوا”.
ولم يختلف غسان كنفاني عنها كثيرا، ففي خمسينيات القرن٢٠ كتب قصته “القميص المسروق” التي أتى فيها على متاجرة بعض مسؤولي وكالة غوث اللاجئين بطحينهم، حيث يؤجلون تسليمه شهريا مدة عشرة أيام ليبيعوه للتجار غير عابئين بجوع أهل المخيم. هكذا كان كيس الطحين يمشي في الليل “إن رأيت الآن كيس طحين يمشي من أمامك فلا تذع السر لأحد” يخاطب اللاجئ اللص أبو سمير أبا العبد اللاجئ الذي عرض عليه العمل معه، ولكنه يرفض على الرغم من حاجته إلى النقود لشراء قميص لطفله الذي يقر من البرد.
في الحرب الأهلية في لبنان، كتب محمود درويش قصيدته “الخبز” عن حرب الجياع، ومنها “لم يكن للخبز في يوم من الأيام هذا الطعم، هذا الدم هذا الملمس الهامس هذا الهاجس الكوني هذا الجوهر الكلي هذا الصوت هذا الوقت هذا اللون هذا الفن هذا الاندفاع البشري هذا السحر”.
وعندما استحضر بعض الكتاب، مثل جمال بنورة، في قصصهم، زمن الحكم التركي كتبوا عن المجاعة التي حدثهم عنها أجدادهم. نقرأ هذا بوضوح في قصة “هكذا قال جدي”، فالجد يحكي للحفيد عن أيام الغربة التي قضاها بالجوع والألم “وصلت بنا الأمور إلى حد أكلنا الشعير المخلوط بروث الحيوانات.. نحافظ به على بقائنا ..” وفي قصة “حكاية جدي” (١٩٨١) يخاطب الجد الحفيد متسائلا: “هل تستطيعون أن تصمدوا إذا حدث إضراب لمدة ستة أشهر؟ هذا ما فعلناه… كنا نكتفي بأكل الخبز والزيت والعدس والقطين.. هل تكتفون أنتم بذلك؟”، ولا أعرف ماذا سيقول الجد لو امتد به العمر وعاش في شمال قطاع غزة منذ ٧ أكتوبر حتى اليوم؟!!
وإن اتخذنا من طفولة شاعر فلسطيني نموذجا نقارنه بحياة أطفال غزة في هذه الأيام فليس أوضح من طفولة الشاعر أحمد دحبور الذي هاجر أهله من حيفا في ١٩٤٨، وكان في الثانية من عمره، فعاش في مخيم لاجئين، فقيرا معدما أقام وأهله في غرفة واحدة، بل إن أخاه الأكبر تزوج في الغرفة نفسها وكان الفاصل بين العريسين وبقية أفراد الأسرة مجرد حرام نصب.
ومن المؤكد أننا إن عدنا إلى الأدبيات التي صورت حصار مخيم تل الزعتر في بيروت في ١٩٧٦، مثل رواية ليانة بدر “عين المرآة” فسنقرأ كتابة لا تختلف عما نقرؤه ونسمع عنه في هذه الأيام في غزة.

***

27- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: فدوى طوقان "مع لاجئة في العيد"

عندما وقعت النكبة في العام ١٩٤٨ امتلأت شوارع مدينة نابلس ومدارسها وجوامعها بأفواج اللاجئين ، وفيما أعرفه فقد أقاموا ، لمدة عامين أو أكثر ، فيها وفي المغر ، بل إن صديقي شعبان يخبرني أنه وأهله أقاموا في مغارة من مغاراتها لسنوات أطول ، قبل أن ينتقلوا للإقامة في مخيم عسكر . ومن صديقي نبيل سمعت باسم جامع الساطون ، فقد ولد فيه ، وبعدها ذهبت إلى الجامع أزوره وأتعرف إليه ، فهو يقع في حارة الياسمينة بالقرب من حمام " السمرا " الذي يعود تأسيسه لآلاف السنين . وكثيرا ما عرفت عن حياة اللاجئين حتى العام ١٩٥٨ - حيث حلت بيوت الباطون محل الخيام - من كبار السن الذين عاشوا في تلك الأيام وكانوا واعين ، وما زال قسم منهم على قيد الحياة ، مثل أبو زكر ( فاروق ) ، وهو سائق حافلة عمومية عمل والده وأبي في شركة الحافلات العاملة في ٦٠ القرن ٢٠ على خط مخيم عسكر - نابلس .
عندما كنت مشروع كاتب قصصي في ٧٠ القرن ٢٠ طلب مني الأستاذ أبو خالد البطراوي مجموعة قصص عن حياة المخيم ، ليصدرها مع قصص أخرى لقاص من غزة ، حتى تظهر صورة المخيم لدى قاصين من الضفة الغربية وقطاع غزة ، فيرى القاريء التشابه والاختلاف في بيئة المخيم في مكانين مختلفين . يومها كنت أصغي إلى لاجيء فلسطيني ، هو أبو محمد طقاطق ، عاش التجربة ووعاها وكان له حضور في المخيم ، وكنت أدون ما يقصه على مسامعي بأسلوب قصصي .
لم تصدر القصص التي لم أحتفظ بنسخة منها ، أنا المولود في الخيام وقد عشت فيها وفي غرف الصفيح ، ثم غرف الباطون . لقد عانيت مثل أبناء جيلي من قسوة الحياة ، وعندما قرأت ، في تلك الأيام ، قصص سميرة عزام وغسان كنفاني ، رأيت فيها الكثير مما يشبه حياتنا في مخيمنا . لقد كانت حياة اللجوء التي صورها القاصان تشبه الحياة التي نعيشها وعشناها ، بل إنني وأنا أقرأ قصة عزام " لأنه يحبهم " أخذت أبحث عن شخصيات من مخيمنا شبيهة لشخصيات القصة .
في تلك الأيام كانت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان تقيم في شارع النصر في البلدة القديمة من نابلس ، وهو شارع منه تدلف إلى حارة الياسمينة فجامع الساطون ، وربما من تجوال أبناء اللاجئين المقيمين في جامع الساطون استوحت قصيدتها المعروفة " مع لاجئة في العيد " التي ظهرت في ديوان " وحدي مع الأيام " ( ١٩٥١ ) ، أو أنها ربما زارت أحد مخيمات اللجوء وتجولت فيه ، وهو ما تقوله القصيدة التي كانت لفترة مقررة في المنهاج المدرسي الأردني ، وذكرني مؤخرا بهذا أحد الأصدقاء ممن أرسلت إليهم فقرة كتبتها عنها .
قبل أسبوع من بدء عيد الفطر ألح علي سؤال بخصوص العيد الأول للاجئي قطاع غزة في داخل القطاع نفسه ، وصرت أتابع ما يكتبه الكتاب وما يبثه ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي من أشرطة فيديو عن أطفال غزة ونسائها ورجالها في الاستعداد للعيد . كيف سيكون عيدهم الأول - بعيدا عن بيوتهم التي دمرها الإسرائيليون - في خيمة ينقصها كل شيء اعتادوا عليه ؟
عدت إلى القصيدة أقرؤها وأخربش حولها ، وكنت في أثناء هذه المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة أتيت على كثير من نصوص أدب النكبة لدرجة أنني أحييتها ، فالشيء بالشيء يذكر والنكبة تستحضر النكبة و... .
تفتتح فدوى قصيدتها التي تتكون من ثمانية أقسام ، يقع كل قسم في خمسة أبيات ، بالآتي :
" أختاه ، هذا العيد رف سناه في روح الوجود
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر البعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالا شقيا
متهالكا ، يطوي وراء جموده ألما عتيا
يرنو إلى اللاشيء ... منسرحا مع الأفق البعيد " .
وكان قسم من أهل غزة يرنو إلى اللاشيء ... منسرحا مع الأفق البعيد القريب الذي لم يتعد أشهرا قليلة ، عد كل يوم فيها بألف سنة مما نعد نحن البعيدين الآن عن حياة الخيام .
وتنهيها بالآتي :
" أختاه ، هذا العيد عيد المترفين الهانئين
عيد الآلى بقصورهم وبروحهم متنعمين
عيد الآلى لا العار حركهم ، ولا ذل المصير
فكأنهم جثث هناك بلا حياة أو شعور
أختاه ، لا تبكي ، فهذا العيد عيد الميتين " .
هل نطقت فدوى بلسان حال زمانها وحسب أم نطقت أيضا بلسان حال أهل غزة في زماننا نحن وكأنها رأت أن مستقبل أحفاد الطفلة لن يختلف عما عاشته ؟ ( بالمناسبة لي ابنة عم ولدت في العام ١٩٥٠ في خيمة وتزوجت في غزة وأقامت منذ العام ١٩٧١ في حي الرمال حتى ٧ أكتوبر ، حيث عاشت أولا في مركز إيواء ثم في خيمة ، وتعيش الآن حفيداتها معها ) .
قبل العيد بيومين ثلاثة تابعت استعداد أهل غزة للعيد . غنى الأطفال ورقصوا وصنعت النساء كعك العيد وقرر أكثرهم على الرغم من المأساة أن يحتفلوا به ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ولكن ...
في ثاني أيام العيد كنت أتابع أخبار ما يجري . لقد شنت قوات الاحتلال غارات عديدة أعنفها وقع في سوق فراس وسط غزة ما أدى إلى قتلى وجرحى . كان الناس يتسوقون يريدون أن يمارسوا حياتهم في العيد فجاءهم الموت مباغتا . هل أقول مفاجئا ولا مفاجآت منذ ٧ أكتوبر ؟!
في قصة سميرة عزام " العيد من النافذة الغربية " تتزوج المرأة ويموت الزوج بعد عامين مخلفا لها طفلة ترى الحياة فيها ، فتقول " نحن بذرة لا تموت إلا جزئيا لأن في قلبها بذرة التجدد " .
الله المستعان فهناك من لم يغيره العار ولا حركه ذل المصير ، والتعبير للشاعرة في العام ١٩٥١ .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٤ / ٤ / ٢٠٢٤ )
نابلس ١١ / ٤ / ٢٠٢٤

***

27- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: مأساة الفلسطيني في حياته اليومية: الحمامات

لم تقتصر حدود المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة الدائرة منذ ٧ أكتوبر على استخدام أسلحة القتال وحسب، فقد اتسعت لتقتل في الفلسطيني كل ما هو إنساني ولتسلب منه أبسط حقوقه. لم تسلب منه الأمان والاستقرار ورغيف الخبز وحسب، ولم تمنعه من ممارسة حياته اليومية المألوفة في العمل والدراسة والعلاج، فقد حرمته، منذ دمرت أماكن سكنه، من ممارسة طقوسه وشعائره وعاداته اليومية التي ألفها كممارسة حياته الزوجية والذهاب إلى الحمام والاستحمام بحرية.
شغلت الكتابة عن الانتظار في طوابير طوابير، من أجل قضاء حاجة الإنسان في مرحاض ما، حيزا لا بأس به من كتابات كتاب وسائل التواصل الاجتماعي وكتاب اليوميات في الصحف، (كعاطف أبو سيف الذي أصدر يومياته في كتاب "وقت مستقطع للنجاة: يوميات حرب غزة")، بل وصارت حجة لمعارضي أحداث ٧ أكتوبر في وجه من يؤيدونها، وأمنية للأولين بأن يمر الأخيرون هم وعائلاتهم، بما يعاني منه في هذا الجانب الغزيون، حتى يعرفوا مدى معاناة الأهالي وقسوة حياتهم وما جرته عليهم الحرب.
وأنا أتابع ما يكتب وأهتم به، وألفت نظر المشرفة على موقع "مبدعون فلسطينيون" إلى ما يكتب عن الحرب، أرسلت إلي الكاتبة الغزية النشيطة نعمة حسن نصا تسرد فيه معاناة الناس اليومية بخصوص طقوس قضاء الحاجة أو الاستحمام، وكنت من قبل قرأت شيئا من هذا في يوميات الروائي عاطف أبو سيف والناقد طلعت قديح. ونص نعمة يأتي على التمييز بين جرأة الأطفال وخجل النسوة والكبار. إنه يأتي على معاناتها وأطفالها في قضاء حاجتهم، في بيوت أقاربهم، وهذا يشعرها، وهم غادون رائحون، بالخجل، وحين ترغب في الاستحمام وتمارس طقوسه ينتابها حذر شديد وحرص كبير.
تكتب نعمة نصا تحت عنوان "جسد الماء حرا: الضفاف مجرد وطن" وفيه نقرأ:
"أحاول اليوم بكل ما لي من قوة البحث عن حفنة ماء نظيفة.. موقد وبعض الورق.. مكان آمن للاستحمام.. الحب والحياة مرتبطان منذ بدء الخلق بنطفة ماء. أنا الآن أريد أن أستعيد فطرة الأشياء الأولى.. إنه يوم الاستحمام رغما عن أنف الحرب.. لا يمكنني الاستحمام داخل حمام المدرسة القذر.. ربما يعوزني الكثير من الشجاعة للوقوف في طابور (التبول)، ولكني لم أستطع قتال نفسي للوقوف عارية في حمام عام يؤمه مئات الأشخاص لقضاء حاجتهم...".
وحكايات الحمامات العامة والمراحيض في سفر اللجوء الفلسطيني، وفي المخيمات تحديدا، حكايات كثيرة مر بها أجدادنا وآباؤنا واستمرت تقريبا عقدين من الزمان وسببت لهم مشاكل كثيرة؛ اجتماعية وصحية وأخلاقية أيضا.
وإذا كانت النصوص الشعرية، فيما قرأت، لم تولِ هذا الجانب شأنا، فلم تأت عليه، فإن الرواية الفلسطينية خصته بكتابة فيها قدر من الجرأة لم يعتدها القارئ الفلسطيني ولم يألفها، فلم يستسغ ما كتب، وهنا آتي على روايتي سامية عيسى "حليب التين" (٢٠١١) و "خلسة في كوبنهاجن" (٢٠١٣)، والثانية متممة للأولى وجزؤها الثاني، وتعد أكثر النصوص جرأة في الكتابة، ولهذا لم ترق لمثقفين وسياسيين عديدين، إذ رأوا فيها إساءة لأهالي المخيمات ولمسؤولي بعض التنظيمات الفلسطينية فيها.
تكتب سامية في "حليب التين" عن ضيق البيوت في مخيم "أوزو" في لبنان، ما يمنع الفلسطيني من ممارسة طقوسه اليومية والبيولوجية منها بحرية. هكذا تنسلب منه خصوصيته، فيمارس سلوكات تبدو غير سوية، أو تدفع إلى الانحراف، أو تحرمه من ممارسة حياته بحرية، فيخضع لرغبات جسده، دون أن يشعر بأنه مراقب ودون أن يشعر بإثم ما. وستولد هذه الحياة لديه، وما ينجم عنها من سلوكات وطقوس سرية، أمنيات يسعى إلى تحقيقها إن استطاع، بل ويضعها في سلم أولوياته.
هكذا يغدو الحمام الذي افتقده، في منزله في المخيم، أو أقامه بشكل بائس، في سلم اهتماماته إن امتلك شقة أو بنى منزلا، وسيوليه جل عنايته وسيهتم ليس فقط بنظافته، بل بجودته وفخامته واختيار أجود أصناف مواده. ويذهب الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك، فحسام ابن صديقة سيغدو "السمكري المعروف بمهارته لدى كل بيوتات الجالية في الغيتو في عموم كوبنهاجن" (١٢٣).
ولعل من الصفحات التي تلفت النظر هي الصفحات التي تصف العلاقة الغرامية بين صديقة والشاعر الفلسطيني وليد في دبي حين التقيا هناك، والدهشة التي انتابته حين رأى المرحاض في شقة صديقة:
"حين دخل وليد إلى المرحاض شعر أنه كمن أقحم في حلم. فوجئ بديكوره البديع. كان أشبه بقصر صغير من قصور ألف ليلة وليلة. سيراميك أزرق لا هو بالفاتح ولا هو بالغامق، يغطي أرضيته. ومغطس عريض بعض الشيء أقل زرقة من الجدران المصنوعة من البورسلان الفاخر، على جنباته فتحات معدنية مدورة من الكروم تنتهي برشاش معلق بأعلى الجدار، وتفصل بين المغطس والحائط المقابل حافة صغيرة على جانبها جهاز ثبتت فيه ثلاثة أزرار كهربائية. بالقرب منها وعاء زجاجي شفاف يحتوي على أزهار مجففة وآخر مملوء بأملاح ذات لون برتقالي، وزجاجات عديدة فيها سوائل ملونة لم يفهم ما هي، وسلة صغيرة من القش تحتوي قطعا ملونة تشبه قطع الصابون تنبعث منها روائح الياسمين واللافندر والورد والليمون. ستارة بيضاء من طبقتين تتدلى من السقف على الجانب الفاصل ما بين المغطس وكرسي المرحاض..." وأظن أن هذا يكفي حتى لا يثور ضدي لاجئو غزة وحتى لا تنتابهم حالة من التحسر تؤدي إلى الموت كمدا.
الله المستعان به على ما يلم بنا!


***
=================
21- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : الصمود على بكسة حامض : " سحر خليفة وعزمي بشارة ويحيى السنوار"
22- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : يوميات مقتلة غزة وإبادتها وإهلاكها جوعا
23- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : العالم بعيدا عن غزة والضفة الغربية
24- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : استحضار نصوص أدبية فلسطينية وأخرى عربية
25- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : اغتصاب الفلسطينيات : حقيقة أم إشاعات ؟ رواية " تفصيل ثانوي"
26- رغيف خبز الفلسطينيين المغمس بالدم
27- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: فدوى طوقان "مع لاجئة في العيد"
28- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: مأساة الفلسطيني في حياته اليومية: الحمامات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى