من يوميات غسان كنفاني التي لم تنشر في كتاب من قبل ..

يوم 24/8/1962
قبل منتصف الليل بساعة ونصف وُلِدَ ( فائز )
وحين هتفت الممرضة تقول مبروك، أحسست به، فائز، يقع فوق كتفي... ولمدى لحظات أحسست بشيء يشبه الدوار. وفي صخب المشاعر التي كانت تجتاحني، أحسست بأنني مرتبط أكثر بهذه الأرض التي أمشي عليها، كأن وقوعه فوق كتفي قد غرسني عميقاً في التراب..
وفي الصبح، حملته الممرضة، وعرضته أمام عيني من وراء الزجاج، وبدا لي قطعة لحم حمراء غبية، مغلقة العينين، مفتوحة الفم، راعشة الكفين.. عينان أمامهما الكثير لترياه.. وفم عليه أن يمضغ طويلاً، وكفان لا يدري أحد أهما للعطاء، أم للأخذ، أم لكليهما؟
قال لي الطبيب الواقف إلى جانبي:
ـ ما هو شعورك؟
ـ لا شعور لدي..
ـ أبداً؟
ـ أبداً ..
كأنني كنت أقول لنفسي أن في الوقت متسع لملايين من المشاعر، متسع للغضب والفرح والمفاجأة والخيبة والسعادة والشقاء والضحك والأسى والحب والكره والانتظار والملل.. ملايين من اللحظات المترعة بغزارة كل ما في هذه الأرض من تناقض.
وفي الغرفة الأخرى، كانت أمه ملقاة فوق الفراش. لقد نسيت كل الآلام التي اجترعتها في سبيل أن يولد، نسيت كل الدموع التي أهرقتها في العشرين ساعة الماضية، نسيت كل شيء.. كأن الحب الجديد الذي ملأها فجأة، حين قالوا لها إنها وضعت، الحب الغزير الذي لا يمكن أن يحمله إنسان لإنسان إلا الأم لابنها.. كأن هذا الحب قد غسل كل شيء بيد اسطورية ..
وبينهما، هو بين يدي الممرضة وراء الزجاج، وهي في سريرها غير قادرة على أن تخطو لتراه معي، كنت أقف أنا مغسولاً بالحب والخوف، صافٍ كأنني من زجاج .. ليس ثمة أي شيء أفكر به، أو أهتم له، مجرد رجل يقف مثل ملايين الرجال الذين لا يعرفون حقيقة المستقبل، العاجز الضئيل الصغير أمام المجهول الذي يطوقه بزوجة يريد أن يعطيها ماء عينيه، وولد يريد أن يهبه نبض شرايينه.. واقف هناك كما لو أن المشاعر الجدير بأن يحملها أثقل من أن يحملها، فتركها تحوم حوله، كهواء له صوت، وله رائحة، وله ثقل، تمسه كما تمس الحجر، وتغوص في كيانه حتى ليجهل أهو الذي نفثها، أم هي التي نفثته ..
وحين أنامته الممرضة من جديد خطوت عائداً إلى غرفة زوجتي.. ولكن ما إن سمعت صوت خطواتي حتى عدت إلى عالمي، عالم بعيد مطوق بشيء اسمه حب حقيقي.. حب لا إلزام فيه ولا جزاء.. حب لذاته، بلا تعويض، بلا ثمن، بلا خوف، حب صافٍ لم أحس به أبداً من قبل، أبداً أبداً، حب لذلك الطفل الذي ولد مني، بسببي، ومن أجلي، وكان ثمنه حبي لها، وحبها لي، ليس غير.. حب لا غاية له، ولا هدف، حب مترع العطاء، يطوف في صدري حتى أحسه يسكب في جسدي، كما لو أنه ينضح ندى فيبعث فيَّ فرحة اللقاء الحقيقي الذي لم يلوث بعد بتعقيدات الحياة، بقانون خذ وهات، وقانون أنت وأنا، وقانون أين ولماذا وكيف.. مجرد عطاء محض غير مشوب بأي سؤال، أو طلب، أو انتظار، أو تلكؤ، أو تردد.. مثل ماذا؟ مثل لا شيء، مثل ذاته ليس غير.. لو قدر لنبعة الماء أن تحس، إذن لأحسَّت ذلك الشعور، العطاء المحض الذي يخلق من جديد كلما شرب عابر من مائها ..
وحين نظرت في عيني «آني» فهمتها، ولست أدري لماذا أوشكت أن أبكي، بل إنني أحسست بالدموع تطوف في حلقي مثل الغصة.. وبذلك كل طاقتي لأقول أي شيء، عبث .. لم يكن في لساني إلا ذلك التساؤل الغبي: إذا أعطيتم الطفل حق البكاء حين يولد، أفلا تعطوني هذا الحق حين أولد أنا بولادته؟ أليس كل الأيام التي خلفتها وراء ظهري ذابت الآن؟ ألا يحق لي أن أفعل كل الذي أشاء وقد عثرت على قطعة السكر في قاع الكأس الذي اجترعت مرارته كل شبابي؟؟
ولكنك كنت وراء الزجاج يا فائز، بيني وبين لمسك مثل ما بين اليوم واليوم.. نائم هناك في غطائك الأبيض، تعني للمستشفى رقماً مربوطاً إلى زندك ليميزك من بين عشرات المواليد الذين يشاطرونك الغرفة.. أما بالنسبة لي فإنك تعني الحياة المزدوجة، حياتك، وحياتنا: أمك وأنا..
أو تدري متى بدأت أفكر بك؟ أقول أفكر بك، وقد أحسست بك كل الوقت؟
حدث ذلك حين دخلت الممرضة لتأخذ أمك إلى غرفة أخرى:
ـ لماذا؟
لأن هذه الغرف خاصة بالدرجة الثانية، وأريد أن آخذ زوجتك إلى غرفة الدرجة الأولى..
ـ ولكنها مسجلة في الدرجة الثالثة !
ـ الثالثة؟ أوه، عفواً إذن، لقد حسبت أنها مسجلة في الدرجة الأولى..
عندها فقط جعلوني أحس بأنني فقير.. وبأنني لن أعطيك الحياة التي يستطيع غيري أن يعطوها لأبنائهم.. ولأن هذا كله قد يعني لديك ـ غداً ـ شيئاً..
لا تحسب أنني أريدها أن لا تعني لديك أي شيء.. الأمر لا يتعلق بك، أنه يتعلق بي أنا فقط.. لست أريد أن يشوب عطائي أي ندم..
أنا، يا فائز، لا أطالبك بحق الأبوة في المستقبل.. هذا الذي لا قيمة له إذا طالب المرء به، إنما أطالب نفسي بحقك علي، وهذا هو كل شيء عندي الآن.. لقد اكتشفت الآن فقط أن كل شيء سيبدو تافهاً لو طالبتك بأن تعوض لي سعادتي بأبوتي لك.. ولكنني لن أغفر لنفسي تقصيري بالمضي في هذه السعادة حتى آخر الشوط، بلا مقابل، بلا تعويض، هذه قضيتي أنا... أتعرف معنى هذا؟
وأنا أخرج من غرفة أمك عرفت أيضاً معنى الهَمّ.....
ذلك العِبء الذي يُثقلُ أكتافَ الرجال ،
لأنه ينبع من الداخل ، عَميقاً من الداخل ،
والذي يُعطي الحياة ذلك الحافز النبيل
الذي يفتقر إليه رجل لا يعرف معنى العِبء الذي ينبع من الداخل...!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى