خالد جهاد - سينما مشوشة الملامح

المقال رقم (١٦) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..


لا يمكن استثناء السينما من المتغيرات التي عصفت بالمجتمعات وغيرتها عبر عقود، فكانت أحياناً ناقلاً لواقعها وصوتاً له، وأحياناً أخرى سبباً في تدني الذوق والسلوكيات بسبب المادة التي تقدمها كنوعٍ من (الترفيه) وكمادةٍ للربح، وكون الجانب الإنتاجي هو جانب بالغ الأهمية ويخضع غالباً للموجات الحديثة ومتطلبات السوق والإعلانات بغض النظر عن القيمة والمضمون، فإن ذلك دفع الكثير من المخرجين والكتاب والعاملين في صناعة السينما نحو شكلٍ آخر من السينما، معاييره لا تخضع للمتغيرات المستمرة وديكتاتورية شباك التذاكر وهو ما يمكن إدراجه (بحذر) تحت مسمى (السينما المستقلة) أو الأعمال المقدمة من خلال شركات إنتاج مشترك محلية غربية، كون هذه الأعمال لا تثير شهية المنتجين لأنها في كثير من الأحيان قد لا تحقق مردوداً مادياً أو إقبالاً جماهيرياً رغم جودتها وقيمتها، ولذلك يلجأ المخرجون للبحث عن جهة تمول مشروعهم أو تشارك في تمويله خارج العالم العربي مثل الأعمال التي قدمها المخرج المصري الراحل يوسف شاهين بإنتاج مصري فرنسي مشترك عبر تأسيس شركة (أفلام مصر العالمية) عام ١٩٧٢، والتي استطاع من خلالها تقديم مخرجين آخرين وأعمال أخرى خرجت في محتواها عن الشكل التجاري للسينما مع ملاحظة أن مصر تكاد أن تكون البلد العربي الوحيد الذي كانت فيه السينما صناعة قائمة بحد ذاتها رغم الأزمات الطاحنة التي واجهتها من ناحية الإنتاج أو حتى من ناحية الصدام مع مقص الرقيب وحالياً مع ذوق الجمهور إضافة إلى العوامل السابقة..


وبتناول التجربة المصرية عبر عقود سنجد أن وجود الأفلام المستقلة كان بالتوازي مع الأفلام السينمائية المعتادة وأيضاً الأفلام التي عرفت لاحقاً بأفلام المقاولات والسينما الشبابية التي حصرت المواضيع فيما بعد بين (الكوميديا والآكشن) مع التحفظ على التسميتين، لكن ما يجعل التجربة المصرية مختلفة عن بقية التجارب في العالم العربي وجود عدة عوامل منها.. الإختلاف في طريقة المعالجة للمواضيع الإجتماعية أو تناول الأحداث التاريخية عن السينما التقليدية بشكل قد نختلف معه أو نتفق، خاصةً في اقترابه من محاكاة التجارب الأوروبية والفرنسية على وجه الخصوص، لكننا (في أغلب الحالات) لم نشهد فبركة أو إساءة للمجتمع المصري (ارضاءاً للجهات الممولة) إلا فيما ندر، فأفكار المخرجين والكتاب الذين قدموا مواضيعهم والتي تصطدم بالموروث الإجتماعي ورؤيتهم للدين تكاد تكون نفسها مع اختلاف الجهة المنتجة بين مصرية محلية أو غربية وهي نقطة جوهرية ومحورية علينا أن نضعها في الحسبان..

كما أن نسبة كبيرة من المخرجين كان همهم نقل الواقع بحذافيره (من وجهة نظرهم) سواءاً اختلفنا مع طريقتهم أم اتفقنا لكن المشكلات مصرية والشخصيات مصرية، مع إضاءة على نقطة بالغة الأهمية يتساوى فيها الفيلم المستقل ذو الإنتاج الغربي عموماً مع المنتج المحلي وهي عدم الموضوعية والحرفية في نقل المشكلات مع المتدينين، فأصبح هناك بضعة شخصيات ونماذج مكررة وممجوجة تتم معالجتها بشكلٍ سطحي على أنها تمثل التطرف وهم (المرأة المحجبة أو المنقبة، الشاب الملتحي الذي يرتدي ثوباً أبيضاً ويتحدث باللغة العربية الفصحى ويقومون بتكفير الجميع)، وهو ما خلق شرخاً في المجتمع وعمق الخلاف وزاد المسافة بين الناس لأن الملتزمين دينياً تم وضعهم مع (الإرهابيين والمتزمتين) في نفس الخانة وجعلهم يشعرون بالتجني عليهم ومحاولة تشويههم بإستمرار وبشكل ممنهج وعدم احترام معتقداتهم وخياراتهم كبقية فئات المجتمع وهو ما خلق عداءاً من جهتهم للفن عموماً، كما أن النماذج المذكورة انتهت صلاحيتها ولم تعد موجودة إلا على نطاق ضيق جداً فالكثير من المتطرفين غير ملتحين ولا يتحدثون الفصحى بل يتحدثون الإنجليزية والفرنسية والألمانية ويرتدون التيشرت والجينز ويتواجدون حولنا، وهو ما يعكس ضحالة الرؤية عند الكثير من صناع الأعمال الفنية وعجزهم عن قراءة المتغيرات في مجتمعهم، وتمسكهم بأفكار قديمة تشبه ما ينتقدونه في المقلب الآخر رغبةً في الشهرة وإثارة الجدل أو رغبةً في إرضاء الجهة المنتجة الغربية، والكثير من الأعمال الفنية والأدبية المصرية احتوت على نقل فريد للواقع لكن وقوعها في هذا الإستسهال والتنميط جعلها تخسر مصداقيتها لدى الشارع المصري فنراها محل احتفاء النقاد لكن أغلبها لم يترك صدىً لدى المتلقي وجعله يشعر بأن هذه الأعمال تقدم لفئات خاصة من الشعب أو للتصدير الخارجي، كما أن التقارير التي تعرض عن رأي الجماهير هي انتقائية وموجهة وغير موضوعية وأحكي ذلك من معرفة وارتباط بالثقافة المصرية وأهلها، وهو ما مكنني من معرفة ما يشبهها وما لا يشبهها..

وبسبب تلك الفجوة بين صناع الأفلام المستقلة وبين الشارع العام (رغم تميز بعضها) لم يكن حضور هذه الأعمال قوياً في وجدان الناس حتى من خلال الأفلام التي تناولت الطبقات المهمشة والتي بالمقابل أشعلت غضبها واعتبروها تتاجر بآلامهم وترقص عليها لتحقيق استفادة عبر المهرجانات السينمائية الدولية، مع ملاحظة تغير النمط الإخراجي ليكون أكثر قرباً من الشعب كما أن مصر تكاد تكون من أقل الدول العربية حالياً التي تقدم انتاجات مشتركة عكس بقية الدول التي تعتمد على التمويل الغربي بشكل كلي تقريباً، وسأذكر مثالين غير معروفين للناس وهما من إنتاج غربي أولهما فيلم (دنيا) والذي صدر عام ٢٠٠٦ والذي أنتجته القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي مع بعض المساهمات ويتحدث كما يقول صناعه عن قضية ختان الإناث، والذي يحتوي على الكثير من المغالطات العلمية والواقعية والذي تم تقديمه بطريقة استشراقية أقرب لنظرة السواح إلى مصر والبلاد العربية عموماً، أما مشاهده واضائته والزوايا التي تم استخدامها مروراً بالأحداث والمشاهد الغير مترابطة وانتهاءاً بأداء الممثلين فلا شيء منها يشبه مصر أو المصريين أو الفن المصري، ولا تستطيع كمشاهد أن تحدد ما هي هوية الفيلم والذي ينتهي بإحصائية كاذبة تظهر على الشاشة بأن ٩٧% من سيدات مصر تعرضن للختان وهو محض افتراء، والذي صودف أن جميع المشاركين فيه تبرأوا منه بعد مشاهدتهم للنتيجة النهائية للعمل ومهاجمته بضراوة من الجمهور والنقاد آنذاك..

أما النموذج الثاني والذي قد يختلف البعض معي فيه والذي يمثل (وهم العالمية) هو فيلم (ريش) الذي صدر عام ٢٠٢١ من إنتاج مصري فرنسي يوناني هولندي، والذي أثار ضجةً بحصوله على الجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد الدولي في الدورة ٧٤ لمهرجان (كان) السينمائي بفرنسا.. ومع كامل الإحترام للآراء التي أيدت هذا الفيلم (وهذا حقهم) لكنني أسأل أين هو الفيلم؟ الفيلم يقدم قصة خيالية بلا معنى عن أسرة فقيرة يتحول رب الأسرة فيها إلى دجاجة وتعاني فيه زوجته بسبب ذلك، الفيلم تقريباً بلا حوار، الممثلون إن صحت تسميتهم بذلك (لأنهم جميعاً حسب ما قيل يمثلون للمرة الأولى) لا يقدمون أي تمثيل ولا يعرفون كيف يتحدثون أو ينظرون إلى الكاميرا، الأداء ضعيف، الإيقاع ممل جداً، الأحداث غير مفهومة، عدا عن بيت القصيد والنقطة الهامة والمشتركة بين الكثير من الأفلام الممولة هي ربط الفقر بالقذارة والتركيز عليها وعدم الإهتمام الفطري بالنظافة الشخصية، فالفيلم يجسد عبر مشاهده الغير مفهومة استغراقاً في تكريس القبح البصري والحمامات والمطابخ النتنة والتي تعد مرتعاً للحشرات والقاذورات التي تلتقطها الكاميرا بكل عناية، إلى جانب تصوير الصرف الصحي ورؤوس الحيوانات المقطوعة والدماء والتعامل معها دون أدنى اهتمام بقواعد النظافة واختيار أشخاص بهندام سيء ومنفر، وهنا ينبغي التوقف لنقول أن الكثيرين وانا منهم خرجنا من بيوت فقيرة لكن رائحتها عطرة وتعلمنا قواعد النظافة دون تلقي (دروس في الإيتيكيت) وكنا نعاقب أشد العقاب إن لم نحافظ على مظهرنا عكس (الواقعية الزائفة) التي تربط الفقر بالقذارة، وأدهشتني آراء النقاد الذين احتفوا بالجائزة، حيث كانت السينما المصرية حافلة طوال مشوارها بأعمال واقعية هامة ولم يتم تكريمها ربما لأنها واقعية حقاً ولم تحقق ما يريده المنتجون لما يريدون تسميته ب(الفيلم) الذي يشكل عقاباً لمن يراه، ويثبت حالة العوار في تقييم الأعمال الفنية من الغرب واختياره لصورة يصر على أن نظهر بها دوماً رغم كذبها ورفضه عرض الصورة الحقيقية مما يجعلنا نصدق بأن هذه الجوائز مسيسة ولها أهدافها وتكرس لثقافة القبح على حساب الجمال الحقيقي..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى