خالد جهاد - القبح والجمال.. هدوء نسبي

لم تكن فترة التسعينات بالهينة، فقد امتازت رغم بعض (الإستقرار الجزئي) بالكثير من الخوف والتوجس على صعيدٍ اجتماعي، فقد كانت الأحداث التي شهدتها فلسطين ولبنان والكثير من الدول العربية مصدر قلق وترقب لما سيليها، ورغم ذلك امتازت تلك الحقبة بشيءٍ نفتقده حالياً حيث كان أي حدث في أيٍ من بلادنا يحظى بالتضامن الشعبي على امتداد الخريطة كجزءٍ من ارثنا التاريخي الذي بات نادراً في هذا الزمن، وكان الوضع هشاً يتسم بالهدوء الحذر والذي شهد بداية صعود وتغلغل للتيارات (المتخفية خلف شعارات دينية) في العديد من بلادنا..

ومع ذلك كنا نستطيع القول أيضاً أن مجتمعاتنا كانت أكثر ترابطاً ومراعاةً للقيم والمبادئ ولحقوق الآخرين ومشاعرهم، كما شهدت التسعينات بداية التغيير العاطفي والنفسي والإجتماعي حيث كان التزاور بين الأهل والأصدقاء في البيوت هو الأساس، وهو ما أصبح حالياً شبه معدوم فأصبحت اللقاءات تتم في المقاهي والمطاعم والأماكن العامة وهو ما خلق مسافة بين العلاقات وجعلها أكثر تحفظاً وأقل حميمية من جانب، والتي سببها أيضاً تغير سلوكيات الأفراد وزيادة تطلعاتهم ونظرتهم المادية للأشياء وانتشار عدم مراعاة الخصوصية والخيانة من جانب آخر حتى بين أكثر الروابط قرباً، كما ظهر بشكلٍ واضح جداً تغير في طبقات المجتمع بعد عقد الثمانينات، وحدوث تحول بين الفئات التي كسبت المال حيث أصبحت أكثر ذكاءاً في إدارة شؤونها، وباتت تحاول التماهي مع الطبقات الثرية من حيث تعلم اللغات والمهارات التي تمكنها من الولوج إلى عالم الأغنياء دون أن توصم بأنها من (المحدثين)..

كما أن السلوكيات الإستهلاكية بدأت بالزحف، فبدأت الدكاكين تقل تدريجياً لصالح المتاجر الكبرى و السوبرماركت، وبدأت العديد من المهن التي كبرنا ونحن نراها حولنا في التراجع والتي تلاشى بعضها حالياً كمهنة الخياط لصالح محلات الملابس الجاهزة والأسواق المفتوحة على كل الخيارات وصولاً إلى الشراء عبر مواقع الإنترنت، وأصبحت خدمات توصيل الطعام أو السلع إلى المنازل متوفرة لدى العديد من المطاعم والمتاجر والتي ترافقت أيضاً مع استقدام الكثيرين لمدبرات المنزل بعد أن كان ذلك محصوراً في الطبقات الميسورة، وهو ما زاد من التواكل والإنعزال والدخول تدريجياً في نمط الحياة العصري الذي نعيشه..

ومن ناحية ٍ أخرى كان الحديث في السياسة أقل بكثير مما هو عليه اليوم ولم يكن ذلك يتم سوى ضمن حدود ضيقة وخلف الأبواب المغلقة، مع وجود بعض الإستثناءات في الصحافة وأيضاً من خلال بعض الأعمال السينمائية التي تعرض الكثير منها لحذف العديد من حواراتها ومشاهدها الهامة بعد تصويرها خصوصاً في مصر من خلال الكثير من الأفلام التي تناولت قضايا الفقر والفساد والحياة داخل الأحياء العشوائية والفقراء الذين يسكنون في المقابر، فكان البعض يجاز عرضه فيما يمنع البعض الآخر، كما شهدت صراعاً شديداً بين التيارات المحافظة والتيارات العلمانية والتي انعكست على شرائح مختلفة في المجتمع وانتقلت إلى تجسيدها في الدراما والسينما بين نقلٍ واقعي ونقل موجه غير موضوعي اتسم أحياناً بالكثير من المبالغات وعدم الإلمام بالتفاصيل التي تتم مناقشتها، خاصةً أن مناقشة أي قضية مهما بدت محسومة من وجهة نظر كاتبها لا تعفيه من مسؤولية نقل الفكرة بأمانة للناس قدر الإمكان احتراماً لنفسه ولهم، مما تجلى في حالتين متناقضتين على صعيد الصورة بين تحفظ وتحرر في نقل الموضوعات الإجتماعية سواءاً كان ذلك على صعيد الحوار أو الأفكار التي تتخللها، أو حتى من ناحية نوعية المشاهد التي يتم تقديمها، وبدء تحول هذا الموضوع لمادة دسمة وحاضرة حتى اليوم في الصحافة الفنية على وجه الخصوص وربطها بقبول المجتمع لها أو رفضه..

وتزامنت تلك الحقبة مع ظهور (السينما الشبابية) المتمثلة في أعمال كوميدية حققت مع ظهورها إقبالاً جماهيرياً كبيراً، تحديداً عام ١٩٩٧ مع فيلم (اسماعيلية رايح جاي) للممثل محمد هنيدي مع بطولة جماعية لعدد من الوجوه الشابة والذي استمر مع فيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية) في العام الذي تلاه، والذي ارتبط أيضاً ببدء موجة جديدة من الغناء الهابط الذي سيأخذ منحى أشد كارثية بعد عدة سنوات، وهو ما فتح الباب لتغير نوعية الأعمال وتحولها إلى أعمال تعتمد على الكوميديا (لفئة من الجماهير) لكنها خالية من أي موضوع أو هوية أو مضمون أو جماليات على صعيد الصورة والصوت والإضاءة والديكور والزوايا وحتى الموسيقى التصويرية، دون أن ننسى الحوار الذي امتازت به هذه الأعمال من سطحية واسفاف في بعض الأحيان، كما أنها ساهمت في تدني المحادثات ولغة الحوار بدءاً من الشباب والمراهقين لتنتشر بين مختلف الفئات العمرية وشرائح المجتمع، وساهمت في الترويج في بعض الأعمال لثقافة التحرش الجنسي وتعاطي المخدرات واحتقار المرأة والخروج عن القانون والغريب وصف البعض لهذه الأعمال بأنها (عائلية)، كما أنها غيرت شكل ومضمون (البطل) من خلال أفلام يصنفها البعض بأفلام (الآكشن) والتي يجسد قسم منها محاكاة كاملة عاجزة وغير موفقة للسينما الأمريكية وهي بعيدة عن مجتمعاتنا تماماً، يقابلها أفلام تروج لثقافة (البلطجة) والضرب والتي ساهمت في ارتفاع معدلات العنف في الشارع بسبب تقليد المراهقين لها وتأثرهم بها كما مهدت لظهور ما يعرف اليوم ب(أغاني المهرجانات) المصاحبة لتلك الأعمال والتي يتحايل صناعها على مسمياتها ويلجؤون لإستخدام لقب (الشعبي) عليها لجذب شريحة واسعة من الجماهير البسيطة، وتعتمد هذه الأفلام أيضاً على معايير تجارية بحتة ومنها بدأ ظهور الأبطال الشباب بدون أهل حيث لا دور يكتب لأم أو أب أو جد أو أي شخص من العائلة، وهو ما عزز النزعة الفردية لدى الجيل الشاب وأصبحنا نرى نتائجه في واقعنا منذ سنوات، كما أن أبطال هذه الأعمال ينتزعون حقهم بأنفسهم خارج أي دور للقانون وهي كارثة بكل المقاييس..

حيث بدأت هذه الظواهر بشكل تراكمي منذ النصف الثاني من التسعينات وانتقلت إلى الألفية الجديدة حاملةً معها نواة لمجتمعات مختلفة نعيش فيها اليوم، شهدت أيضاً في تلك الفترة بداية ظهور شبكة الإنترنت ووصولها إلى الناس بشكلٍ تدريجي مع شعورٍ بالقلق حول هذا التغير الذي لا نعرف أبعاده في ذلك الوقت، حيث كان الغالبية يتصفح المواقع الإلكترونية عبر مقاهي مختصة بذلك اندثرت اليوم بشكل شبه كامل، وبدأ بالتزامن معها أيضاً وجود بريد شخصي أو ماعرف بالبريد الإلكتروني الذي حل مكان البريد والرسائل التقليدية والتي تطورت أكثر مع وسائل الإتصال الحديثة، كما شهدت تلك المرحلة أيضاً بدأ غرف الدردشة التي سبقت مواقع التواصل الإجتماعي في التعارف بين أشخاص من بلاد وثقافات مختلفة فساهمت في تقريب المسافات إيجابياً وسلبياً، ومع أن العلاقة مع الرقابة آنذاك شهدت حالة من المد والجزر وهي كذلك منذ أمدٍ بعيد إلاّ أن تحولاً كبيراً سيطرأ عليها في مطلع القرن الحالي وستتغير معه الكثير من المفاهيم بسرعةٍ كبيرة حيث لن يستطيع الإنسان بعدها أن يعود خطوة إلى الوراء..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى