خالد جهاد - القبح والجمال- الإعلام اللبناني

تعد فترة التسعينات من أكثر الفترات اشتباكاً في تاريخنا المعاصر، كونها كانت بمثابة حلبة مصارعة بعد انغلاق جزئي اتسمت به الثمانينات وبين عالم يقف على أعتاب العولمة التي بدأت فعلياً قبل العام ٢٠٠٠، وكان هناك حالة متشابكة سياسياً، فنياً، اجتماعياً، ثقافياً ومعيشياً، إلى جانب صراعات بين مختلف التيارات الدينية سواءاً كانت الطامحة منها لتقلد منصب سياسي أو حتى على سبيل نشر أفكارها ومفهومها الخاص بالدين والذي يعنيها وحدها ولا علاقة له به..

وكان هذا العقد تقريباً هو العقد الأخير الذي أعطى وهجاً واعتباراً للشعر والثقافة والإصدارات الأدبية خاصةً لتزامنه مع غياب ورحيل العديد من الأسماء البارزة، أو احتجاب الكثيرين منهم بعده لسوء المناخ وعدم ملائمته لهم ولأسلوبهم، كما عرف هذا العقد بعقد الترفيه والمنوعات على مستوى العالم إعلامياً، حيث شهد طفرةً في البرامج الترفيهية والتي كانت حتى ذلك الوقت قادرةً على جمع المشاهدين على امتداد الخريطة وخلق ذاكرة جماعية لهم لا تتكرر اليوم، بعضها إيجابي والبعض الآخر سلبي..

وشهد النصف الثاني من هذا العقد مرحلة مغايرة تجسدت في إنطلاق البث الفضائي لعدد من القنوات اللبنانية حاملةً معها حالةً مختلفة وجديدة على المشاهدين العرب، شكلت منعطفاً ونقطة تحول في حياتهم واعلامهم وحملت معها نقلةً نوعية على أكثر من صعيد، ليس فقط من حيث اختلاف طبيعة البث، بل أيضاً من حيث تعريف العالم العربي بالمجتمع اللبناني الذي لم يكن يعرف عنه الكثير، فكان البعض من انتاجاته يبث على بعض القنوات العربية من حينٍ لآخر، ولكنه ظل غير معروف للمشاهد العربي الذي لم يستطع فهم اختلاف وتنوع المجتمع اللبناني إلا بعد عقود من إنطلاق لبنان إلى البث الفضائي، وبعضهم لازالت فكرته عنه سطحية ومحدودة جداً وتسعى إلى المقارنة بينه وبين مجتمعه، ففي لبنان تتبع كل وسيلة بث تليفزيونية أو مكتوبة أو إذاعية لجهة سياسية أو حزبية تقدم ما يتماشى مع فكرها وقناعاتها، ولا شك أن الوضع الطائفي في لبنان والإنقسام السياسي خلق بدوره انقساماً اجتماعياً، وكانت كل وسيلة إعلام تعبر غالباً بشكلٍ أو بآخر عن طائفة بعينها أو (هكذا كان يعتقد القائمون عليها)، وكان جزء من القنوات اللبنانية يقدم صورة شديدة التحرر والتي لم تكن على أرض الواقع تمثل مختلف شرائح الشعب اللبناني الذي كان كثيراً ما يجنح إلى الإعتدال كأي شعب آخر، وبرغم أنه كان يرزح تحت وطأة الحرب الأهلية لسنوات إلا أن الشخصية اللبنانية القادرة على التكيف والمحبة للنكتة والفنون والتجمعات بين الأهل والأصدقاء ظلت كما هي مع بعض الإختلافات، وبمرور الزمن ظل للبنان خصوصية في تركيبته وبنيته الإجتماعية التي لم يكن الإعلام اللبناني يجسدها ويجسد لبنان بصورته الثقافية والحضارية التي تعكس روحه التعددية كما ينبغي، وكان ذلك محل نقد بين كبار المثقفين والفنانين اللبنانيين ومدعاةً لغضبهم غيرةً على لبنان ومحبةً له ولأهله..

لكن رغم ذلك نجحت تلك الصورة في إعادة السياحة إلى لبنان بعد إنتهاء الحرب الأهلية، كون لبنان بلداً يتمتع بالكثير من المميزات كجمال الطبيعة واحتواءه على الكثير من المواقع الأثرية والأنشطة الثقافية والفنية إلى جانب تنوع قائمة المأكولات اللبنانية والتي تضافرت معاً كعوامل وضعته ضمن أكثر الوجهات السياحية في المنطقة، كما أسهمت النجاحات المتتالية إعلامياً في تقديم لبنان كقبلة للإعلام والإعلاميين من خلال تميزها في الكثير من البرامج الحوارية أو السياسية أو الإجتماعية أو الترفيهية بغض النظر عن اتفاقنا مع بعضها أو اختلافنا معها، والتي كانت غير مسبوقة بأسلوبها وطرحها وجرأتها وضيوفها من مختلف الدول العربية لتقديم مادة دسمة مع كتاب وشعراء ومفكرين وسياسيين نادراً ما كانوا يطلون عبر الشاشات، كما أن انفتاح الإعلام اللبناني على الإعلام الغربي كان مفيداً له فقدم الكثير من الأفكار التي قام بتقديم النسخة العربية منها بعد أخذ حقوقها من محطات فرنسية وايطالية على وجه الخصوص وإضفاء الروح اللبنانية عليها، فكان الرائد في هذه الخطوة على مستوى المنطقة، وبعيداً عن مسألة استيراد الفكرة يعتقد البعض أن الإقتباس شيءٌ سيء بينما هو شيء عادي ومسموح حتى في الغرب لكن ضمن أطر وقواعد محددة لا تضر بجمال الفكرة الأصلية أو تمس بمضمونها، ويمكننا القول بأن الإقتباس فن لا يتقنه الأغلبية، فإمتاز الإعلام اللبناني بإختلافه وحرفية ما يقدمه سواءاً كان ذلك محلياً، أو حتى مقتبساً، لأن المواهب اللبنانية كانت متنوعة سواءاً كان ذلك أمام الكاميرا أو خلفها من كفاءات وفنيين على صعيد الصوت والصورة والترجمة وإعداد التقارير وإدارة المسرح وحرفية الإضاءة والذوق في اختيار الديكور، وصولاً إلى مظهر الإعلامي وضيوفه على صعيد الشكل واختيار الأزياء وتصفيف الشعر وحتى (الميك أب) الذي يناسب طبيعة البرنامج وتوقيت عرضه، وهو ما جعل الكفاءات اللبنانية جزءاً أساسياً من إطلاق أي قناة عربية لسنوات، (وهنا لا أتحدث عن البرامج التي لا مضمون لها والتي تعتمد فقط على إطلالة الجميلات)، كما أن الإعلام اللبناني خلق نموذجاً أصبح الإعلام العربي بأكمله يحذو حذوه وينتظر جديده ويتعلم منه ويستنسخه في كثيرٍ من الأحيان..

ومن ناحية أخرى كانت العديد من القنوات اللبنانية مساحة تعارف للجماهير العربية مع الثقافة المسيحية في بلادنا بتعدد طوائفها بشكل خاص والتي كان ذكرها خجولاً في الإعلام العربي، فأصبح الجمهور يتابع بشكلٍ اعتيادي وجوهاً بارزة مسيحية من مختلف المجالات ويتعرف على أيقوناتها بعد فترة عزلة سببتها الحرب الأهلية، وكان الإنفتاح في الإعلام اللبناني سباقاً في تناول المواضيع الإجتماعية الشائكة والمحظورة بشكل لم يعتده المجتمع العربي وحتى اللبناني، عدا عن أن تناول القضايا السياسية كان مختلفاً عن بقية التجارب العربية وامتاز العديد من المحاورين بالجرأة في طرح الأسئلة محلياً وعالمياً، فكانت كل هذه العناصر من جهة، إضافة ً إلى عرض مسابقات ملكات الجمال التي كانت عادةً تجرى في نوادي أو صالات مغلقة لا ينقلها التلفاز وعرض المسلسلات المكسيكية والأفلام السينمائية الأمريكية بدون رقابة أو حذف من جهة أخرى جزءاً أساسياً في تحول المجتمعات العربية وخروجها من عبائتها المحافظة شيئاً فشيئاً، والذي لم يكن بمعزلٍ عن تغير السلوكيات في حياتنا اليومية فكان لهذا التغيير سلبياته في فتح المجال لأفكار غربية واعطائها فرصة التغلغل في قيمنا، كما كان له ايجابياته وأثره في قطع شوط نحو التعارف بيننا كمواطنين وشعوب من مختلف الخلفيات والفئات والأعراق والطوائف ونحو التفكير بشكل أكثر انفتاحاً والتحدث عن الكثير من مشكلات مجتمعاتنا أو المشكلات التي تسببت بها الأزمات السياسية بين الشعوب ولو من حيث الفكرة، حيث انفرد لبنان بجرأته وتناول في العديد من البرامج والحلقات وعلى لسان الكثير من الضيوف في شتى المجالات العلاقات اللبنانية مع فلسطين أو سوريا أو شعبيهما، فكانت في كثيرٍ من الأحيان هناك الكثير من الآراء المتوازنة والحكيمة والبعيدة عن التعصب حيث تستعرض وجهات النظر من مختلف الزوايا وبقدرة على النقد الذاتي بالتوازي مع آراء على النقيض تماماً ولا تستطيع الفصل بين الخلافات السياسية والعلاقات مع الشعوب..

وقد امتاز الإعلام اللبناني على الدوام بضخامة الإنتاج ونقاء الصورة وجمال الشكل وهو ما خلق الكثير من المقارنات بين هذه الصورة المتلفزة وبين الحياة الشخصية للمشاهدين العرب، فمعظم نجوم الصف الأول في الغناء عربياً هم لبنانيون وبالتأكيد إلى جوار العديد من الأسماء العربية الأخرى البارزة، لكن هذه الوجوه المعروفة أثرت عميقاً وجعلت المواطنين عموماً رجالاً كانوا أم نساءاً أكثر اهتماماً بالشكل والمظهر والذي تحول لدى فئات كثيرة إلى حالة مرضية في بعض الأحيان لمحاولة الوصول إلى مقاييس تقترب من الفنانين الذين يطلون على الشاشات، وقد أدت نسب المشاهدة المرتفعة لهذه القنوات بوضع حجر الأساس للمنصات العربية والقنوات المشفرة، فكانت فكرة الدفع مقابل المشاهدة جديدة ومربكة في بلادنا والتي لم تكن قادرة على الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع بل كانت لفئات محدودة وميسورة مادياً وتمتاز طبيعة أغلب مشتركيها بتبني نمط الحياة الغربية بشكل شبه كامل، فكان هناك ارتباط بين نوعية هذا الإعلام وفئات معينة وقد كانت هذه المنصات تبث الأعمال الغربية آنذاك بدون ترجمة للمشاهدين وهو دليل هام يشير إلى الطبقات التي تتابع هذه القنوات، ولكن بعد سنوات وبسبب عدم الإقبال الجماهيري لعدم تقبله لفكرة التشفير وقتها بدأت هذه القنوات باحتكار الأحداث الرياضية كما بدأت بوضع ترجمة أسفل الشاشة باللغة العربية بهدف زيادة المشتركين والتوسع نحو شرائح أخرى في المجتمع..كما أن ظاهرة استخدام المصطلحات الأجنبية ضمن المحادثات الشخصية واليومية سواءاً كانت إنجليزية أو فرنسية لم تكن موجودة قبل بدء البث الفضائي اللبناني، والذي كان أثره كبيراً فتحولت بعده إلى شيءٍ مألوف نسمعه بإستمرار، ويعد الإعلام اللبناني جزءاً كبيراً من بنية الإعلام العربي له ماله وعليه ما عليه، لكننا لا يمكننا تخطيه أو تخطي تأثيره التاريخي ولذلك تم فرد هذه المساحة له لأن ما قبله ليس كما بعده ولأنه من أبرز العوامل التي ساهمت في تغيير المجتمع وميزت حقبة التسعينيات..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى