محسن الطوخي - الحوار في القصة القصيرة "وعد" للأديبة صديقة علي.. قراءة تحليلية

أنت تشيكوفية بامتياز، كما أنك أيضا إدريسية بلا منازع. كلاهما لم تبتعد أبصارهما، ولا اهتماميهما عن الفقراء، والبائسين، والتعساء، والمقهورين، سواء كان مصدر القهر خارجيا، أو داخليا. وتلك الفئات بحق هم الأبطال الحقيقيون للقصة القصيرة، ولسوف يبقى الأمر كذلك مهما أوجعوا رؤوسنا بالميتاسرد، وبالفذلكات الحداثية، والمابعد حداثية.
جرى السرد بضمير المتكلم على لسان الشخصية الرئيسية، فطرحت محنتها بأسلوب غلب عليه التعاطف.
والتعاطف هنا لا يعني الانحياز بقدر مايعني التماهي مع الشخصية، والإحساس بآلامها ووصف الظروف المحيطة بأمانة وصدق دون إطلاق أحكام من شأنها الوصاية على القارىء. وهذا التعاطف لا يكون ممكنا إلا إذا تمتع الكاتب بقدر كاف من الإنسانية والمروءة.
والقضية التي تطرحها القصة شائعة، ولها جذور في كل المجتمعات الشرقية، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب. ظاهرها تضحية الفرد من أجل صالح الجماعة، بينما جوهرها الأنانية، فالتضحية عندما يقهر عليها الفرد قسرا لا تعدو نوعا من الاستلاب. أفدح أنواع الاستلاب، فالمسلوب هنا ليس مالا او عقارا، بل الحياة ذاتها.
والمستلبة في القضية المطروحة لا تواجه خصما واحدا، وإنما منظومة كاملة من الأعراف والتقاليد التي تمنح الجماعة سلطة تفوق سلطة القوانين، وتجد لها أسانيد من الشرع، وتتستر بأردية الفضيلة، والعفة، والمروءة، وهي من كل ذلك براء.
والاستلاب ظاهرة متعدية للجنس. يتعرض لها الرجل والمرأة على السواء. فيجبر الشاب على الزواج من أرملة أخيه حفظا للميراث داخل حدود العائلة، وتجبر الفتاة على الزواج من أرملة اختها بدعوى تربية الأولاد.
كيف عالجت صديقة موضوعها؟
تلك حكاية الحنكة، والخبرة، والبراعة في تقمص الحالة، فعندما تستلم صديقة الحالة وتعبر عنها بضمير المتكلم تتماهى معها حتى يستحيل على القارىء إدراك المسافة بين الكاتب وبين لسان الحال. فالاختفاء التام خلف الشخصية فن تتقنه وتبرع فيه. وهذا بالضبط مايمنح نصوصها المصداقية، أو مانسميه " الصدق الفني".
قام الحوار في النص بأدوار متعددة:
فهو نقل المشاعر، وأفصح عن النوايا والمخاوف. وسوف نستعرض فيما يلي الفقرات الحوارية التي شكلت العمود الفقري للقصة لنعاين كيف تم توظيفه في توفير كافة الخصائص اللازمة لنجاح القصة القصيرة.
- الفقرة الحوارية الأولي بين الشخصية وبين اختها المحتضرة. تترك فيها الأم أطفالها وديعة لدى الأخت، وتربطها بهم برباط وثيق .." هم يحبونك فلا تتركيهم.. عديني ".
لا نلمح لدى المحتضرة أي إيماءة للمصير المنتظر. لكن المعنى المضمر في اسم الإشارة "هم" يلمح إلى أنها تشمل به الزوج، يؤكد ذلك الوصايا التي حرصت على إزجائها عن عاداته وطباعه.
- الفقرة الحوارية الثانية بعد موت الأخت، وشملت على إيجازها الفني الجميل الأطراف الثلاثة. وفيها تمهيد للعقدة. نلمس إرهاصات الأزمة تحلق في أجواء الحوار دون إفصاح. وما تمخض عن تلك الفقرة من مشاعر الرفض والقبول، وتمهيد الأطراف لطرح تلك الرغبات أو تفنيدها لم يكن ليحتاج أقل من عشرة سطور من السرد والوصف.
- الفقرة الحوارية الثالثة وردت مبهمة مبتسرة، لأنها قيلت في الخفاء همسا في غياب الراوية فلم تلتقط إلا كلمات الأم التي بدت وكأنها صاحبة الفكرة. وغياب كلام الزوج يعني إما انه لم يحر جوابا. أو أنه أعلن عن موقفه صمتا بلغة الجسد.
- الفقرة الحوارية الرابعة: تدور بلغة سافرة بعد أن اتضحت المواقف، ومقاطع الحوار يتم تبادلها بين طرفي الأزمة بإيقاع سريع، يستخدم فيه الزوج منهج عاطفي، فيذكرها بالوعد الذي قطعته لاختها، ويطرق على وتر ارتباطها العاطفي بالأولاد فيهرع لاحتضان الابنة الباكية مثيرا تلك العاطفة.
- الفقرة الحوارية الخامسة: تدور بين الزوجين عقب أسبوع من العرس الذي تم في اجواء من الحزن والفتور .." بلا فستان زفاف ". حوار مقتضب يشي باستمرار الأزمة فلا الزوج بقادر على نزع صورة البنت اليتيمة التي كان يعدها بمثابة ابنة له. ولا الراوية بقادرة على محو رائحة وصورة الأخت المتوفاة.
- الفقرة الحوارية السادسة والأخيرة: تدور بين الراوية والأم، وفيها تنحل الأزمة باتخاز الراوية قرار إنهاء علاقة الزواج، " فالأيام لن تحل أمرا عصيا على النفس".
أما الأم فترضخ إذ أنها لم تحر جوابا دلالة الاستسلام للأمر الواقع.
يعتمد قوام القصة في أغلبه على الحوار باسثناء انتقالات سردية محدودة. ويعد نجاح الحوار في تغطية كافة تفاصيل الحبكة بحيث بدت الحكاية متماسكة ومقنعة. يعد ذلك من إمارات البراعة والحنكة التي تتمتع بهما صديقة علي.
والأمر الذي تجدر الإشارة إليه في هذا الظقام هو استخدام الفصحى في الحوار، وأظن - ولعلي مصيبا في ظني - أن احدا من قراء القصة لم يلتفت إلى ذلك، لأن مالفت نظري لتلك الجزئية هو أنها واحدة من نقاط الفحص التي اعتمد عليها، وما أظنني كنت أنتبه فيما لو كنت قارئا للمتعة. وهذا يؤكد أمرين:
- أولهما إمكانية إدارة الحوار في السرد القصصي بالفصحي. صحيح أن استخدام اللغة الدارجة من الأمور المسموح بها في الحوار بإجماع الآراء، والحجة التي تبيح ذلك هي قدرة الدارجة على تجسيد الواقعية في السرد. فما شأن اللغة الفصحى التي استطاعت أن تعبر عن الواقعية في أجلى صورها على يد صديقة علي. كيف تمكنت صديقة من وضع اللغة الفصيحة على ألسنة أبطالها فتبدو وكأنها الدارجة المستخدمة في الحياة الواقعية. إنما هو الإحساس بطبيعة اللغة، والقدرة على تطويعها لتعكس أدق خلجات النفس. ونحن نجد عند نجيب محفوظ تلك الخاصية، فهو في رواياته وقصصه أنطق أبطاله بتلك اللغة التي تقرأها فتحسبها عامية لبساطتها ومناسبتها لمقتضى الحال، ولطبيعة الشخصيات. فصديقة علي في هذ الباب محفوظية أيضا.
تستحق القصة بالطبع التناول من محاور متعددة، فليكن هذا التناول مقصورا على براعة الحوار، عسى أن تتوفر الفرصة لقراءات لاحقة.


------------------------


نص القصة:

وعد

حال وجهها الحبيب، بيني وبين سعادة مفترضة لعروس بلا فستان زفاف.
بعد فقدانها يصبح الحديث عن السعادة ضرب من الخيال، كلها أوهام لأفراح سطحية، لا تلامس العمق، قد تخلقها ضحكة ابنتها، أو لعبة ننجزها معا أنا وابنها، أو كلمة “ماما” تنعش قلبي، بل تحرك أوجاع الحزن.
ـ أوصيك بالولدين وأبيهما …هو رجل، لا كل الرجال، وأنت تعلمين كم وقف معنا، وكم تحمل لأجلنا.
ستعيشين… وستفرحين بأولادك، وهم يكبرون… وتتمتعين بالحياة …
- لا تواسي محتضر… لا تقاطعينني … تذكري هو لا يحب الأكل البائت … لا يحب أن نشغل التلفاز وقت الطعام، يحب أن … أن أجلس مقابلة له على المائدة، لا يبدأ بالطعام قبل أن أجلس … لا تنظفي الأطباق قبل موعد الشاي، يحب أن ينظفها بنفسه … ثيابه … آه كيف سأشرح لك عن ثيابه؟
دموعها تغور في الوسادة، ودموعي المكبوتة تسقي قلبي الطافح بالألم، وحزن أمي لا يحيط به كلم!
- هم يحبونكِ جدا لا تتركيهم ..عديني.
- أعدك
وإن تزوجت …؟
لن أتزوج، ثم انت ترين طابور العرسان … ما أطوله ! . قلت ممازحة، عسى أن تنبثق من شفتيها ابتسامة تلين كل هذا العذاب.
ردت بصوت واهن، وبابتسامة ملائكية واهية:
كله قسمة ونصيب… عندما يكبران، أخبريهما كم كنت أحبهما، ولا أرغمهما على شرب الحليب.
أشعرني بإن اصراري على التواجد الدائم مع الأطفال هو الجنون بعينه، “فالمجتمع لا يرحم”
- حتى بوجود أمي معنا …؟
- حتى بوجودها قال، مطرقا رأسه في الأرض، يخفي دموعه العالقة.
- لن نسلم من ألسنة الناس .قالت أمي .
وسمعتها تهمس له : لا أستطيع البقاء هنا أكثر … كما لا أستطيع حرمان الولدين منك … الحل الوحيد أن تتزوجا.
جاءني مقهورا، مرتبكا، كمن يداري جريمة:
- ما رأيك؟
ـ هذا لا يمكن بل شبه مستحيل … أختي حاضرة بكل شيء هنا وفيك، ثم كيف تنسى كم كنت أخي بل أبي؟ .
لم أكن أشعر باليتم بوجوده، كان يغمرنا بكرمه وعطفه … اللامحدود، لوقت قريب كنت كابنته التي تحكي له عن كل همومها. فكيف ستتبدل الصورة …؟
ـ لا أخفيكِ سرا، هذا ما أشعر به … لم تكوني يوما سوى شقيقتي الصغرى، ولشدة محبة أختك ورعايتها لك؛ كنت أشعر بالمسؤولية التامة عنك … لكن الوعد أنسيته؟ من سيحنّ عليهما مثلك؟.
-دعني هنا واذهب لحالك … تزوج، هذا من حقك …. وسأبقى طوال العمر أماً لهما.
ـ لا ينفع …صدقيني لا ينفع، قالها بأسى وذهب يحتضن طفلته الباكية لانشغالنا عنها.ونظراته تنبئ عن صراع رهيب يدور في داخله.
كل يوم يمرّ، مع فرح الطفلين بي، يؤكد رضوخي للحلّ الوحيد … إلى أن تمّ الزفاف بأجواء جنائزية.
وكانت أمّي، بالرغم من مرضها، حريصة على أن تتحمل أعباء الطفلين، بعيدا عنا ، إلى أن يمضي ما يسمى بشهر العسل… ومضى الأسبوع الأول، بعواصف مجنونة من البكاء المرير… يحتضني من أصبح زوجي بخطأ قدري، لكن حضنه دائما ينسى أن يخلع رداء الأخوة.
ـ ما رأيك أن نلجأ للطبيب؟
ـوما قدرته …؟ أويستطيع أن يبدل عيني كي أراك فيهما غير أخي؟، هل هو قادرعلى إزالة رائحتها منك ؟أو على محي شريط صورها في كل ركن من ذاكرتي… ومن بيتها .
يقطع نحيبي صوتُ أمي القلق على الهاتف:
ـ لا تطمئني … وجه ابنتك حاضر أبدا … لم ترحل… أفهمت؟! واقتراحك لن ينجح…لن ينجح.
ـ الأيام كفيلة بأن تحلّه لك.
ـ لن تحلّ الأيام أمرا عصيا على النفس … ابحثي له عن زوجة ثالثة، وأعيدي لي ولديّ … أتوق بشدة لهما.

صديقةعلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى