د. محمد سعيد شحاتة - دوائر الحرمان ورهانات الأنا الشاعرة قراءة في قصيدة "أحتاجُ شمسًا" للشاعر عبد الوهَّاب الشيخ.. (الجزء الأول)

(الجزء الأول)


العنوان وتشكُّل عوالم النص:
إذا كان العنوان يمثل عتبة الولوج إلى عالم النص واكتشاف عناصره المشفَّرة التي أودعها المبدع بين حناياه وأنسجته فإن تفكيك هذا العنوان من شأنه الكشف عن دلالات النص وأسراره والإمساك بعناصره الرئيسية التي تشكل البنى الكبرى المشكِّلة لعالم النص، ورؤيته الفكرية، ومن ثم فإن قراءة العنوان قراءة واعية خطوة أولى يقوم بها الناقد لتفكيك النص؛ لأن العنوان في أساسه هو المفتاح التأويلي الأكثر قدرة على فتح عوالم النص أمام المتلقي؛ ليتجول فيها متكئا على ما أتاحه هذا العنوان من خيوط رؤية تضيء هذا التجوال، وحكمنا على العنوان بأنه المفتاح الأكثر قدرة على إضاءة النص ناتج من كون هذا العنوان لم ينشأ في فراغ، ولكنه محاولة من المبدع لاختزال تجربته الإبداعية ورؤيته الفكرية في النص من خلال اختيار ألفاظ قليلة ارتضاها؛ لتكون مَعْبَرًا أوليًّا إلى النص، ومن ثم فهو اختيار واع، واختزال دقيق ينبغي التركيز عليه، وعدم إهماله، أو التغاضي عنه، ولا يعنينا هنا الاختيار العشوائي من بعض المبدعين لعناوين نصوصهم؛ لأن ذلك لا يمثل قاعدة عامة، ولكنه يمثل خروجا عن الإطار العام يؤكد القاعدة ولا ينفيها، كما أنه ينبغي علينا الاعتراف بأن كثيرا من المبدعين يقفون عاجزين أحيانا عن اختيار عناوين لنصوصهم الإبداعية، وقد يفسر البعض ذلك بعدم قدرتهم على اختيار العنوان، ولكننا نرى أن ذلك قد يكون ناتجا عن سيطرة التجربة الإبداعية بكافة جوانبها سيطرة كاملة على المبدع بحيث يعجز عن اختزالها في ألفاظ قليلة، فيرى أن كل جانب من جوانب هذه التجربة جدير بالتنويه إليه في العنوان، وهنا يصبح المبدع مترددا بين كافة الجوانب في تجربته فلا يستطيع دمجها كلها فيتوقف عن اختيار عنوان، ويلقي للمتلقي نصه بدون عنوان، أو يختار لفظا أو لفظين عنوانا للنص الإبداعي فرارًا من الحيرة التي وقع فيها عند اختيار العنوان، وأحيانا يعطي النص أرقاما هربا من اختيار العنوان، وفي بعض الأحيان يرى بعض المبدعين أن العنوان عقبة أمام دخول المتلقي مباشرة في النص فيهمل العنوان تماما ويلقي للمتلقي بنصه الإبداعي دون عنوان منطلقا من فلسفة شخصية ترى من الضروري أن يدخل المتلقي مباشرة إلى عالم النص؛ ليكتشف بنفسه ملامح التجربة الإبداعية دون أن يسلمه المبدع مصباحا/ العنوان يهديه في دروب النص وشعابه وأوديته المختلفة التضاريس، وإذا نظرنا إلى عنوان نص الشاعر عبد الوهاب الشيخ (أحتاج شمسًا) فسوف نجده جملة فعلية خبرية مكونة من فعل وفاعل ومفعول به، ومن الملاحظات الأولية أن الفاعل محذوف، وهو الدال على الذات الشاعرة، أما المذكور في العنوان فهو عنصران (الاحتياج – الشمس) وعلى الرغم من حذف الفاعل لفظيا في العنوان فإن حضوره حضور ضمني، وهذا له دلالة بالتأكيد في النص سوف نتعرض لها لاحقا، ومن الملاحظ أن العنوان في جزئيه الظاهرين (الاحتياج – الشمس) يتردد بين الحقيقة والمجاز؛ فالجزء الأول (أحتاج) يدل على الحقيقة، وحدُّ الحقيقة أنها اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح الخطاب (جوهر الكنز: تلخيص كنز اليراعة في أدوات ذوي البراعة ص 51) وتشتق الحقيقة من الحق، والحق في اللغة هو الثابت (يراجع كتاب نهاية الإيجاز للفخر الرازي ص 46) وهذا يعني أن الاحتياج حقيقة تقرُّ بها الأنا الشاعرة، وهي ثابتة ثبوت اشتقاق الحقيقة من الحق، وأما الجزء الثاني من العنوان (شمسًا) فإنه يدل على المجاز، وإذا عرفنا أن الحقيقة عكس المجاز وأنه إذا كانت الحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له في اصطلاح الخطاب فإن المجاز عكس ذلك، أي أنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له في اصطلاح الخطاب، وهذا يعني أن الشمس المستخدمة في العنوان ليست هي الشمس بالمفهوم الحقيقي، فعلامة الحقيقة المبادرة إلى الفهم بلا قرينة، وأما المجاز فإنه يحتاج إلى قرينة، والقرينة هنا هي أن الشمس الحقيقية موجودة فعلا فكيف يحتاجها الشاعر؟ ومن ثم يذهب الذهن إلى أن الشمس الواردة في العنوان ليست هي بالمفهوم الحقيقي للفظ الشمس، وهذا يدفعنا إلى تلمُّس دلالة الشمس في النص حتى نستطيع أن نبلور شكلا محددا للاحتياج الذي أقرت به الأنا الشاعرة، والتجول بين أروقة النص وشعابه وأوديته يقودنا إلى أن احتياج الأنا الشاعرة هو احتياج إلى الوضوح والثبات والتفاؤل واليقين والعدل، وكلها دلالات واردة لاستخدام لفظ الشمس في النص، وسوف يكون لذلك توضيح لاحقا.
الجزء الأول من العنوان هو (أحتاج) وهو دال على الفعل أي أنه دال على الحدث مقترنا بالزمن، فالحدث هو الاحتياج والزمن هو الحاضر، أي أن الأنا الشاعرة تعبر عن حدثها الراهن وهو الاحتياج، وقد أوردت المعاجم العربية معنى الاحتياج حول الدلالات الآتية ((احْتَاجَ إِلَى مَنْ يُسَاعِدُهُ : اِفْتَقَرَ – يَحْتَاجُ عَمَلُهُ إلَى وَسَائِلَ جَدِيدَةٍ : يَتَطَلَّبُ – احْتَاجَ إِليه: مال وانعطف – رَجَلٌ مُحْتَاجٌ: مُفْتَقِرٌ، مُعْوِزٌ – وَجَدَ نَفْسَهُ في احْتِيَاجٍ إلى الْمُسَاعَدَةِ : أَي في حاجَةٍ وضَرورَةٍ إِلَى – كانَ احْتِيَاجُهُ سَبَباً في ذُلِّهِ ومهانَتِهِ : اِفْتِقَارُهُ – و الحائِجَة ما يفتقر إليه الإنسان ويطلبه. والجمع : حوائج) وهو ما يعبر عن الافتقار، أو ما تتطلبه الحالة الراهنة للأنا الشاعرة، فهي تفتقر إلى شيء ما، وحالتها الآنية تتطلب هذا الشيء، وهنا يأتي الجزء الثالث من العنوان (شمسًا) وهذان العنصران (أحتاج/ الأول – شمسًا/ الثالث) بارزان على المستوى اللفظي في العنوان، أما العنصر الثاني الدال على الأنا الشاعرة (أنا) فهو ضمير مستتر، وهذا يعني أن ما يدل على الذات قد استتر وما يدل على الحدث/أحتاج وما يتعلق بهذا الحدث/ شمسًا قد حضر بارزا في العنوان، ومعنى ذلك استتار الذات الشاعرة لحساب احتياجاتها، وهو ما يمكن تأويله بأن هذا الاحتياج قد هيمن على الذات هيمنة كاملة لدرجة أنها عندما أرادت التعبير اختفت نفسها فأظهرت ما تعاني منه/ الاحتياج، وإذا أخذنا بنظرية عبد القاهر الجرجاني في ترتيب الألفاظ في النطق على حسب ترتيبها في الذهن فإننا نرى أن الذات الشاعرة لم تستطع أن ترى نفسها في ظل سيطرة كاملة للافتقار الذي تعاني منه، ومعنى ذلك أن هذا الافتقار قد صاحبها فترات طويلة، وظلت تتأمل تحقيق ما تصبو إليه حتى سيطرت هذه الاحتياجات عليها سيطرة تامة فعندما نطقت تذكرت احتياجاتها ونسيت ذاتها، فكانت الألفاظ الدالة على الاحتياج حاضرة في الذهن واللفظ الدال على الذات غائب، وعندما صاغت الأنا الشاعرة ما تعانيه صياغة لفظية جاءت تلك الصياغة محققة ما يهيمن على الذهن من ذوبان الذات واختفائها في ظل الحضور الطاغي للاحتياجات، وهو تأثر بالصياغة القرآنية كما ورد في سورة الذاريات في قوله تعالى (فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) تعبيرا عن حالة زوجة إبراهيم عندما بشَّرتها الملائكة بالإنجاب بعد أن بلغت سن اليأس، وتفسير ذلك أن السيدة سارة قد عانت من العقم منذ بداية شبابها وظلت تلك الحالة مهيمنة عليها فلما بلغت سن اليأس انضاف إلى عقمها يأسُها من الإنجاب فلما بشرتها الملائكة نسيت ذاتها وتذكرت علتها التي سيطرت عليها فنطقت بالألفاظ الدالة على العلة وحذفت الألفاظ الدالة على الذات، وهو ما أشرنا إليه في تعليل التركيب اللغوي لعنوان قصيدة الشاعر عبد الوهاب الشيخ (أحتاج شمسا) وهذا يدفعنا إلى إيراد الوجه الآخر من السؤال الذي قد يطرأ على الذهن، وهو: هل كان من الممكن أن يصوغ الشاعر عنوانه بطريقة أخرى تظهر فيه ألفاظ دالة على الأنا الشاعرة؟ ومن المؤكد أن ذلك كان ممكنا، مثل (احتياجي هو الشمس – الشمس حاجتي – أنا أحتاج شمسا) وغير ذلك من الصيغ التي تظهر فيها الألفاظ الدالة على الذات، وإذا نظرنا إلى عنوان بديل مثل (أنا أحتاج شمسا) فإننا نجد أن الذات حاضرة حضورا مباشرا على المستويين اللفظي والمعنوي، وهو ما يتنافى مع الرؤية الفكرية التي أرادها الشاعر وهي طغيان الاحتياج وسيطرته سيطرة كاملة على الذات بحيث أصبح لا ترى نفسها في ظل تلك الاحتياجات المتعددة والمهيمنة عليها، أما العنوان البديل الثاني (الشمس حاجتي) فإن الذات حاضرة أيضا على المستويين اللفظي والمعنوي، ولكن حضورها هنا متعلق بحضور الاحتياجات (حاجتي) وهو ما يجعل الحاجة التي يتحدث عنها الشاعر حاجة فردية متعلقة بالأنا الشاعرة فقط في حين أن النص ينقل الاحتياجات من دائرة الاحتياج الشخصي المحدود إلى دائرة الاحتياج العام فتخرج الفكرة من صورتها الفيزيائية الضيقة إلى صورة سائلة بين الناس عامة، ويدور في هذا المعنى أيضا العنوان البديل الثالث (احتياجي هو الشمس) وهنا تتأكد فكرة الوعي في اختيار العنوان، وليس بالضرورة أن ترد هذه التعليلات على ذهن المبدع لحظة صياغة العنوان، ولكن يكفي أن يكون شاعرا بتحقيق العنوان المختار لما في ذهنه من تموجات شعورية وفكرية تهيمن على الذات المبدعة لحظة الإبداع، وتدفعها إلى الرضا عن عنوان دون آخر.
وإلى نظرنا إلى التكييف النحوي للعنوان فسوف نجد أنه جملة فعلية تكوَّنت من فعل وفاعل ومفعول به، ونلاحظ أن الجملة جاءت مكتملة الأركان (فعل – فاعل) والترتيب بمعنى أنه لا يوجد في الجملة تقديم أو تأخير، ثم تمَّت توسعة الجملة الفعلية بزيادة المفعول به الذي هو ليس ركنا أساسيا من أركان الجملة، وزيادته تؤدي إلى زيادة في المعنى؛ فكل زيادة في المبنى يقابلها زيادة في المعنى على حدِّ قول النحاة العرب، وهو ما يجعل العنوان ذا دلالة مباشرة على المطلوب بترتيب عناصره، فالحدث/ الفعل أولا، ثم صاحب هذا الحدث/ الفاعل، ثم المفعول به، وأما التكييف البلاغي للعنوان فقد جاء الفعل مضارعا وهو ما يدل على التجدد والاستمرار؛ فنحن نعلم أن التعبير بالفعل يدل على الحركة والتجدد والاستمرار، ودلالة الفعل على الاستمرار متوافقة تماما مع كثرة الاحتياجات التي عبَّرت عنها الأنا الشاعرة في القصيدة، فإذا كانت الاحتياجات كثيرة فإن التعبير عنها بما يدل على التجدد والاستمرار ضروري، وهو ما أشار إليه عبد القاهر الجرجاني بأن الهدف من الكلام ليس مجرد نظم الكلمات بجوار بعضها ولكن تناسق الدلالات، يقول (ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل، وكيف يتصوَّر أن يُقْصَد به إلى توالي الألفاظ في النطق بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض وأنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش وكل ما يقصد به التصوير وبعد أن كنا لا نشك في أن لا حال للفظة تعتبر إذا أنت عزلت دلالتهما جانبا) (دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، ص 50) ودلالة التجدد والاستمرار متناسقة تماما مع كثرة الاحتياجات، وقد أشرنا سابقا إلى أن الفاعل ضمير مستتر تقديره (أنا) وأن حذف الفاعل متناسق تماما مع الدلالة العامة، وهو طغيان الاحتياجات على الذهن فأدى ذلك إلى اختفاء الذات وظهور ما يدل على الاحتياجات، ثم يأتي الجزء الثالث من العنوان (شمسًا) وقد جاءت نكرة؛ لتدل على العموم والشمول فالأنا الشاعرة لم تحدد هذه الشمس، ولكنها حدّدت في النص نتائجها؛ فهي التي ستحقق لها كل احتياجاتها التي أشارت إليها في النص، والتي سوف نتعرض لها في أثناء حديثنا عن حركة المعنى وإنتاج الدلالة في النص، على أننا يمكن أن ننظر إلى تنكير لفظ (شمسًا) على أنه دال على التعظيم؛ فالاحتياجات الكثيرة التي تهيمن على النفس الشاعرة تحتاج على شمس عظيمة لكي تتحقق؛ فهذا الاحتياجات لا حدود لها، واختيار لفظ الشمس ينطلق من دلالتين على جانب كبير من الأهمية، الأولى أن الشمس هي مبعث الحياة على الأرض وبدونها تنعدم تلك الحياة، وهذا يعني أن الاحتياجات التي يتحدث عنها النص ليست أشياء عابرة يمكن الاستغناء عنها، ولكنها أساسيات الحياة الإنسانية، وبدونها تنعدم هذه الحياة رمزيا ومعنويا ووجودا حقيقيا، فلا معنى للحياة بدون تحقيق هذه الاحتياجات، أما الدلالة الثانية فإن الشمس تنقل الإنسان من الظلمات إلى النور، وهذا يعني أن هذه الاحتياجات تغير حياة الإنسان وتنقلها من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وهنا يتأكد الجانب الواعي في اختيار العنوان، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، واستتباعا للتكييف البلاغي للعنوان نرى أنه قد جاء جملة خبرية، والحكم بخبرية جملة من الجمل هو في الحقيقة كشف عن الخصائص التعبيرية للغة، وليس حكما تقييما بمعنى أنه إذا كان الخبر دالا على احتمالية الصدق والكذب في ذاته فإن ذلك ليس حكما تقييما بقدر ما هو كشفٌ عن الخصائص التعبيرية للغة، وهذا يعني أن احتمالية احتياج الأنا الشاعرة للشمس قائم على أساس رؤية تلك الأنا ذاتها، وقد يرى آخرون أن الاحتياجات ليست مطلوبة كما تراها الأنا الشاعرة، وهنا يأتي الاختلاف البشري في النظر إلى الأشياء، وهو ما يعبر عن شرائح مجتمعية مختلفة، بمعنى أن ما تراه الأنا الشاعرة احتياجا ضروريا قد لا يراه البعض كذلك، وهذا ما يفسر اختيار العنوان جملة خبرية؛ فالأنا الشاعرة تريد أن تخبر عما تراه هي ضروريا من وجهة نظرها، وهذا الإخبار يمثل ضغطا نفسيا تريد الأنا الشاعرة التخلص منه وإلقاءه إلى المتلقي؛ كي يتفاعل معها تأثرا بما تقول، وينحاز إلى جانبها اعتناقا لوجهة نظرها، مما يوحي بأن الأنا الشاعرة في حاجة ملحة إلى البوح والإخبار بصرف النظر عن احتمالية الصدق والكذب للكلام في ذاته، ومن ثم فإن الضغط النفسي الذي تتعرض له تلك الأنا الشاعرة نتيجة طغيان الحالة المعبَّر عنها يمثل سببا كافيا للجوئها إلى استخدام الأسلوب الخبري، وإذا كان هذا الأسلوب يحتمل الصدق والكذب في ذاته بصرف النظر عن مصدره فإن هيمنة هذا الأسلوب على العنوان يوحي بأن الأنا الشاعرة تؤمن منذ البداية أن ما تتحدث عنه مختلف فيه، وأن الإجماع عليه غير وارد، وأن التصديق والتكذيب لما تقول شيء عادي، ولا يقدح فيها من حيث كونها مبدعة النص؛ وذلك نتيجة الاختلاف في توجهات الناس، وانحيازاتهم الفكرية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية، وغير ذلك من الانحيازات التي تجعل كل واحد يفضل توجها معينا، إما لاعتقاد راسخ فيه، أو لحاجة آنية تجعله ينحاز لما يختار، ومن ثم فإن الإخبار عن الحالة الضاغطة بقوة على الروح الشاعرة هو نوع من التنفيس عن هذه الروح، وتعبير عن انحيازاتها الفكرية واختياراتها الحياتية.
لقد كان العنوان بتشكيلاتها النحوية والبلاغية مفتاحا تأويليا أساسيا، وأكثر قدرة على إضاءة النص، والكشف عن عوالمه المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية والبلاغية، كما أشرنا في البداية، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الكشف عن حركة المعنى وإنتاج الدلالة في النص، وهو ما يمكن تسميته الرصد الرأسي للنص، بمعنى رصد حركة المعنى وكيفية تشكُّل الدلالة جزءًا بعد جزء حتى تستوي على سوقها، وتكتمل الرؤية الفكرية التي أراد الشاعر التعبير عنها، ومشاركة المتلقي له انحيازا لما يريد، وتأثيرا في المتلقي، ومن ثم تصبح رؤيته رؤية لمجموعة من الشرائح المجتمعية، مما يعطيها مشروعية الوجود على الساحة الفكرية، وهنا يمكن تقسيم النص إلى سبعة أجزاء يمثل كل جزء حركة من حركات المعنى، وتموجاتها وتشكل ملامحها، ومن ثم إنتاج الدلالة، وهو ما سوف نتحدث عنه في الجزء الثاني من هذه الدراسة.

د. محمد سعيد شحاتة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى