أمل الكردفاني_ أستورياس موت في حضن التاريخ

كان هذا أفضل اكتشاف لي، فاليوم ليس الخميس بل الأربعاء، وهكذا ليس علي الخروج من المنزل. خاصة مع صباح سبقته أمطار ليلية خفيفة، فمنحته بهجة تستحق الجلوس والإطلال على الأفق لتأمل وجودي العبثي داخل الوجود كلي العبثية بدوره. حينها تذكرت صديقتي أستورياس. تلك المقطوعة المجتزأة من عمل للبيانو للموسيقار الإسباني إسحاق ألبينيز. والحق يقال أنها الجزء الأفضل في العمل كله، والتي تمت تأديتها بالجيتار أفضل من البيانو. إنه صباح إسباني. وإسبانيا هي تعبير صارخ عن العبثية التاريخية بدورها، ولا أدل على ذلك من أن ألبينيز قام بتأليف مقطوعته حنيناً جارفاً لقصر الحمراء وملوك غرناطة المغاربيين.
نُشرت القطعة باعتبارها القسم الافتتاحي لمجموعة من ثلاث حركات ثم زيدت لخمس حركات ثم تسع حركات. هكذا قرأت عنها وأنا لست متبحراً في الموسيقى، لكنني فضلتها على كل العمل وفضلت أداءَها بالجيتار على البيانو وخصوصاً بأصابع العازفة الكرواتية الجميلة والذكية في آن واحد "آنا فيدوفيتش" والتي تصغرني بعامين، عامين كبيرين جداً.. لوفهمتم ما أقصد.
استورياس اسم المنطقة الشمالية من اسبانيا غير أن المقطوعة-كما قيل- تستحضر موسيقى الفلامنكو أو موسيقى الغجر في الأندلس. هكذا قالوا وإن كنت أشعر بأنها تملك ذاتيتها وتفردها. وفي كل الأحوال فإن استورياس تعبير جمالي خاص جداً، بحيث يحرك مشاعر متباينة في نفس المستمع. فالقسم الأول منها حركة متكررة سريعة، ومع ذلك فهي لا تخلو من تسرب شديد الغموض للضياع والتشرد في اللا مكان واللا زمان.. ذلك التكرار هو الضياع، المسير الدائري المتسارع كالبحث بلا جدوى عن نهاية الطريق، والضربات القوية التي تعكس شعوراً متناوباً بالخطر. الخطر غير المحدد. ثم لينتهي كل ذلك فجأة، ويأتي الصمت، كما لو أن الضياع قد انتهى، ولكن هيهات.
تتلاعب أصابع فيدوفيتش بالأوتار، وتتساقط الحروف الملونة بالرماد، تتسارع نبضات قلبها وهي تهرول فوق سطح الجيتار لاهثة، تتلفت يمنة ويسرة، باحثة عن رفيق في صحرائها الشاسعة. حيث تضيع.
أما بعد ذلك، أي في الجزء الثاني، فإن الموسيقى تبدو "معبدية" وكأنما هي تراتيل بوذية، تحاول اللجوء الى السماء. كان هذا الجزء هو التضرع بكل ما تعنيه هذه الكلمة. التضرع اليائس.. ثم يبدو أن هناك أمل ما قد تسرب، ولكنه، ويا للخيبة، لم يكن إلا سرابا. فتعود الموسيقي لسابق هرولتها التائهة الخائفة. تستخدم فيدوفيتش ضربات أخف، فيخفت الصوت، ويزداد الشعور باليأس، ثم تزيد خبطاتها لتصل إلى القمة. ويبدو كما لو كانت تقف عليها. قمة الجبل. الجبل الذي تنظر منه إلى أفق شاحب ملبد بالغيوم، أفق بارد.. قبل أن تمد قدماً أمام أخرى ببطء وتلقي بنفسها من القمة.
وتنتهي استورياس بكل عظمة، معلنة موت التاريخ، والتاريخ حين يموت فهو -وخلافاً لكل موت آخر- يحيا خالداً إلى الأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى