خيري عبدالعزيز - أيديولوجيا الرواية أم رواية الأيديولوجيا

- إن المتابع للمشهد الروائي العربي في السنوات الأخيرة يدرك أن الكتابة الروائية مرت بتحولات عديدة ، بل وتأثرت بالتصدعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، إلى حد جعل الممارسات الروائية تجيء محملة بمآزقها ، وهو ما دفع النقاد وعلى رأسهم د . جابر عصفور أن يذهب إلى القول بأننا في زمن الرواية ، وقد يقول القائل بأن مآزق الرواية تمثل سرا من أسرار فرادتها ، ، وهذا صحيح جدا ، ولكن مفهوم الرواية تغّير وتبّدل نتيجة التحولات التي شهدها العالم العربي بعد قيام ما يسمى بثورات الربيع العربي والتي ولدّت نوعا من الفوضى أربكت الخطاب الروائي ودفعته إلى الارتماء في حضن ايديولوجيات متعددة ووسمته – أي الخطاب الروائي - بنوع من الهشاشة والتبعية التي تستند – غالبا - إلى تصورات فنية خاطئة – كأن يظن الروائي أنه يجيب عن أسئلة الواقع المأزوم الذي يعيش فيه ، فيضطر أن يلبس روايته ما لا تحتمل من مآزق تحاصر فنية الرواية وتثقل كاهلها ، حتى الخطاب النقدي لم يتوقف عند هذه الظواهر بالتحليل والمقاربة مع ما تطرحه من قضايا أوجدتها الفوضى الخلاقة التي نحياها ، ولكنه وقف هشًا عاجزا عن تجديد أسئلته ، ولهذا يظل الحديث عن ماهية الرواية الجديدة في منتهى الأهمية ، خاصة وأنها منفتحة على الرواية الغربية - استنساخا وتقليدا - كنتيجة طبيعية لزمن الفضاءات المفتوحة ، إضافة إلى الخروج العشوائي عن الحدود والأشكال لصالح النزعات والأهواء والنزوات والأيديولوجيات أيضا ...
- منذ فترة غير قصيرة كقارئ للرواية العربية أتابع روايات الانشقاق كما أسميها ، تلك التي تنهض على فعل مواجهة الواقع وتقلباته ، عن طريق الإغراق في الرمز ، أو التحول إلى الأمثولة ، أو تلك التي تمضي مع الغرائبية إلى أقصاها ، فضلا عن تلك التي تحملها الأيديولوجية وامتداداتها ، في شكل تداعيات حرة يجري عليها السرد الذاتي أو الاعترافي دون اعتبار لقانون الرواية الإيقاعي ، ههنا نجدنا أمام عدد من النصوص الروائية الإشكالية ، منها ما يتخذ من رؤيةٍ إيديولوچية معينة نقطة انطلاق لروايته بهدف التأثير على القارئ ، وهو ما وجدته في رواية مهمة بعنوان : " كأنني لم أكن " للروائي الكردي " هوشنك أوسي " وهي رواية متميزة وكاتبها محترف سرد ، أيضا هي رواية متعددة الأصوات رغم أن السارد الضمني/ الكاتب يتحكم في أفكار أبطاله وفلسفة حيواتهم ، كأن يقول على لسان عجوز أعمى :
( تم أسري من قبل الإسرائيليين لأننا رفضنا أوامر وزير الدفاع حافظ الأسد بالانسحاب من الجولان والقنيطرة ) ثم يستطرد نفس العجوز يقول ( مجرد عبور قناة السويس وخطوط الدفاع الإسرائيلية ، واستعادة سيناء ، اعتبرها المصريون انتصارا )
ثم يتدخل الكاتب على لسان ذات الشخصية ويؤكد أن :
( النصر ليس أن تسترد أرضا هي أصلا أرضك ، بل أن تضيف أرضا إلى أرضك ، المحتل دائما هو المنتصر )
وكما يرى القارئ فإن الرواية تنطلق من رؤية أيديولوجية يقوم الكاتب بترجيحها عن عمد للقارئ كما أشرنا آنفا بغية التأثير عليه ، بل لا يكتفي الكاتب بذلك على لسان نفس الشخصية فيقول : ( وأنا أسير حرب في إسرائيل ، أفضل آلاف المرات من سجون حافظ الأسد إإ )
وهو ما كانت تدعو له ثورات الربيع العربي ، فقد توسلوا الأجنبي لاحتلال أوطانهم ، وهو ما حدث في العراق وسوريا وليبيا وغيرها.
إن افتتان الكاتب بالأيديولوجية الخاصة به تسبب في ابتعاد الرواية عن امتداداتها الفنية ، حتى الكاتب في معرض حديثه عن الرواية - التي تدور أحداثها عن فنّان التّشكيلي أصيب بالعمى ، ما يجبره على الخضوع لجلسات علاج نفسي ، وعندما يعود مبصرا يفقد سمعه فجأة - يقول الكاتب : إن هذه التّحولات الفيزيولوجيّة المفاجئة المجهولة السّبب ، وما تبعها من حالات نفسيّة انعكست على سلوك وأفكار شخصيّة عامّة ؛ فنّان تشكيلي معروف ، وسط بلد عاشت ثورة مدنيّة سلميّة، تعامل معها الفنّان بحياد وتعامى عنها كأنّها غير موجودة، أو كأنّه أعمى. هذه الحالات، والأسئلة والأفكار وغيرها، حاولت الاشتغال عليها ضمن هذا النصّ) وعليه فإن النص يتشكل مأخوذا بأبعاد الأيديولوجيا التي قد يؤمن بها كاتبها ، لكنها ، أي الكتابة ، لن تتمكن من تحقيق رغبتها المضمرة ورموزها الخبيئة ودلالاتها التي تجعل منها حاضرا لا يكف عن الاستمرار .!
- هكذا ترسم الرواية الجديدة طريقها ، يتشظى فيها كل شيء ، حتى الإنسان يصبح مجرد أعضاء تتمرد على صاحبها ، مثلها مثل الواقع الآلي الذي نحياه ، وهو ما يجده القارئ في رواية طارق إمام " ماكيت القاهرة " ، ومن الواضح أن الرواية ابنة عصرها الرقمي ، بحيث يشبه العمل الفني آلة العصر " الكمبيوتر " لا في الكيفية التي تركبت منها الصور والأشكال ، وإنما فيما يخرجه إلينا من صور وأشكال جاهزة ، فالرواية مخطط لها كل شيء قبل الشروع في كتابتها ، ولا يمكنها أن تخرج عن المرسوم لها ، وهو ما نجده مثلا في الهيئة الرمزية للشخصيات في رواياتهم ، ففي رواية " ماكيت القاهرة " لطارق إمام ، الكاتب يعلم كل شيء عن حيوات من يكتب عنهم ، فنقرأ عن شخصيات " أوريجا ، ونود ، وبلياردو ، باعتبارهم مجرد رموز في الآلة ( عقل طارق ) ولا يمكن لأحدهم أن يخرج عن خط سيره المقدر له سلفا ، وطارق ذاته يقرر هذا بقوله (أنا عمري ما أكتب رواية غير لو أنا عارف الأحداث الرئيسية والمصائر، الناس دي طالعة من نقطة (أ) ورايحة للنقطة (ي) وهو كلام قد يكون جيدا للوهلة الأولى ، ولكنه بعيد تمام البعد عن ماهية الفن وتقلباته ، ولهذا قرأت " ماكيت القاهرة " فوجدتها شبيهة بكتاب " الفيزياء المسلية " للكاتب الروسي : ياكوف بيرلمان ، والذي استخدم فيه عددا منوعا من الألغاز والأسئلة المبتكرة ، والقصص المسلية ، والتناقضات والمقارنات غير المتوقعة والمنسوبة إلى مجموعة الظواهر اليومية أو الروايات العلمية-الخيالية، المستمدة من مؤلفات مشهورة ، وفي ظني أن طريقة " ياكوف بيرلمان " تشبه كتابة طارق العلم أدبية المسلية ، ولذلك لم يمنع هذا المنهج الروائي المحدد سلفا ، أن يكون أبطال الرواية هذه الرموز ، أوريجا : بمعنى سَائِقُ عَرَبَةٍ Auriga- أو ممسك الأعنة ، أما " نود " : nood – فتأتي بمعنى المحنة ، ثم بلياردوBilliard- إشارة إلى اللعبة المعروفة ، وبالضرورة هدف هذه الرموز هو رسم ماكيت ؛ نموذج maquette، لمدينة القاهرة ، ومن خلال هذه الرموز يطمح طارق إمام في أن يخلق لروايته عالمها وتأويلها الخاص وبنيتها البديلة التي تصطدم بالذائقة الروائية المتعارف عليها.
- على أن الكتابة الروائية أحيانا ما توغل في المنطقة الخطر ، أقصد بذلك أن يعمد كاتب عن طريق الرمز الإسقاط على الواقع بطريقة تُفقد الرواية معناها وغناها وما تتكتم عليه من أبعاد رمزية محجبة ، لا بما نفهمه منها على أنه حقيقة وواقع وأحداث حقيقية جرت في الواقع أو التاريخ ، وهذا النوع من الكتابة وجدته في رواية " نهاوند " لكاتبها ممدوح عبد القوي الحصري ، " الرواية تحكي عن محيي الذي تزوج من نوال ، ومنذ ليلة عرسهما وجدها امرأة باردة حتى أنه لم يستطع أن يفض غشاء بكارتها الذي كان من النوع المطاط ، ثم بعد فض بكارتها بأيام عن طريق طبيبة قالت بأنها تريد الطلاق ، وبالفعل تنتهي الحياة بينهما ، وتسافر نوال إلى قطر ، يتخلص محيي من شقة الزوجية وينتقل إلى سكن أخر ، ولكنه ذات يوم - وبعد سنوات طويلة- يتفاجأ بحدوث انفجار يخّلف جرحى وصرعى في الكنسية القريبة من مسكنه ، وعندما يدخل محيي إلى شقته يتفاجأ بشبح أسود يكبله ، ثم تأتي أيضا نوال - التي كانت في دولة قطر - وتخبر محيي أن هذا الشبح ليس سوى ابنه منها "
- وكما هو واضح فإن الكاتب يتبنى قضية الإرهاب ويسقطها على واقع قرر الكاتب أن يعيد انتاجه بشكل مباشر ، ويبدو أن الكاتب من أولائك الذين يظنون أن الأدب رسالة ، ومن مهام سيادته توصيلها ، وهذا خلل في مفهوم الفن ، الذي يجب أن ندركه على نحو حدسي ،وليس بهذه الطريقة التي تنعكس على العمل الأدبي موضوعاً ومضموناً وبناءً.
إن على الكاتب أن ينأى بنفسه عن الانضواء تحت راية حزب سياسي أو حركة لها مطالب أو أيديولوجية يمكن أن تعرقل إبداعه ، وقد لا نتبين أن النص هو الذي احتوى القضية أم القضية هي التي حملت النص إلى قارئها ، فمن المهم أن تكون القضية التي يريد الكاتب التعبير عنها أكثر تكتما وتسترا وتندس في الحكايات والوقائع على نحو موغل في التخفي ، ولم يعد استلهام الواقع أو التاريخ وفق أيديولوجيا ما وقفا على روائيين محددين ، بل تفشت كثيرا بحيث تشمل أعدادا كبيرة من أولائك الذين نعتقد أنهم روائيون ، فمجرد أن تلوح للقارئ اللعبة تنتهي المتعة ، ذلكم أن النص الأدبي ليس تعبيرا عن الأيديولوجيا بقدر ما هو إخراج لها mise en scene," وعرض لها في عملية تنقلب فيها الأيديولوجيا بشكل ما ضد نفسها (1) وهو إقرار بقيمة التص الأدبية وسلطته التي تفضح الأيديولوجيا بما تتميز به من قدرة على تشغيل قواه التركيبية واللغوية في محاورة الأيديولوجيا ومصارعة قواها وهيمنتها (2) بحيث يستطيع الروائي أن يذّوب الأيديولوجيا في النص ولا يذوب فيها.!


----------------------------------
1. زيما بيير ، النقد الاجتماعي، ترجمة عايدة لطفي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 1991،ص55
2- Machery Pierre,Pour une théorie de la production littéraire , Paris, maspero , 1966 p156.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى