د. معاد كريفش - قراءة في شعر إدريس سراج قصيدة "نلتقي بعد حلم" نموذجا

بمجرد قراءة الأسطر الأولى من قصيدة الشاعر المغربي المغمور إدريس سراج ابن مدينة فاس العتيقة:
"السماء خفيضة هذا المساء
السماء تحمر
في وجوه اللاجئين لقلبي"
تكتشف أولا أنك أمام كاتب مرموق، وأن الأمر لا يتعلق بنص نثري عادي، بل أنك أمام قصيدة نثر حديثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وبامتياز.
كما أن سراج منذ البيت الأول، يضعك مباشرة في عمق المشهد. هكذا يضعك بسرعة ودون مقدمات في الزمكان الذي تنطلق منه القصيدة وإليه تنتهي أيضا.
فالشاعر في قصيدته هذه، التي تقترب من الحلم، كما تقترب كثيرا من الرواية والمسرحية والفيلم، يقدم في قالب شعري واحد تداخلا مثيرا للمشاهد والأحداث والانطباعات والأحاسيس، بشكل مباشر وأسلوب لغوي سهل وبسيط ، لا يبحث عن التصنع والتكلف،وفي شكل مضغوط غاية في الإختزال، يؤثر الإيجاز والبساطة والصدق في التعبير... فما يميز سراج هو نجاحه في الجمع بين الاقتضاب في الأسلوب والعمق في الأفكار وجمالية "التيمات".
يجعلك سراج منذ الوهلة الأولى تعيش في عمق قصيدته.
الزمان وقت الغروب، حين تحمر السماء. والمكان ربما يكون المدينة العتيقة التي يعيش فيها الشاعر كما تحيل على ذلك بعض المفردات، مثل النافورة وخرير الماء... الحمولة الشاعرية في السماء الخفيضة والتي بكل قداستها وعلوها وارتباطها بالحلم، تقترب من الأرض الوضيعة حيث الظلم والانكسار والخيبات...
كل هذا قد يثير الانتباه إلى جلل الحدث وربما إلى عمق الجرح كذلك...
"السماء تحمر في وجوه اللاجئين لقلبي..."
السماء- الأرض- الغروب- الخجل- اللجوء- القلب- الحنين- الكلام- اللقاء- الفراق...
إذن منذ البداية نستشف من عنوان القصيدة "نلتقي بعد حلم" أن الأمر لا يتعلق بلقاء عادي لأنه لقاء بعد الحلم،
وليس أي حلم بل هو حلم حياة بأسرها!
مما يجعله يمتد في الزمان والمكان. فهو بعد الحلم الذي كان، وبعد الحلم المستمر، وبعد الحلم الذي سيكون. فهو لقاء في الماضي والحاضر والمستقبل. كذلك، باقي أحداث القصيدة تدور بنفس الشكل في أبعاد متعددة ومتداخلةو في الأزمنة الثلاث. كما نفهم من الأبيات الأولى أن الأمر يتعلق بلقاء يحمل الكثير من المفارقات والتناقضات، وأن الكاتب سيتحدث عن الفراق والرحيل أكثر مما سيتحدث عن اللقاء.
(وينتعل الرحيل بياضا آخر )
أعتقد أن سراج يلعب أدوارا متعددة في كتاباته، فهو أحد الأبطال الرئيسيين في قصائده- التي تتناول الذاتية بشكل كبير، ومن خلالها يتناول مواضيع مختلفة مثل الحب، الخير، الشر الحياة، الموت، الرفاق، الحسرة وغيرها، وكذلك جمالية بعض الأمكنة التي تؤثث قصائده وعلاقته العاطفية والوجدانية بها- بالإضافة إلى كونه الراوي و "السيناريست" بل والناقد الذاتي في الآن ذاته...
كما أن المكان في هذه القصيدة يكتسي بعدا زمانيا مرتبطا بوضعية فكرية ووجدانية معينة، ومرحلة عمرية وصل إليها الشاعر.
"قرب السماء وبعيدا عن أرض الحكاية
أذكر ما تبقى لي من خيبات"
يطل الشاعر علينا هنا من الشرفة، شرفة العمر، قرب السماء، ليسترجع ويرى بشكل جيد ومن زاوية أخرى، تتيح رؤية أوضح، ليذكر ما تبقى له من خيبات في تداخل مثير بين الماضي والمستقبل.
أستشعر كذلك في شعر سراج، أن الأمر يتعلق بشاعر ينشد السلام الأبدي، ويحاول أن يصلح ما تبقى من حياته، وفي الوقت ذاته، بكلماته الجميلة، يريد أن يمحو آثار الشر والعداء المتربص في كل مكان...
"نلتقي بعد عشب يحترق"
لكي نلتقي ربما قد يكون الأوان قد فات، وقد يكون الثمن باهظا، والعشب النضر قد بدأ في الاحتراق فعلا، والاخضرار صار اصفرارا، والشمس الأثيرة باشرت في الأفول.
لكي نلتقي، حسب سراج لا بد من أن يكون هناك تضحيات، قرابين، دماء، عذاب، معاناة ومشاهد درامية.
"نلتقي
بعد نافورة وبضع جثت
نلتقي
بعد خيمة وإسورة عروس"
ثم ماذا في آخر المطاف؟
"نلتقي كي لا نلتقي في ناي الكلام!
الشعور العميق بالخيبة وانتقاد حياة بأسرها ومحاولة التحليق بعيدا في سماء القصيدة بعيدا عن ما تبقى من الشر والحسرة وعن رفاق الدرب الذين تنكروا وخانوا،
بل وحتى أولئك الأحباب الذين اختفوا فجأة ورحلوا وتركوا خلفهم حفرا عميقة في القلب كما يذكر ذلك الكاتب في قصيدة" كبرنا ليلا ":
(رحت للبحر
أشكوه رفاق الحلم
ومن رحلوا في صمت...)
يظهر جليا إذن أن الأمر يتعلق بشاعر" يحاصر يومه بالجموح "، شاعر هارب من إخفاقات الماضي والحاضر ومن" تكالب اليومي "وروتينه وبؤسه ومن عذابات الروح وغدر الزمان وخيانة الرفاق... وربما من تنكر النقاد والمحافل الأدبية أيضا لشعره الذي بالمناسبة يستحق ما يليق به من تكريم...
(وكانوا يعدون
المشانق لسنابل الروح
وكانت الغيوم مندسة
في زورق الأوديسة المكسور)
(كبرنا ليلا)
إذن نلتقي:
(كي نودع ربيع الأحلام
كي نودع بعضنا)
لقاء مرير من أجل فراق أمر
لقاء حزين- سعيد
يبدو كذلك أن الأمر يتعلق بوضعية محملة بمجموعة من الصور والانطباعات والمشاعر قمة في التضارب والتنافر، مما يصل بالقصيدة إلى نوع الانفجار العاطفي!
الشيء الذي في نهاية المطاف ينتصر لسمو الصورة الشعرية والقصيدة بغض النظر عن كل الإخفاقات.
حيث نجد أن جراح الكاتب التي ماتزال تنضح وتكتب قصيدته بكل تفاصيلها حرفا فحرفا وسطرا فسطرا
كما يقول درويش:
(هو هذا الذي يكتب الآن هذه القصيدةَ
حرفاً فحرفاً، ونزفاً ونزفاً
على هذه اَلْكَنَبَة
بدمٍ أسود اللون)
ففي قصيدة" نلتقي بعد حلم "يبدو الجرح القديم جليا والسؤال القديم ما زال مطروحا (نلتقي تحت خيمة السؤال القديم) في لب جدلية الحياة والموت الأزلية.
هناك أيضا انتصار الذكريات على النسيان والخير على الشر،
كما تنتصر الصور على الكلام والصمت على الصخب:
(ليخجل كل الكلام من صور تحجب صور الكلام)
كل هذا يجعل هذه القصيدة قصيدة صور بامتياز شكلا وموضوعا. إذ يتعلق الأمر بلوحة شعرية أتقن سراج رسم صورها وقصيدة نثر غنائية كذلك.
وتبقى تيمات الحياة- الموت، البداية- النهاية، اللقاء- الفراق، السعادة- الحزن، الماضي والحاضر تخوض معارك ضارية وتطاحنا مثيرا في قصائد سراج الذي نكتشف أنه يثور وينتفض مجددا في قصائده على كل هذه الازدواجية وكل الانتكاسات والانكسارات، وتجعلها تعيش في أبعاد متعددة لتجعل الشاعر وقصيدته ينتصران ويولدان من جديد!
"قرب السماء
وبعيدا عن أرض الحكاية"
(نلتقي بعد حلم)
"مد يدك
لأهبك موتا
خارج الموت"
"خارج الحياة
على صدر الموت انتفض"
"ومد يدك لياسمين بيتك القديم"
(خارج الحياة داخل الموت)
إذن لا يخفى على أحد أن للحزن والدراما في قصائد سراج مساحة كبيرة لكن الأمر يتعلق بحزن ودراما حقيقيين بعيدين عن الإبتذال والاصطناع.
"ورد على قبر الغريب
خذ واحدة وضعها
على حزنك الكبير"
(ورد على قبر الغريب)
أصعب الأشياء أن يشعر الإنسان بالموت وهو على قيد الحياة! ويعاني النكران والنسيان من أناس لا يفترض فيهم ذلك بالمرة.
ومن المؤسف كذلك أن نرى شعر سراج يتعرض للتجاهل. أعتقد في النهاية أن سراج الذي يقترب أحيانا من درويش وأدونيس، والذي تعرفه الكثير من المنابر الإلكترونية، أضاف شيئا جديدا ومتميزا للشعر المغربي الحديث ويستحق ولو القليل من الاعتراف.

معاد كريفش
يوليو 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى