خالد جهاد - ضمير في حفلة تنكرية

نظرت في المرآة ولم يساورني الشك، عرفت أنني أنا، عدلت عن رغبتي في حلاقة ذقني واكتفيت بغسل بقايا أحلام الليلة الماضية عن وجهٍ عارٍ لقلبٍ ملثم، تنهيدة تخرج من الروح بإنتظام كمقطوعةٍ موسيقية بينما تتقلب النظرات بين سقف الغرفة والنافذة المغلقة منذ سنوات وكتابٍ كلما فتحته وجدته خالياً من الكلمات، أقلب صفحاته بين يدي كمن يستمر في تحريك الملعقة داخل فنجان قهوته لساعات دون أن يمل أو يشرب من فنجانه شيئاً..

الأخبار تتوالى على التلفاز والهاتف ولا شهية لإلتهامها، فيبدو طبق اليوم كطبق الأمس الذي سيكون على الأغلب هو طبق الغد الذي يلتهم فيه الإنسان قطعاً من بشرٍ آخرين دون أن يرف له جفن، فيزدحم الخيال بكل شيء لكن محصلته لا شيء، أخبارٌ سارة لا نفرح لها، وأخرى مؤلمةٌ لا مكان للحزن عليها أو على أصحابها مع رغبتنا الملحة في ذلك لنشعر بأننا لا زلنا ننبض وأننا على قيد الحياة، فلا معنى للألوان المتأرجحة بين بياضٍ وسواد، زفاف ٍ وحداد بينما تعيش الروح بعيداً بين غابات الحياد، متشابكة الأفكار مضطربة العاطفة لا تكترث أو تحرك ساكناً عند ذكر البعض لأسماء من هجرونا بعد حبنا العميق لهم، ولا تلمع العين لذكراهم بعد أن كانت تغرق في حزنها كلما مر طيفهم في البال، وكأن القلب أغلق الباب بينه وبينهم، ووأد كل عاطفةٍ قد تنبت في تربته وتخلق في أعماقه بذرةً لحبٍ آخر.. حبٍ منتظر.. ربما لأن القلب تعب من الإنتظار وخلق الأعذار بنفسه، فجمع الصحف والكلمات والأحرف واللحظات كي لا يكون هناك مكانٌ لأكاذيب أخرى..

نعيش العمر في استغرابٍ من الآخرين مع أننا أجدر بذلك الإستغراب منهم، حيث أصبح لكلٍ منا حفلاته التنكرية وشخصياته الخفية ووجوهه المستترة التي لا يعرف الناس كم يبلغ عددها في غرفٍ تزدحم بالأقنعة و(القناعات) والألسنة وجوازات السفر التي تنتمي جميعها إلينا ولا انتماء يجمعنا بها، فقد فوجئنا بها تتكاثر في غفلةٍ من الزمن حتى لم نعد نعرف كيف بدأت ولا نعرف إن كانت ستنتهي ولكننا نعرف جيداً أنها تشبه حاضرنا وما يحيط بنا، وندرك أن الضحكة ليست بضحكة والدمعة ليست بدمعة وأن الإنسان في حفلته الكبرى وزحام الأضواء والأسماء والملصقات في ليالي المدينة يقدم عرضاً تلو الآخر منتظراً دوره من جديد، محاطاً بالخطابات والنظريات والأكاذيب وصراخ الجوعى وآلام المفقودين والعالقين على الحدود والمرضى في المصحات، وسط سحب الدخان وقرع الأنخاب واللامبالاة ونظرات الإعجاب والغمزات وتبادل العناوين التي تدور كعجلةٍ يصعب إيقافها أو الفرار من صخبها وأصباغها، فيبدو كل شيء عادياً ولا شيء يثير الإستغراب بين كل هذا سوى صوتٌ خافت يشي بوخزٍ في الضمير، لم يسمعه الأغلبية لكنه كان أشبه بولادةٍ جديدة دون أبٍ أو أم، ولادةٍ حقيقية تعني أن هناك أملاً وأننا لم نتداعى من الداخل وأننا لا زلنا أحياءاً.. ولا زال هناك إنسان طالما هناك صوت، وطالما هناك ضمير قادرٌ على الرفض وسط اليأس والقبح والبهرجة والإنبهار بالخواء، وطالما لم يخف من الظهور بوجهه الحقيقي بين حاضري الحفلات التنكرية..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى