خالد جهاد - نحن من يصنع الوهم

نقطةً نقطة.. تتكون الأفكار والمشاعر بداخلنا كمحلولٍ مهدأ يتسرب إلى أعماقنا عبر أوردتنا..
صوت الطبيب خلفنا.. إضاءةٌ خافتة.. شعور بالإسترخاء.. الخوف ينتظر خارجاً على باب العيادة.. صوت الطبيب يسأل من جديد بكل هدوء لينتزع الإجابة بنعومةٍ وسلاسة كمن يفكك لغماً بمنتهى الحذر..

كثيرون يجلسون على نفس الكرسي أو يتمنون الجلوس عليه لكنهم لا يبوحون وتظل الفكرة أو الشعور بداخلهم كقدرٍ يغلي بما فيه حتى الإحتراق.. رائحةٌ خانقة.. دخانٌ كثيف.. يمر الوقت لكنه لا يزول.. فتتشكل معه سحابة تحجب النظر والفكر.. تشل الخطى وتقف الحياة هنا.. عند هذه النقطة.. نقطة الوهم كأنها حاجز عسكري أو نقطة تفتيش على خطوط التماس بين مناطق تخضع لسيطرة جهاتٍ متحاربة يتجنب الناس المرور بها والحديث عنها فتكبر ككرة الثلج مع أنها (لا شيء)..

الحب.. الجنس.. الأديان.. الوطن.. الثقافة.. العلم.. التحضر.. الأدب والفن.. النخبة.. المساواة.. الحرية.. العنصرية.. الرجولة والأنوثة.. الطبقية.. العدالة.. الجرأة.. النجاح.. الوطنية.. الحياة والموت.. العفة.. الصداقة.. الإبداع.. القبح والجمال.. ليست كلماتٍ مبعثرة تنتظر من يلم شتاتها في ركن الكلمات المتقاطعة ضمن عددٍ قديم لمجلةٍ يعود إصدارها إلى الثمانينات، بل هي واقعٌ ملتبس في الأذهان يراها كلٌ كما يريد أن يراها لأنه يريد أن يراها كذلك أو أريد له أن يراها بهذا الشكل، فبرغم أننا حقاً نعيش في توقيت يتم فيه التلاعب بمختلف المبادىء تحت شعاراتٍ ومبررات كاذبة، وبرغم التناقض والإزدواجية التي تتغلغل في أعماق مجتمعاتنا إلا أن في داخل كلٍ منا صوتاً هامساً يسمعه وحده ويرشده إلى الصواب والخطأ، فيقوم البعض بإسكاته، ويقوم البعض بخفضه بحيث لا يكاد يسمعه، فيما يصغي إليه البعض الآخر فإما أن يتبعه أو يتصارع معه دون أن يخبر أحداً أو دون أن يعي ذلك أحياناً، فالإستماع إلى ذلك الصوت قد يحرمه من أشياءٍ يتمناها بشدة، أو قد يقض مضجعه ويمنعه من الحياة بشكلها الطبيعي (أو كما يعتقد أنه كذلك)، لأنه سيترتب عليه الكثير من الخيارات التي قد تجعله يخسر بعض العلاقات التي بنيت على أساسٍ خاطىء، أو تخرجه من أوساطٍ سعى جاهداً لينتمي إليها سواءاً كانت تلك الأوساط ذات ثراءٍ أو سلطة أو بريقٍ اجتماعي أو طبقة فكرية كثيراً ما تكون زائفة، وفي قلب هذا الصراع الداخلي قد يلجأ البعض إلى خلق بعض المبررات كحقنةٍ مسكنة توقف وخزات (الضمير) كي يستطيع أن يعيش وإلا مات من فرط اضطرابه وشعوره بالذنب..

وبين مرايا وكاميرات مراقبة تتوزع في كل مكان لتذكرنا بأننا (تحت النظر)، وصوتٍ خفي لا يسمعه سوانا تخلق مساحةٌ ضبابية في الروح فإما أن تحجب الرؤية أو تزيدها وضوحاً، فلا يمكن لأحدنا مهما كان بارعاً في الهروب أن يهرب من نفسه لأنها ستعتقله ولو بعد حين، وستخبره بأن المفاهيم التي بنى عليها حياته لا ديمومة لها كقصور الرمال التي تهدمها الأمواج، حيث أن القصور والحياة والإنسان والمجتمعات لا تبنى على منافع أو أهواءٍ شخصية ولا تبنى على الأكاذيب وإن كانت توافق رغباتنا، فالكذب يجري عكس الطبيعة كالمباني المنشأة على مساحاتٍ زراعية والجزر الإصطناعية في عرض البحر، ولذلك نعيش هذه الحالة من التخبط لإقصاء كلٍ منا للصوت الذي ينبع من داخله والذي يقوده بدوره لإقصاء الآخر تحت مبررات واهية دون أن يرف له جفن كمن يقتل بدمٍ بارد، متعامياً عن عواقب ما فعله، وقد يكون كلا الطرفين مخطئاً لكن كليهما يتصرف وكأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وقد يسمح لنفسه أحياناً بإخفاء العديد من الحقائق أو الإلتفاف عليها لتناسب رأيه أو (وجهة نظره) أو الفريق الذي ينتمي إليه ليظل (دائما ً على حق)..

ولنجد أنفسنا حائرين أمام العناوين العريضة التي تتمحور حياتنا حولها وأمام الأشخاص الذين يعيشون داخل عبائتها دون إجابةٍ شافية حول بديهياتها مع أننا امتلكناها ذات يوم، عندما كنا على طبيعتنا، أقرب إلى بيئتنا وفطرتنا، غير مقسمين إلى فئات وطبقات وتحالفات ذات ولاءات مختلفة يفرض كل منها رؤيته وأجندته ليعيد تشكيل مجتمعاتنا على هواه وبحسب استفادته، وليكتب كل منا (السيناريو) الذي يحبه ويصنع منه الواقع والمنطق الذي يرضيه ويبني عليه حياته بأكملها، ثم يبكي عندما يكتشف مدى هشاشته وهشاشة رموزه وأصحابه ويكتشف أننا صدقنا أكاذيباً، وأننا نحن من يصنع الوهم عنا وعن الآخرين وعن القيم الإنسانية وما ينبغي أن تكون عليه..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى