د. أحمد الحطاب - فكيف يُطلقون على أنفسهم لقبَ "علماء"؟

العديد مِن مَن يٌطلقون على أنفسهم لقبَ "علماء" (ليس هذا تعميم – هذا النوع من العلماء موجود و يعث في الأرض ظلما)، ظلموا العالم الإسلامي و العربي بفتاواهم التخويفية و بنرجسيتهم المبالغ فيها. يدّعون أنهم يملكون الحقيقة (في عالم البشر، كل شيء نسبي) و يعرفون الدين أكثر من غيرهم ناسين أنهم بشرٌ و أن تفاسيرهم ليست إلا تأويلات إن صلحت بالأمس قد لا تصلح غدا و بعد غد... يا أيها العلماء، إن الإنسان يتطور ثقافيا، اجتماعيا و اقتصاديا!

صحيحٌ أنهم متبحِّرون في علوم الدين و متضلِّعون في الفقه، لكن ألم يقل سبحانه و تعالى في كتابه العزيز : "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ…(النحل، 125). في هذه الآية الكريمة، الله جل جلالُه يتوجَّه إلى رسولِه محمد (ص) ليدعوَ الناسَ إلى الطريق المستقيم لكن دون تخويفهم و زرع الهلع في نفوسهم. بل يدعو رسولَه إلى التَّحلِّي بالحكمة و النزول عند المستوى الفكري و الاجتماعي لهؤلاء الناس، أي بدون استعلاءٍ و ترفُّع. فلماذا بعضُ العلماء يتركون كلامَ الله جانبا و يُحوِّلون الموعظةَ إلى توعُّدٍ بالعذاب و النار و الكفر...؟

ولنتذكر هنا كذلك ما قاله سبحانه و تعالى في سورة طه، الآية 44 : "فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ". و الأمر موجَّهٌ هنا لموسى و أخيه هارون حيث يوصيهما سبحانه و تعالى بمقابلة فرعون بكلام ليِّن و لطيف و غير جارح… علما أن فرعون طاغية، مستبد، مشرك، كافر… إنه لعجبُ أن يتجاهلَ بعضُ علمائنا و فقهائنا كلام الله الذي يريد لعباده الخيرَ و لا شيءَ غير الخير و ينهجون نهجَ التَّخويف و التَّرْهِيب و التَّفْزِيع و التَّهْدِيد و التَّهْوِيل و التَّوعُّد...

فلماذا تُجمِّدون الزمانَ و تُجمِّدون العقلَ و تضعونهما في أقفاص عديمة النفاذية؟ فلماذا تجمِّدون أفكاركَم التي لم يطرأ عليها أي تغيير على امتداد 14 قرنا ونيِّف؟ العالم يتطوَّر و أنتم جامدون في أفكاركم! فلماذا تُجمِّدون الحياة و تريدون أن تبقى شبيهةً بتلك التي سادت في العصور الأولى للإسلام؟ لماذا أطلقتم على أنفسكم لقب "علماء" و أنتم تدرون أن "العَالِمَ" هو المتضلِّع في العلم و المعرفة بصفة عامة؟ و المعرفة لم تقتصر في يوم ما و لا تقتصر و لن تقتصر فقط على أمور الدين! مجال المعرفة واسع و لا حدود له. إنكم تعرفون تمام المعرفة أن العالِم في العصر الذهبي للإسلام كان في نفس الوقت فقيها و فيلسوفا و طبيبا و صيدليا و فيزيائيا و كيميائيا و فلكيا و رياضيا، أي كان يجمع بين علوم الدين و العلوم الأخرى بشتى مشاربها... كما كان الشأن عند البيزنطيين و اليونانيين و الرومان... مفهوم العلم كان شاملا.

و هذا هو ما نلاحظه في القرآن الكريم الذي جاءت فيه كلمة "علم" على صيغة المفرد و لا يوجد فيه أثر لجمعها (علوم). أليس هذا دليل على أن العِلم لا يمكن حصره في العلوم الدينية؟ بل العِلم هو مجموع كل ما توصل إليه الإنسان من معرفة، من خلال البحث، مند ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا.

و قد بينت الأبحاث أن بعضَ ما توصل إليه الإنسان من معارف مُشار إليها، بكيفية أو أخرى، في القرآن الكريم. أقول مُشار إليها و لا أقول مجودة فيه. لأن القرآن ليس كتاب علم بالمفهوم الحديث لهذا المصطلح. إنه بالأحرى كتاب هداية و موعظة و تشريع يحثُّ على مكارم الأخلاق و على حسن المعاملات و يرسم للناس الطريق المستقيم...

فكيف يُطلقون على أنفسهم لقب "علماء" و العِلم شاسع الأطراف؟ فكيف يُجمِّدون الحياةَ و المجتمعَ و العلمُ بجميع فروعه يبيِّن أنهما يتطوران اجتماعيا، اقتصاديا و ثقافيا؟

فإذا أرادوا أن يستحقوا هذا اللقب (علماء)، فعليهم أن يجمعوا بين العلوم الدينية و العلوم الدنيوية إسوةً بالفارابي و ابن رشد و جابر بن حيان و ابن زهر... و ليتخلوا عن نرجسيتهم مصداقا لقوله تعالى : "إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ من عباده العُلَمَاءُ".

فلماذا لا يستوقفهم العديدُ من آياتِه سبحانه و تعالى التي يدعو من خلالِها عبادَه إلى معرفة الكون و سَبْرِ أسراره و الاستفادة منها في حياتهم العامة و اليومية. من بين هذه الآيات، أذكر على سبيل المثال : "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" (الغاشية، 17) و "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء، 30).

أليست هذه الآيات عبارة عن دعوةٍ صريحة موجَّهة للإنسان ليتعرَّفَ على الكون و مخلوقاته؟ و ما يثير الانتباهَ هو أن الله سبحانه و تعالى تحدَّث عن الإبل و ليس عن حيوانات أخرى. لماذا؟ لأن الابلَ لها خاصيات مورفولوجية و فيزيولوجية تجعل منها حيوانات قادرة على مقاومة العطش و الجوع طيلةَ أيام. فكانت الوسيلة المفضلة للتَّنقُّل عبر الصحراء. و ما يثير الانتباهَ كذلك هو أن اللهَ سبحانه و تعالى قال "و جعلنا" و لم يقل و خلقنا من الماء كل شيء حي. لماذا؟ أولا، لأن الماء مادة معدنية جامدة لا يمكن أن تُعطيَ الحياةَ. لكن الماءَ ضروري و أساسي و إجباري للحياة. أدوارُه في الكون، و بالأخص عند الكائنات الحية، لا حصر لها. هذا هو سر استعمال "و جعلنا"، أي مكَّن الماءَ من لعب أدوار كثيرة و خصوصا في عالم الأحياء.

فلماذا يترك بعضُ علمائنا و فقهائنا هذا السيلَ الهائلَ من الآيات القرآنية التي تبيِّن بوضوح أن العلمَ شاسع و بحوره لا نهايةَ لها و يُصرُّون على حصر هذا العلم في ما له علاقة بالدين و الفقه علما أن الدين عبادات و أكثره معاملات. بل و يصرون على إطلاق العنان لأهوائهم ليتفنَّنوا في نهجِ أساليب التخويف و التَّرهيب و التَّهديد… علما أن اللهَ سبحانه و تعالى أوصى باللين و اللطف عند تقديم الموعظة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى