د. أحمد الحطاب - القرآن الكريم ليس كتابَ علومٍ بالمفهوم الوضعي أو الدُّنيوي الحديث للعلم

ما سأكتبُه في هذا المقال هو مجرَّد وِجهة نظر شخصية، لكن وِجهة نظر نابعة من تفكير عميق و من تأمُّلٍ في العديد من الآيات القرآنية التي يقول فيها سبحانه و تعالى إنه لم يخلق شيئآ عبثا أو باطلا بل كل شيء خلقه، خلقه بالحق.


انطلاقا من هذه الاعتبارات، إذن، الله سبحانه و تعالى خلق الإنسان بالحق و خلق الأرضَ و ما فيها و ما فوقها بالحق و خلق الكائنات الحية و الجمادَ بالحق. و هذا معناه أن الله سبحانه و تعالى حدَّدَ لكل شيء خَلَقَه غايةً أو غاياتٍ يكون فيها خير للناس جميعا. أي لا مجالَ للصدفة فيما خلقه و يخلُقُه الله.


بعد هذا التوضيح، أقول إن القرآن الكريم ليس كتاب علوم بالمفهوم الوضعي أو الدنيوي لهذه العلوم. لكن، قبل أن أدخلَ في التفاصيل، هناك أشياء تستلزم هي الأخرى بعضا من التَّوضيحَ.


أولا، القرآن الكريم كلام الله و كلام الله لا جدالَ و لا نقاشَ فيه. يمكن تأويلُه تأويلا يليق بقدسيته من طرف البشر، لكن لا يمكن معارضتُه و رفضُه لأن الله سبحانه و تعالى منزَّهٌ عن الخطأ و كلامُه كله خير و نفع للبشرية جمعاء.


ثانيا، العلوم بالمعنى الوضعي أو الدنيوي هي مجموع المعارف التي توصَّل إليها الإنسان، منذ ظهوره على وجه الأرض و في جميع المجالات، عن طريق البحث و التَّجربة أو عن طريق الفكر. و هذه المعارف قابلة للجدل و النقاش و يمكن معارضتُها و رفضُها أو تغييرُها أو تجديدُها أو تكييفُها مع الظروف الاجتماتية، الاقتصادية و الثقافية. كما أن هذه المعارف، في جلِّ أطوارها، يُمكن استغلالُها لتُسدي، بصفة عامة، خدماتٍ مختلفةً للبشرية جمعاء..


و خير دليل على نسبية المعارف و العلوم البشرية، هو أن كل النظريات التي عرفتها هذه البشرية منذ القِدم تغيَّرت و تبدَّلت بحكم ما عرفه الإنسان من تطوُّرٍ فكريا، اجتماعيا، اقتصاديا و ثقافيا.


فهل بيولوجيا الاغريق هي بيولوجيا العصر الحديث؟ و هل مثلا فيزياء نيوتن Newton هي الفيزياء الحديثة…؟ بالطبع، لا. لأن النظريات تتطوَّر مع فكر الإنسان و تتطور معه الوسائل التي يستعملها في البحث و التَّنقيب. و الحصيلة هي ذلك السيل الهائل و العظيم من المعارف و العلوم بمختلف مشاربها و التكنولوجيات بمختلف استعمالاتها. بالأمس، كنا نتحدَّث عن التكنولوجيات بصفة عامة. اليوم، أصبحنا نتجدَّث عن البيوتكنولوجيات ثم، في السنين الأخيرة، عن النانوتكنولوجيات...


و الآن، سأحاول تبريرَ ما قلتُه في بداية هذا المقال، أي : "القرآن الكريم ليس كتابَ علومٍ بالمفهوم الوضعي أو الدُّنيوي الحديث للعلم".


بالفعل، القرآن الكريم فيه إشارات لبعض المفاهيم العلمية و الظواهر الطبيعية و الفيزيائية التي توصَّل العلم الحديث إلى تفسيرها بواسطة نظريات متتالية. و الدَّليلُ على ذلك أن تفاصيل هذه المفاهيم و هذه الظواهر و النظريات التي تُفسِّرها لا وجودَ لها في القرآن الكريم. و النظريات التي توصَّل إليها العلم الحديث تُعدُّ بعشرات الآلاف و أكثر. فلنأخذ كمثال النظريات الفيزيائية التي تعتمد في تفسيرها و تتبيثها على الرياضيات. هل هذا موجود في القرآن الكريم؟ بالطبع، غير موجود. لماذا؟


أولا، لأن الله سبحانه و تعالى خلق الإنسان و أمرَه، بعد عبادته، أن يعمِّر الأرضَ مصداقا لقوله سبحانه و تعالى : "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود، 61). و هذا معناه أن الله سبحانه و تعالى أمَرَ عبادَه أن يسكنوا الأرضَ و يٌعمِّروها بالفكر (العقل) و العمل و الإنتاج. و إعمار الأرض أمرَ به الله سبحانه و تعالى منذ أن خلق آدم عليه السلام إلى يومنا هذا مصداقا لقوله تعالى : "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (الأنعام، 165). "جعلكم"، أي الناس، "خلائف"، أي الناس الذين يخلفون الأممَ التي عاشت من قبلهم. و هنا، لا داعي للقول أن الأممَ تختلف بعضها عن البعض الآخر فكريا، اجتماعيا، اقتصاديا و ثقافيا. و اختلافُ الأممِ يقود حتما إلى اختلاف طرائق إعمار الأرض نهجا، أسلوبا و عملا.


ثانيا، و ليُعمِّرَ الإنسانُ الأرضَ، ميَّزه جل عُلاه عن سائر المخلوقات بالعقل و الحكمة و التَّبصُّر مصداقا لقوله جل جلالُه : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (آل عِمران، 190). "لآياتٍ لأولي الألباب"، أي علامات تدعو الإنسانَ إلى التَّمعُّن فبها بالعقل و التَّبصُّر. و كيف سيتمعَّن فيها؟ سيتمعَّن فيها بما حباه الله من عقل و فِطنةٍ. و التَّمعُّن لا تُمطره السماء. التَّمعُّن له منهجِيتُه و يتأتى بالبحث و التَّنقيب و الملاحظة و التَّجريب و الاستنباط و الاستدلال و البرهنة و المقارنة...و عندما نتحدث عن العقل، فإننا نتحدَّث عنه كوسيلةٍ منهجية لإنتاج المعرفة. و تراكمُ المعرفة يصبح علما. و العلم هو الذي، بواسطته، الآنسان يخترع و يصنع و يُنتج و يزرع و يخترق الأجواء و يصل إلى أعماق الأرض و البحار من أجل إعمار الأرض.


ثالثا، من أجل عمارة الأرض، سخَّر الله للإنسان ما في السماء و الأرض و البِر و البحر من خيرات و منافع مصداقا لقولِه سبحانه و تعالى : "وَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثبة، 13) فكيف سيُعمِّر الإنسان الأرضََ؟ سيعمِّرها بعقله و فكره و بالاستفادة من ما سخَّره له الله من خيرات و منافع. و كيف سيستفيد من الخيرات و المنافع؟ سيستفيد منها باستعمال عقله في البحث و التنقيب و التجريب و يإنتاج المعرفة.


بعد هذه التوضيحات، يجب أن لا ننسى أن اللهَ سبحانه و تعالى عليم بكل شيء. و في هذا الصدد، يقول جل جلالُه:"...وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق، 12) أو "...وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (طه، 98) هذا يعني أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء أو، بعبارة أخرى، له علمٌ بكل الأشياء. و الأشياء هنا يمكن أن تكونَ معنوية أو مادية. و كونه سبحانه و تعالى عالماً بكل الأشياء لا يعني أن كلَّ هذه الأشياء مذكورة في القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى : "...وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (ق، 7) أو "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (الشعراء، 7). في هاتين الآيتين، يُخبرنا سبحانه و تعالى أنه أنبتَ في الأرض العديدَ من أنواع النباتات، منها ما هو بهيج، أي حَسن المنظر و منها ما هو كريم، أي ينفع الناس و الأنعامَ. لكنه لم يذكر في كتابه العزيز جميع أنواع هذه النباتات، أي كل نباتٍ بإسمه.


نفس الشيء حينما يقول سبحانه و تعالى : "...فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة... (البقرة، 164)، أي لم يذكر كل الدواب بأسمائها. نفس الشيء بالنسبة للنمل و النحل و الزرع و النخل و هي أسماء جامعة noms génériques، أي أنها تدل على أن هناك أنواع متعددة من النمل و النحل و الزرع و النخل. و هو الشيء الذي بيَّنه العلم الحديث. لكن الله لم يذكر هذه الأنواعَ كلها في القرآن الكريم.


الله سبحانه و تعالى، بكونِه عليمٌ بكل شيء كما سبق الذكرُ، بإمكانه أن يُضَمِّنَ في القرآن الكريم كل ما يحيط به علما. لكنه لم يفعل. لأنه خَلقَ الإنسانَ و زوَّده بالعقل ليُعمِّرَ الأرضَ. و إعمار الأرض يقتضي فهمَ و إدراكَ أسرار الأرض و الوقوف على مظاهرها و ظواهرها الطبيعية و كيفية اشتغالها. و هذا يعني أن اللهَ حبا الإنسانَ العقلَ و ترك له المجال واسعا ليكتشِفَ بنفسِِه ماهيَةَ الأرض و ما تُوفِّره من منافع. و منافع الأرض ليست كلها مادية كالتربة و الماء و الحيوانات و النباتات و الصخور و المعادن… بل فيها ماهو غير مرئي كالجاذبية و الضغط و الحرارة و الملوحة و القوة… و لا يمكن تجاهُلُها عندما يتعلَّق الأمرُ بإعمار الأرض إعمارا يتماشى مع صونها و الحفاظ عليها.


و هنا، تجدر الإشارة إلى أن العديد من آيات القرآن الكريم تحتوي على عبارة "أولي الألباب" أو تنتهي بها. و هذه الآيات هي في الحقيقة دعوات من الله سبحانه و تعالى للبشر ليستعملوا عقولَهم في كل شيء و خصوصا عندما يتعلَّق الأمرُ بإعمار الأرض إعماراً عقلانيا.


انطلاقا من كل الاعتبارات السابقة، بإمكاننا القول إن القرآن الكريم ليس كتاب علوم بالمعنى الوضعي أو الدنيوي الحديث للعلم، كما بدَّعي البعض. إنه كتاب توحيد و دين و هداية و رشد و موعظة… يرسم الطريق للبشر ليُعمّروا الأرضَ و ينشروا فيها الخير حسب ما يقتضيه تساكُنُهم و تعايُشُهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى