حميد اليوسفي - وشم في الذاكرة.. ذكرى 20 جوان

حوالي أربعة آلاف طالب وطالبة ينتظمون في مسيرة طويلة تجوب أرجاء جامعة سيدي محمد بن عبد الله منذ العاشرة صباحا . خرجنا في منتصف النهار بالتناوب ، لتناول وجبة الغذاء في المطعم بالحي الجامعي . لم نتأخر كثيرا . أكلنا بعض الأطعمة بسرعة ، وجمعنا الباقي ، وصنعنا منه (سندويتشات) وأكملنا تناولها في المسيرة . استهوتنا شعارات المرحلة
[ أنا يا رفيق ما نويش نتخلى
على نضالية الجماهير الشعبية ]
قليل من الطلبة والطالبات المتواجدين هذا اليوم بالحرم الجامعي لا يشاركون في الاحتجاج ، بعضهم نزل إلى المدينة وبعضهم دخل إلى غرفته وأغلق الباب عليه.
ما بين الثالثة و الرابعة بعد الزوال قرر قادة المسيرة الخروج إلى الشارع العام . تَمّ الاتفاق في البداية على أن تتوجه المسيرة إلى الحي الصناعي ( حي سيدي ابراهيم ) الذي كان قريبا من الجامعة . سار الجميع في اتجاه معمل كوكاكولا . لما اقترب الحشد منه تم إغلاق أبوابه وتشديد الحراسة عليه ومُنعنا من الدخول إليه.
احتدم النقاش في الصفوف الأمامية بين قادة المسيرة . البعض يقترح العودة إلى الحي والبعض الآخر يقترح الذهاب إلى الشارع العام للالتحام بالجماهير والبعض الثالث يريد اقتحام المعامل . لا زالت حناجر المتظاهرين تصدح بقوة:
[عم بتضوي الشمس ع الأفكار الحرة
عم بتضوي الشمس ع النضال والثورة ..]
كنا نأمل أن يخرج معنا العمال والفلاحين .
عند مفترق الطرق ظهرت الطلائع الأولى لأجهزة القمع على بعد حوالي نصف كيلومتر . عدد كبير من الشاحنات تقف بالطريق المؤدية إلى حي الليدو الذي يمكن عبره الانتقال إلى وسط المدينة الجديدة وتراقب عن قرب القنطرة المؤدية إلى مدار طرق صفرو وشارع الأطلس وعين الشقف.
انتصرت فكرة العودة إلى الجامعة . انحرفنا على اليمين لتحاشي الاصطدام بالقوى الأمنية . كانت الشمس قد شارفت على المغيب . دخلت الحشود إلى الجامعة دارت حول الحي القديم ، ثم عادت إلى الباب الرئيسي . البعض افترش الأرض والبعض الآخر بقي واقفا يردد الشعارات وجها لوجه مع قوى القمع التي لا تبعد عنا إلا بحوالي عشرة أمتار.
كنا نحلم بالصعود إلى الجبال والتلال لإشعال الثورة وكسر قيود الاستغلال.
رددنا بصوت نال منه التعب:
[ لنا يا رفاق لـــــقاء غدا
سنأتي ولن نخلف الموعدا
فهذي الجماهير في صفنا
ودرب النضال يمــــد اليدا ] .
فجأة رمى أحدهم قوة التدخل السريع بقطعة حجر . بدأت القوة تقترب شيئا فشيئا والطلبة يتراجعون بشكل تدريجي . الشخص الذي رمى الحجر لم يكن طالبا ، كان مخبرا يتنكر في وزرة عامل بالمطعم الجامعي مدسوسا وسط العمال . حرق نفسه ، واختفى منذ ذلك اليوم . ركضنا إلى الداخل . الأضواء مُطفأة وراء الحي القديم . في الوقت الذي كنا نجلس فيه أمام الباب كانت أجهزة القمع تأخذ مواقعها داخل الجامعة ووراء أسوارها من الناحية الجنوبية الشرقية . ركضنا في غير اتجاه . البعض سقط في يد البوليس والبعض الآخر خرج إلى النور بعد تجاوز بناية الحي القديم والمطعم المجاور له من الجهة المحاذية للباب الرئيسي . الشمس كانت ملتهبة طيلة النهار . دخنت بعض السجائر أثناء المشاركة في المسيرة . نشف الريق في حلقي . لا أستطيع الجري في اتجاه السور . المسافة بعيدة والحذاء لا يساعد على ذلك والدواوير المجاورة تبدو أبعد ، وهي في الاتجاه المعاكس لطريق البيت . حسنا فعلنا ، فقد اكتشفنا فيما بعد بان القوى الأمنية كانت تختبئ في الظلام خلف الأسوار وتصطاد كل من يقع في شباكها ومن يفلت منها فقد تكسر عظامه . اقترب مني الشريف وعزيز ثم مصطفى الطالب بشعبة الفلسفة . توقفنا فترة في الساحة التي تفصل بين الحيين الجديدين للذكور والإناث نراقب ونستوعب ما يحدث حولنا . قامرنا بالدخول إلى الحي الجديد بعد أن أقنعنا مصطفي بذلك . أدركنا بحسنا الشعبي أنه في مثل هذه المواقف تكون المناطق المضاءة أكثر أمنا من المناطق المظلمة مع القدرة على التمثيل بأنك غير مهتم بما يحصل حولك ، ومراقبة خصمك بحذر . مكثنا في الحي حوالي ساعتين أو ثلاث . مصطفى كان يتوفر على مفتاح غرفة لأحد قادة الطلبة القاعديين صعدنا إليها في الطابق الثالث . قضينا جل الوقت داخلها نراقب ما يحدث بالقرب من الأسوار عبر النافذة رفقة طلبة آخرين . استغربنا كيف يدخل بعض الطلبة عبر إحدى (الترعات) وكل منهم يعانق زميلته وقوى القمع على مرمى حجر منهم تطارد الطلبة الذين تجاوزوا السور من اليسار متجهين نحو الدواوير المجاورة . ربما يمارس البوليس العشق بالزي المدني كقناع لدخول الحي الجديد من بابه الواسع.
وقعنا في مشكلة . المبيت في الحي يشكل خطرا في مثل هذه الظروف . الخروج أيضا يشكل خطرا . نحن بين نارين لا نستطيع المبيت في الحي ولا نستطيع الخروج منه . بعد فترة رأينا بعض الطلبة يخرجون فُرادى ، لم يعترض سبيلهم أحد . لقد قطعوا أكثر من مئتي متر بعيدا عن الجدار . تكرر المشهد عدة مرات . كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل . استدركنا بأننا في غرفة ضيقة قد تكون معروفة ومراقبة ، لذلك أجمعنا على المقامرة بالخروج . سرنا متفرقين . تركنا مسافات تفصل بيننا . كأننا لا نعرف بعضنا البعض حتى قطعنا القنطرة المحاذية لطريق صفرو ، ثم عرجنا على اليمين خلف معمل الخمور . بدا الطريق موحشا ومخيفا . لم نمر من حي ليدو . خَمَّنا بأنه قد يكون مُطوقا بالأمن . هذه الطريق في الأوقات المتوترة تكون أشد خطورة من المبيت في الحي الجامعي . حي ليدو يسكنه العديد من الطلبة خاصة الإناث ، بحكم قربه من الجامعة . ونظرا لطابعه الشعبي ، فأغلب سكانه من العسكر ، وهو إلى جانب ذلك يعد الشريان الرئيسي الذي يقطعه الطلبة القادمون من حي السعادة أو شارع الأطلس.
الطريق خلف حي الليدو سالكة و خالية من القوى الأمنية.
وصلنا إلى بيت (الحامض) بحي السبليون.. كان قد عاد أدراجه قبلنا فهو مصاب بكسر في رجله ويتكئ على عكازين أثناء تحركه . مكثنا مدة ، التقطنا فيها أنفاسنا.
عدنا إلى البيت في وقت متأخر من الليل . الشوارع والأزقة مقفرة وموحشة على غير عادتها في فصل الصيف . لم نشعر بالأمان إلا عندما توغلنا في حي المرينيين (الملاح) ورأينا بعض السكارى يتناولون الخمر ويلعبون القمار . فتحنا الباب . نزعت حذائي . شعرت بإرهاق كبير . غسلت رجلي بالماء البارد للتخلص من الألم والتعب معا . لا طعام في البيت . كان من المفترض أن نتعشى في المطعم بالحي الجامعي . هيئنا براد شاي بدون نعناع . دخنا بعض السجائر . فكرنا في الطلبة الذين يسكنون في الحي . أين سيقضون ليلتهم ؟ هل سيقتحم البوليس الحي ؟ أغلب الطلبة الذين شاركوا في المسيرة فروا إلى الدواوير المجاورة.
شعرت بمزيج من الأمن و الخوف . الأمن لأن أكثر من ثمانية كيلومترات تفصل بين الجامعة والبيت الذي أسكنه تجعلني أشعر باطمئنان أني في منطقة تخلو من الطلبة . الخوف لأني أدرك أن يد البوليس في وطني طويلة ويمكن أن تمتد إلى كل من يتعاطف مع الحركات الاحتجاجية وينغمس فيها أينما كان . أنهكني التعب والجوع . لم أستيقظ إلا في وقت متأخر . نمت بعمق رغم أن رأسي بات يطن بصدى الشعارات وصور الأسوار والبوليس والمستشفيات والصعود إلى الجبال والتلال .
منعت السلطة وسائل الإعلام من تغطية الإضراب العام . بعد أيام قليلة تبين لنا حجمه وقوته من خلال الأخبار التي كان يتناقلها الطلبة فيما بينهم بحيث تجاوز عدد الشهداء المئات ، بالإضافة إلى آلاف المعتقلين ونزول الجيش إلى أزقة وشوارع الدار البيضاء وإطلاقه للرصاص على صدور المتظاهرين.
رغم كل وسائل الترهيب التي تفتقت عنها عبقرية المخزن في تلك الفترة فقد كانت الاستجابة التي لقيها الإضراب العام قوية . عدد كبير من المواطنين أغلقوا دكاكينهم وقاطعوا وظائفهم وأعمالهم وتحولت بعض الحواضر إلى مدن أشباح.

مراكش 20 يونيو 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى