حسن إمامي - باريس عتبة العري.. و(وافق شنّ طبقة) في الحكاية، وفي باريس

باريس عتبة العري
و(وافق شنّ طبقة) في الحكاية، وفي باريس


لعل سخرية العبارة تقودنا إلى تصور عري مادي لجسد إنساني ما دام هو المخاطب باللغة ودلالاتها. وقد تقودنا إلى استحضار لاشعوري لعري الجسد الذي سيعني كل اشتهاء حسي أو غرائزي. فما دام العري فضح وخلع وتجرد ونزع ومكشوف، فإنه سيتخذ أفعالا متنوعة سيدل عليها إنْ حقيقة أو مجازا. وربما المجاز هنا أقوى استعمالا ما دام ينوب عن وصف يتداخل مع الأخلاقيات بين المسموح والممنوع، بين المقبول والمرفوض.
وربما نتساءل عن العلاقة الجامعة في هذا العنوان بين عاصمة أوربية لدولة غربية وكلمة في اللغة العربية ذات حمولة إيحائية. ربما نستدرج القارئ كما عقولنا جميعا إلى حكاية مروية قد نتشوق للتعرف عليها. أي دلالة تحملها باريس في علاقتها مع العري؟ وكما عواصم عالمية أخرى؟ أي تصرفات وأشكال حياة ثقافية يعرفها الناس داخل هذه المدن الكبرى وترتبط ارتباطا بالعري؟
ربما يجد القارئ استفزازا في هذا التلاعب بالكلام. ينتظر وضوحا في تناوله وتحليل هذا العنوان. من حق القارئ أن يطالب بالاختصار ومباشرة الفكرة المرجو توضيحها وتحليلها. من حقنا أن نتحلل من كل حملات إسقاطية وترسبات ثقافية وعوامل تحول دون عري الفكرة وجلائها.
باريس، عاصمة الانوار. وكما مثل العواصم الغربية هي عاصمة الحرية التي تنطلق من فلسفة ليبرالية وتستفيد من حركية الاقتصاد والاجتماع. مدينة عرفت تطورا تاريخيا جعلها رمزا حضاريا دالا على الرقي الفني والعمراني والثقافي كما المعيشي اليومي. نستحضر هنا جوابا عن سؤال صحفي طُرح على المرحوم الحسن الثاني ملك المغرب سابقا، حينما سئل حول ما يمكن أن يحبه ويكونه إن لم يكن ملكا أو ما يحمل معنى هذا السؤال، فأجاب: أحب أن أكون عمدة باريس ! وطبعا، السياق ليس هو السياق. فسياق جواب الحسن الثاني ليس سياق تحليلنا. إنما المشترك هو هذا الحب لمدينة تحقق للذات مبتغاها في العيش كما تريد بثقافتها ويوميها.
منطلق الكتابة هو الذات. وهذه الذات انتماء ثقافي وتشكيل تربوي وأخلاقي. وحين التفاعل تتباين درجات الاندماج والتأثير والتأثر. ردات الفعل متفاوتة ومتباينة بين درجات قصوى تميل إلى الحدين المفترضين في كل انحراف عن التوازن المطلوب لهذا التفاعل بين الذات والموضوع، بين الذات والقضية، بين الذات والمدينة، بين الذات وباريس.
قد أختار العيش بأفكار التحرر الليبرالي البعيدة عن الأحكام الدينية وقروسطية تصوراته وتصريفها. أختار علاقة مع الجنس الآخر بكرامة ومساواة واتفاق على الحرية داخل الحب، وعلى الصدق في كل حب، وعلى الإخلاص دون تخويف أو رقيب. فأجدني ناجحا في هذا التحرر المكتمل إنسانية.
قد أعدّ الخطو وأنا عابر شارع سانت ديني، أنظر يمنة وشمالا. قد تستدرجني الأفكار وأشكال الاشتهاء، إنما لن أستدرج الكتابة إلى تخيلات وافتراضات.
قد أضع قدمي في مطار أورلي، وأنتظر ما تركته في بلدي لأبحث عن بديل أو عن معالج لوضعه وحل لمشكلته.
قد أتسلل عبر الباخرات والشاحنات والقطارات، وتكون إطلالتي عليها بحثا عن منفى اختياري أو قسري، بحثا أن أشكال منفى ووصف له في وضعه: سياسي، اجتماعي، حقوقي أو ما شابه.
قد ترمز باريس لكل هذه المدن العالمية التي تستقطب المرء بسبب داعٍ من مثل هذه الدواعي المرسومة أعلاه بين ثنايا هذه السطور. تختلف اللغة وأساليب العيش والبيئة، لكن تشترك الثقافة والرسالة السياسية وما ارتبط بها.
قدْ: حَرْفٌ يُفِيدُ التَّوَقُّعَ مَعَ الْمُضَارِعِ. يُفِيدُ التَّقْلِيلَ مَعَ الْمُضَارِعِ. يُفِيدُ التَّحْقِيقَ مَعَ الْمَاضِي. وبين التوقع والتقليل والتحقيق فإن حرف قدْ يحافظ على سكونه في انتظار وقوعه.
قد أخلع ثوبا أو خمارا أو قناعا وأنا واطئ باريس، دونكيشوتيا في حملتي ومعركتي. أخوض معركة تحرير وأحارب أغلالا وأفك قيودا. أكسر جدرانا مبنية ضيّقت على نفسي وخنقتها من كل تنفس مريح.
ليس جديدا أن ترتبط باريس بأشكال عري ثقافي وأخلاقي. وليس قدحا أن نتناوله وكأننا نحاكم هذا اللعين الشيطاني الذي امتلك الحرام والشر ويريد نشرهما في بقاع العالم وبقاع أرواحنا. فالمشكلة مطروحة في الإسقاطات الثقافية الذاتية وفي العقد النفسية المكبلة لكل ذات بين التزمت والتحرر. الجديد هنا هو هذه التجربة التي خاضتها شخصيات سياسية تمثل مرجعية وخطابا أخلاقيا وسلوكيا معينا. وحينما تزور باريس تتحل من هذه الارتباطات أو من بعض رمزياتها تحررا وبحثا عن الذات. فهل هذا يعني أن خطابها ومرجعيتها ومنظومتها يخنقان الذات لدرجات كونها لا تستطيع التخلص مما يكبلها ولا البوح بما يزعجها، وتجدها حينما تنتقل لمكان دون مكان وكأنها تجد الفرصة للتخلص وللتفريغ ولعيش حلم الحرية الذي حرمت نفسها منه.
ولن تكون جديدة هذه الإشارات، فباريس يا ما استقبلت شخصيات سياسية ووفّرت لها دائرة حرية وتحرر وتخلص وخلع وعري، ووافق شن طبقة في الحكاية. يبقى فقط كون الجرعة في الزيارة ليست هي العلاج من الحالات النفسية المكبّلة للذات ولسلامتها ووضعها السوي والصحي. فالعلاج يكون بتحقيق هذه الحرية وممارسة هذه الحقوق في موضعك الأصلي الذي تمارس فيه الحياة وتخاطب فيه بلسان الحقوق والواجبات وتتبنى فيه كل المرجعيات والمقدسات وتمثلها خطابا وممارسة.

****

باريس ـ عتبة الحكي
(كتاب مفتوح وتأملات ذاتية في تجربة الكتابة)
ذ. حسن إمامي

هذه بعض فقرات من نصوص سردية شكّلتْ فيها باريس حضورا كبيرا وقراءة ثقافية وتاريخية كما استلهاما وجدانيا لمجموعة من الشخصيات. حضور يترجم تملُّك هذه المدينة العالمية لخيال الكاتب وعوالمه المتخيّلة، كما لجوؤه إليها لكي يسافر بشخصياته ويجعل لها فضاءات جديدة وأفكارا وعلاقات وقيم جديدة.
سيكون السؤال حول سفريات الكاتب الحقيقية والمنجزة، وسيكون الجواب للأسف بأن الكاتب لم يسافر لحدود كتابة هذه السطور سوى لهذه العاصمة في مناسبة متاحة من صيف سنة 1989. فهل ستكون هذه الفرصة هي الملهمة لهذا الحضور في روايات وقصص متعددة؟ طبعا لا يمكن الجزم بذلك ما دامت عواصم أخرى حاضرة ولو بشكل نسبي في التخيل والتصوير، أنقرة، مدريد، مونتريال... ستغيب الدول العربية وعواصمها فيما سبق ربما لكون مناخ الحرية المتغيَّب ضغط على خيال الكاتب فجعله طائرا مطرودا في أعالي السماء، عابرا لفضاءاتها دون النزول فوق تضاريسها الحياتية والمجالية والتخيلية. فهل هناك مناخ خاص بالحرية يؤثر في سحب الخيال السابحة في السماء؟
تجدر الإشارة لكون الثقافة الفرنكوفونية حاضرة بثقلها في تكوين ولغة تعبير واقتصاد عيش الكاتب. فبلد المغرب كمستعمرة فرنسية سابقة وكامتداد تبعي راهن ومستمر، ما يزال تحت سلطة ومراقبة وهيمنة التسيير الفرنسي الغربي وتنافسية حضور وتفوق ثقافي ولغوي بامتياز. لا أدري درجته عند من كان تحت سلطة مستعمر انجلوساكسوني أو غيره، لكن الملاحظة تظهر في اللغة المستعملة وتأثيرها في الخطاب اليومي على الأقل...
هكذا وبالعودة لعتبة الحكي فإن باريس تشكّل إحدى المملكات الذهنية التي تغذي سوق الكلمات ولغة التعبير التي يستعين بها الكاتب في سرده وتخيله وتشكيله... فهل يكون هو نفسه امتدادا ثقافيا معبّرا عن هذا التأثير وملاحظاته؟ نسبية الجواب تتجلى في جدلية تفاعله بين الذاتي والموضوعي، المشتغل عليه دائما. فهل يمكنه إقصاء هذا الحضور وهذا التأثير وهذا الارتماء كما الانتماء لثقافة باريس؟
في قصة (المدينة الزرقاء) ضمن المجموعة القصصية (مدائن ليلات•):
(من يدري، سافرت عبر الرواية إلى العالم الباريسي، وتيه الغربة، والبحث عن الذات، والاستمتاع بالحرية وملذات الكأس والجسد القابل للالتحام واللقاء والاختراق. فككت عقدتي في إطفاء لهثي. لم يكن الرجل وحده من يجري وراء المرأة، من يعبر عن الرغبة، يبوح بكلمة أحبك. كانت المرأة كذلك تجري، تعبر، تبوح. تنقصنا في دواخلنا المساواة. تذكرت أن الرجل إذا عشق امرأة لزمه الذهاب إلى معركة حربية للعودة بقربان تقرب. هل يعود من المعركة؟ ربما يموت على آمال معلقة.
تنقصنا في دواخلنا المساواة. لابد أن نحارب لهاثنا، وجري غددنا قبل عقولنا.... ربما لنا الفوضى، ولهذا العالم الباريسي النظام. عبث هي أفكاري بين ذهني ومكان تصوير مشاهد الرواية). ص 65/ 66.
نلاحظ هيمنة قيم الحرية والتحرر حين نُطق كلمة: باريس. نلاحظ عبق العطر الباريسي كل مرة. كذا تلك المقارنة التي تجعل الذات لاجئة لعاصمة أصبح رمزها العالمي كعاصمة للأنوار، ربما هي مجرد مصابيح مضيئة وربما هي مصابيح الثورة الفرنسية التي صدّرت مبادئها للعالم وتم اعتمادها في المرجعيات الدستورية والحقوقية الأممية والعالمية: مساواة ـ حرية ـ أخوة.
وإذا انتقلنا إلى رواية عندما تتساقط أوراق التوت نجد قول الكاتب:
(استعان باستنشاق عطره المسجل بماركة باريسية رفيعة وعريقة، جلبتها له زوجة أخيه الفرنسية هدية، حتى يتغلب على الروائح الغريبة التي فرضتها عليه هذه الوقفة، وسط هذه الحشود التي استطاع أتباعه جمْعها ولمَّها. احتاج لكسب تحدي الروائح أكبر من احتياجه لما سيصدر عنه من كلام). ص04.
ربما يعيش الإنسان المغربي والعربي كذلك حالة انفصام وازدواجية في الشخصية. ربما تتفاقم فتصبح سكيزوفرينيا مرَضية بين صحة وسقم، بين حالة سوية وخلل توازن. فأن يقبل هذا الإنسان الالتزام بالقيم والأخلاق داخل الثقافة الأخرى ويمارس ضدها داخل مجتمعه، فهذا عين العقْدة عند الإنسان المغربي والعربي والذي تعكسه شخصية الرواية السالفة الذكر قبل قليل. نلاحظ استغلال طبقي وتعالي قيمي على مجتمع الانتماء الجغرافي، في حين يتخذ الانتماء لثقافة الآخر الغربي المتفوق حدّ التماهي واغتراب الذات !
مقارنة أخرى لابد من تسجيلها وجعلها منطلقا لكل تأمل واستفسار حول هذا الحضور: تلك وهذه الفجوة الحضارية والمدنية والتنظيمية الحياتية القائمة بين الهنا والهناك، بين بلاد الكاتب على الأقل وبلاد الغرب وباريس على الخصوص. فدائرة الحرية والحقوق الممنوحة بمقاس التفوق الحضاري وخدمة المشروع الحضاري الغربي وفلسفته وسياساته العامة، تجعل القدرة على التنفس لهذه القيم وتجسيدها في الكتابة الإبداعية بشكل أقوى وأقوى في باريس ـ عتبة هذا الحكي وهذا الاشتغال ـ .
ويبقى ما يمكن أن نختم به هذا المقال واستنتاجاته على سبيل المثال دائما وليس الحصر هو أن نسجّل ذلك اللجوء للكاتب في اقتراب نهاية كل رواية أو في تأجّج اختناق شخصياتها، إلى بّاريس حيث إنه في رواية (أقفاص•) مثلا، اختار بطل الحكي (عمران بن يوسف) بّاريس كآخر قفص أو كآخر ملجإ أو كآخر مناخ تنفس وحياة وحرية نسبية:
(لم يرد أن يجعل فكرة خلافة بِذُرّية. فكّر في خلافته بمشاريعه وإبداعاته. من جديد يلتقي مع الأفكار التي يراها منتشرة بعاصمة النور باريس. يسميها بالنور وينسبه للعقل أولا. يضحك لعواصم متلألئة بالمصابيح لكن العقول مغلقة فيها كما ظروف الحياة مختنقة وجحيم، وإن كان هذا الظلام ينتشر حتى في الغرب ليضيق على النور امتداده). ص 111.
قد نسجّل هنا فرصة الإضاءة في الوعي التي تتيحها الكتابة. فلمن سننسبها: للكاتب أم للسارد أم للبطل إذا كان شخصية مستقلة عنهما هما الاثنين؟ طبعا هو سؤال لا ينتظر جوابا، ما دام الثلاثة في واحد سيان عددا ونوعا.
(ـ فعلا هو تيه. هي الحياة يا بني. تأتي محطات فنَتِيه فيها. لكنه لابد لنا أن نختار حتى داخل هذا التيه. ربما الإنسانية بأكملها لم تهتد حينئذ إلى حكمة مناسبة. نُجرّب الطرقات والحلول. نتصارع حول يقين كل واحد منا. هذه الظلال يا عمران، هي كل هذه السياسات المفروضة على الشعوب. وهذه الإيديولوجيا التي تدّعي اليقين والحقيقة فتفرض طرحها على الناس، كما تفرض عليهم أنواع السلم وأشكال الحروب. قد تقودهم إلى نعيم كما إلى جحيم وإبادة... كل هذه الظلال حينما تشعر بها وتعيها، تقول لنفسك: تحرَّري منها. تخلصي من قيودها. أخرجي من أقفاصها... هذا ما أحاول حاليا إنجازه. مع نفسي فقط دون فرضه على الآخرين. لذلك اخترتُ المنفى. هو منفى تحرري وثقافي يضمن لي حرية التفكير والتصرف والاختيار والتجريب في اليومي. قليلون من سيفهمون مثل هذا التصرف من طرفي يا عمران. أريدك أن تكون حرّاً مختارا في قراراتك واختياراتك. كنْ على صوابٍ مع نفسك ومنطق عقلك. ودَعِ الأمور تحدث بما تشاء. هذه مفاتيح السعادة ربما). ص130.
بينما اختارت شخصية (ماري روز) في رواية (فيلاّ ماري رورز)• اللجوء خارج باريس حبن هجوم اليمين العنصري والنازي عليها إبّان الحرب العالمية الثانية. وها هي باريس تستنجد بهواء جديد لكي تنقل ثقافتها وشخصياتها العاشقة لها في تفاعل بالمكان الآخر، بالمغرب مثلا، كما في الرواية:
(كانت باريس إذ ذاك عاصمة عالمية تستقطب نجوم العالم في الرقص والغناء، وكانت فلسفة الحرية قد وجدت جزيرتها لكي ترسو سفينتها في موانئها وتسبح في شواطئها وتتذوق فواكهها اللذيذة. في كل مرة، كانت النوستالجيا والحنين هما ما يدعوان إلى هذا التذكر والتكرار لفضائل عاصمة الأنوار. تكون هذه العبارات وما شابهها كجرعة يومية تشربُها روح ماري روز حتى تبقى في استنشاق لهواء باريس. وكأن الحرية هواء تنفس، وكأن هواء التنفس هو الحرية. وتتنوع العبارات المتحولة إلى حكم فلسفية ووجدانية وجودية).ص15.
{كانت باريس جنتي الحقيقية. لم يفرقني عنها سوى زحف النازية. كسرطان يقتل الخلايا تباعا. لن يفرقني عنها إذا ما عاودت الحياة بها سوى الموت. ستموت جنتي حينذاك. أجمل شيء في جنة باريس هو ذاك العطش المتجدد كالسراب رغم ماديته، والذي يحمل الأنام لتناول كأس وعب جرعة شامبانيا أو نبيذ معتق أو جعة. هو ذاك الارتعاش الذي يخترق الجسد فيدعوه للرقص ثم الرقص فالرقص مع الموسيقى الساحرة التي أعتبرها صوت الملائكة وإيقاعها وطربها. أكيد أنها تغار من جنتنا فتخترق سحرنا وتعيش طقوسه.
باريس جنتي التي لا نار ولا جهنم تقابلها إلا ما ابتعد منها وأبعدني عنها. كلما مارست علاقة جنسية جديدة وبتجربة جديدة كنتُ أشعر بتجدد الحياة وبإضافة طعم جديد لها واستحقاق يجعلها محترمة. كنت أنتشي وأفتخر للعلاقة القادمة بآخر ما عشته في العلاقة السابقة. قبل أن ننزع ثيابنا أو نتنازعها، كنا نسرد آخر علاقة جنسية قمنا بها. نحاول ذكر التفاصيل، ولو كانت مملة، ندقق في وصفها وشعورها ونتائجها. يختلط الكلام مع الجرعات ومع دخان سجائرنا، فتكون المعركة وقد تأجّج الاستعداد لها لكي تبدأ متوهجة ومشتعلة وحامية، حطبها غيرة متبادلة. نجرب القبلة الجديدة، والممارسة الفريدة. وكانت أجسادنا تتخذ لغتها المناسبة.} ص33.
هذه عتبات للتحليل المتجدد، قد يمارسه الكاتب المعني كما في هذه السطور، وقد تكون ـ العتبات أو الفقرات كما طبيعتها داخل النصوص الإبداعية قصة أو رواية ـ مادة يستعين بها كل من حاول قراءة هذه الأعمال الإبداعية ببعد التحليل النفسي والسياقي العام الذي أنتجها. ستتولّد الملاحظات والاستنتاجات طبعا، ولذلك تبقى الفقرات الملحقة خير معين على هذه المهمة الأدبية والثقافية والتحليلية، وحيث لا ندري من المرسِل ومن المتلقي حينئذ. فلتكن باريس هنا عتبة التفاعل الثقافي ومنطلقه السياقي المناسب.

****

فقرات ملحقة:
في رواية أقفاص:
(ستشاء الصدف لكي يستقبل عمران من طرف عمران. وسيلتقي بالسيدة وفاء. وقع ذلك بعد استشارات حول إمكانية توفير سكن للدراسة يستفيد منه عمران الحلوي، ابن السيدة وفاء، بباريس لكي يتمم دراساته العليا بعد تفوقه في مرحلة الأقسام التحضيرية بالمغرب.
وزن الحرية الذي رأى به عمران بن يوسف موجة وروح السيدة وفاء، زادته فرنسا سحرا وفك ارتباط بهواجس أفكار تملّكته وقيّدته كثيرا. في كل مرة يفكّر فيها في الارتباط بوفاء تستحضره ثقافة تقليدية راسخة في لا وعيه وخطابه الاجتماعي الذي لا يفطن له. يعترف مع نفسه بتخلفه الفكري والموقفي والسلوكي. يقارن بين القيم التي تجمع الأزواج في فرنسا وغيرها من الدول الغربية وتلك التي يحملها من بلده الممتد مع اللغة والثقافة وليس مع المكان فقط. وصمة العار التي يشعر بها كل من فكر في أن يتزوج بسيدة لها أولاد أو مطلقة. نعم. إنه يعترف بذلك الشعور وقد يخالجه بعض الأحيان. لحظات ضعف وجهل منسيين فيما ترسب ملوثا في دواخلها. هو نتاج واقع وبيئة. كم مرة تم تمرير مثل هذه الأفكار مزاحا أو على سبيل النكتة أو غيرها. كم من مرة تُسمَع الضحكات من الروايات ويكون مفروضا على المستمع أن يُبدي ردة فعل متوافقة مع الثابت القيمي الذكوري والاجتماعي. كل هذا قاومه كثيرا لكي يعيه ويتخلّص منه.) 110 ـ 111.
(لم يرد أن يجعل فكرة خلافة بِذُرّية. فكّر في خلافته بمشاريعه وإبداعاته. من جديد يلتقي مع الأفكار التي يراها منتشرة بعاصمة النور باريس. يسميها بالنور وينسبه للعقل أولا. يضحك لعواصم متلألئة بالمصابيح لكن العقول مغلقة فيها كما ظروف الحياة مختنقة وجحيم، وإن كان هذا الظلام ينتشر حتى في الغرب ليضيق على النور امتداده. ص 111.)
(ذلك أن مناخ باريس الثقافي والاجتماعي ساعدهما على تقبّل التعايش مع زوج الأم. ولم يكن أي زوج. فلقد تراكمت إيجابيات الصورة الثقافية والفنية والأدبية. تابعا مسرحيته لمرتين على الأقل. وما دامت مسرحية متجددة ومضيفة كل مرة لعناصر جديدة في البوح والتشكيل فوق الخشبة، فقد اعتبراها كتابا مفتوحا لا يكتمل ما دامت الحياة مستمرة.) ص126.
في (رواية شجرات وخرائط•):
(صديقه الأستاذ الجامعي في شعبة الآداب الفرنسية، السيد علي الزين، الروائي والفنان التشكيلي والمترجم، الذي خضرم الثقافتين الفرنسية والمغربية، درسُه النقيض الذي نبّهه مبكّرا لثمن الثقافة والبحث العلمي، عانى من مشاكل الفراق والطلاق وتمزق الحياة الزوجية بسبب هذيانه مع الكتاب واللوحة. فراق حِبّي كان مع زوجته. تشبثت بقرارها ورأت فيه مصلحة لأولادهما ولها، حتى لا يعيشا في صراعات وخصومات. جل وقته يقضيه في السفر للندوات واللقاءات الفنية بين باريس ومدريد أو غيرهما من العواصم الفنية العالمية. وحينما يعود إلى المغرب، بالكاد يعاشرها ويجلس معها ليلة أو ليلتين حتى يغطس من جديد في بليته التي أصبحت نقمة على حياتهما الزوجية. ص17.)
(لن تكون رحلة عادية عند السيد فحص الخالدي. فباريس تشكل عالما خاصا ورمزية فريدة عند جل الناس. مرحلة شباب ودراسة متخصصة. علاقة عاطفية في الذاكرة. ابتسامة شارلوت داخلها كأنها ملصق فيلم سينمائي معلق على جدار الزمن وهذه الذاكرة. باريس الحلم الجامد في امتداد العمران والذي يسري غليانا في شرايين الذات ومرايا حلمها المؤجل أو المستحيل.
ستكون هذه الصور الشاعرية مُغْنية لفؤاد السيد فحص ومنعشة لها ومرجعة لشبابية نفسية كبيرة. ميزة شخصيته التي يكتشفها كلما همّ للسفر وقام به. ترجع الذات بالعمر إلى الوراء، فترفض التقدم المتشيّخ إلى الأمام. حيوية لا يدرك لها تفسيرا واضحا، لكنها تتحقق كل حين، وهنا في باريس الآن.
لا يصدق نفسه أنه في عاصمة الأنوار. يضحك من ذاكرته التي ربطت الأنوار لأول مرة قرأ فيها عن باريس، حينما كان يفسرها بالمصابيح المضيئة في الشوارع. ربطها بثريات ومصابيح الاحتفالات في بلاده المغرب. تبرق مبتسمة صورة طه حسين قبل غيرها في هذه الرحلة الذهنية. يتساءل فيما بعد: لماذا طفت صورة الأديب قبل صورة المؤرخ والسياسي حين مغازلة باريس؟
لم يحتجْ إلى جواب في الحين. اعترضته جملة الأديب المشهورة (باريس، بلد الجن والملائكة). تساءل كطفل صغير في لحظة ارتشاف فنجان قهوة منعشة للذهن بفضاء حديقة المنزل الذي حلّ به ضيفا هو وعائلته وصهره كذلك:
ـ طه حسين، لم يكن يرى بعينيه. كيف سيرى الجن والملائكة؟
جال ببصره في محيط الحدائق الخضراء التي تؤثث فضاء هذا الحي من منطقة مونت لاجوليMantes la jolie . وراء الطريق المعبّد غابة خضراء بأشجارها السامقة وممرات ولوجها والتجوال بالدراجات الهوائية. وراء الغابة يختبئ في مروره الهادئ نهر السين الذي يدفن أسرار التاريخ. مرة أخرى تزداد حرارة جسم السيد فحص الخالدي مع حضور رمز النهر الهرمي في ذاكرته. لا يدري التفسير النفسي المناسب الذي سيجعله لربط عشقه للتاريخ بعشقه للأنهار. درجة التشابه والتقاطع الموجودة بينهما. حالات الإلهام التي يحدثها هذا في الآخر، وهما معا في الذات. هي نشوة داخلية يتغذى بها ويتلاعب بسحرها وألوانها. الطريق الإسمنتي يخطف خيوط الذهن للعالم الشمال غربي لباريس ولخارطة فرنسا. لكن الحواس أكثر واقعية من الذهن. سحر الفضاء المحيط وأصوات الحوارات القائمة والمنفلتة من نافذة جلسة الصالون من داخل الفيلا، وصوت كلب الجيران الضوبرمان الذي يلاعب فتاة شقراء بحيوية لا يفوّت مناسبتها اليومية...) ص81.
(حضرته شجرة اللوز وقصيدة محمود درويش من جديد؟ صوت داخلي يستحضر ترجمتها الفرنسية التي حفظها عن ظهر قلب. تمنى لو أن صوت إديث بياف غناها في لحن رائع وخالد. لكن الواقعية لم تغب عن أمنيته. فقط أنه يجهل لها حقها في الحضور والاحتجاج والغنج كذلك. نشوته في هذا السفر الجديد والجميل. هي باريس، بلد الجن والملائكة، لكنها هي كذلك ابتسامة شارلوت الرابضة في فؤاده.
الأيام الثلاثة الأولى كانت للاستراحة والاكتشاف كما المعتاد. لم تكن هذه بالزيارة الأولى ولا يتمنى لها أن تكون الأخيرة. لقد ارتبطت عائلة السيد فحص بالمكان وبأناسه وفضائه أيما ارتباط.
حينما تنظر رانيا إلى عيني أبيها ـ بّابّا كما تناديه هنا بالديار الفرنسية ـ تلاحظ سر طفولة مختبئة وقد اشتعل توهجه من جديد. تبحث عن فرص مداعبته والتسابق معه... تختبر الذاكرة المشتركة للأسرة. قد تكون شادية أمها موضوع النبش في الذاكرة، وقد يتحول هذا إلى جزئيات الأسفار واليومي القديم... لكنها هنا، يعجبها أن تراجع مسالك الغابة المقابلة للحي السكني المحاط بالنباتات والأشجار. فقد سبق لأسرة فحص الخالدي أن شاركت كضيفة شرف في مسابقات مواطني مدينة مونت لاجولي حول رعاية الأشجار وإعداد أفضل حديقة وأفضل مشاركة بيئية في إحدى مرافق الحزام الأخضر للمدينة هاته التي تتربع هادئة على عرش الضاحية الغربية الشمالية من العاصمة باريس).ص82.
(في رحلته الباريسية، ربما أراد خلوة للنفس مقتطعة من جزئيات اليومي. ربما، رغبة وجودية ـ هكذا استشعرها ـ يريد بها أن يجعل من اليوم أو النهار على الأقل، ألف يوم ومائة. لِمَ لا. صيغة المبالغة تعجبه في موكب السفر، ما دام الاهتزاز النسبي يرافق مقاييس الزمان والمكان والذهن. إذا كان التاريخ الذي يدرسه يطوي الأيام والأمكنة، فإن باريس التي يعانقها للمرة العشرين أو الثلاثين، لا يهمه عدد المرات، تحتاج إلى التوقف على كل حركة ثانية. الذات منتشية بهذا الشموخ للتاريخ الذي تخلده المتاحف والأروقة والأشكال الهندسية للبنايات ولعمران المدينة.
أنا شجرة. جزء من شجرة. وهذه المدينة تثبت لي صحة ما أقول، حيث التاريخ يقف على رجليه شامخا، ثابتا، موثقا. وما خفي أعظم. كذلك الشجرة، ما خفي أعظم فيها. لنا رؤيتها وصورتها الخارجية المورقة، لنا خشخشة أوراقها ومراقصتها للرياح، ولكن، لا نرى ولا نبصر عملها اليومي في بحثها عن مواردها، في تحكمها في تجديد فروعها وأغصانها، في عمليات احتلابها وتبرعمها... لو كان شبابي يسعفني عمرا رغم أنه يسعفني سفرا، لراقصت كل جذع واحتضنت كل ريح تلتحف بالفروع والأغصان.
أرخى سبيل المخطوبين لكي يتجولا بحريتهما، وبالخصوص، بأحلامهما. استعان بموعده الذي اقتربت ساعته السادسة، فاتجه صوب ساحة السوربون قبالة شارع سان ميشيل. اتخذ جلسته الظمأى للعروج الذهني بأحد مقاهي الساحة، مقهى ليبّاسّيوLES PATIOS. عكست ذاكرته مرايا أحداث وأشرطة، تماوجت بين ذات منشطرة في الوجدان وتاريخ مرتبط بالاجتماع والسياسة. لم تعجبْه الأشكال الجديدة التي قيِّدت بها الساحة. يتذكر السيد فحص الخالدي على الأقل أيام الثمانينيات التي كانت فيها الساحة مفتوحة لجلسات الكتاب العالميين والفنانين. تتقاطع فيها الثقافة والإعلام والفنون. جلسة كانت تصاحبها لوحات رسامين وعازفين... ألوان غجرية كانت تعبر بعبقها شوارع باريس وأحلامها الرومانسية. كيف كان لأغنية الصيف الهندي للمغني جو داسان أن تحلق به من على ضفاف السين إلى عوالم الجزر البعيدة. لكنه كان يقص الصورة من كل أبعادها الكولونيالية التي أثّثتها وصنعتها. وحتى اليوم، ها هي باريس تشهد على زيف السياسة ومكر التاريخ. لا تعترف هي الأخرى بهذه القيود مثلما أن نفسية السيد فحص لا تعترف بها كذلك هي الأخرى).ص85/86.
(ـ تعلمان، لقد استفدت من شرحه للسيد فحص في اختيار ما أريد أنا كذلك. نحتاج فعلا إلى قاموس خاص لفهم معنى هذه الكلمات والوجبات. هذا فضل باريس هو هذا التثاقف العالمي الذي تتيحه.
ـ كمْ مرّ على إقامتك هنا بباريس سيد هشام؟
كان سؤال السيد فحص مألوفا في جل اللقاءات التي تجمع أفرادا من جنسيات مختلفة. لكنه هنا، في هذه الجلسة، أثار حسرة خفيفة، خصوصا مع العدد الذي سيرافق الجواب:
ـ عشرون سنة، سيد فحص.
ـ ومتى كانت آخر زيارة لك للمغرب؟
ـ عشرون سنة).ص89.
في رواية (فيلا ماري روز):
(ومكناس، المدينة التي عشقها الماريشال ليوطي، والتي عشقها الفرنسيون لجمالها حتى اعتبروها فرساي المغرب، وباريس الصغرى، هي المدينة التي سحرت من بعيد ذهن (ماري روز). المرأة الفرنسية التي شكلّتها فلسفات الفن والحرية والموسيقى والرقص، والتي سحرها خيال الشرق وآفاق الإمبراطورية الفرنسية الممتدة). ص3.
(لم تكن باريس خلال ثلاثينيات القرن العشرين كباقي العواصم العادية. مزجت بين السطوع العلمي والفلسفي وبين امتدادات الحرية الوجودية الجديدة التي أنتجها العالم الليبرالي وثقافته وفلسفته الاستهلاكية. جنة مادية للفن وللمتعة وللموسيقى. حتى إن الأمريكان انتقلوا لباريس لكي يحققوا حلْمهم في ذروتِه، بعيدا عن تجليات المنافسة الرأسمالية الشرسة في الاقتصاد والمال. قانون الغلبة للقوي، جعل الشعور المرهف المدفون في الإنسان يبحث له عن ملجإ أو مخبإ ومنقذٍ له من الوقوع في وحشية الرأسمالية التي أصبحت إمبريالية تبسط نفوذها بالسلم وبالحرب).ص4.
(يوم التقيا ذات مساء باريسي وداخل فضاء محل للعطور. استأذنها في أن تختار له بين نوعين وقارورتين. كان سحر الاختيار من سحر الانجذاب الذي وقع بين فؤادين ونظرتين ولمستين. كانت بداية تعلق وتعارف اكتمل بزواجهما معا وإقامتهما في مدينة مكناس).ص12.
(لم تكن ماري روز الآتية من أجواء باريس التحررية لتتحمل ذلك اللون البني الذي يغلب على بدلاته المهنية. استطاعا معا أن يوفقا بين اللباس والوظيفة).ص15.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى