محمود شاهين - جميل عواد يرصد نذر الخراب في " رماد الأحلام "

1 – فرس البحر!

رحل المبدع المتميّز جميل عواد عن عالمنا وهو في أوج عطائه الفني ، بين تمثيل وإخراج وكتابة وتشكيل وهندسة ديكور ، غير أن أدواره في التمثيل التلفزيوني والمسرحي التي زادت على المائتي عمل بين تلفزيون وسينما ومسرح هي ما جعله يتألق شهرة. ورغم كلّ هذا العطاء أصرّ جميل وهو يتهيّأ في سن الرابعة والثمانين لمواجهة خالقه، على أن يكتب رواية يودع بها العالم .. وقد حقق ذلك بإرادة لا تقهر وهو على فراش المرض . وشرع في كتابة رواية أخرى ، كتب منها قرابة عشرين صفحة حسب ما علمت من رفيقة دربه الفنانة المبدعة جولييت عواد. فلماذا الرواية وهو في الرابعة والثمانين وفي هذا الوضع . يقول في مقدمته لروايته ".. إن القلم لا تكتمل دورته إلا في حقل الرواية " لكن " انشغالي بالتمثيل على خشبة المسرح ، وخلف مايكرفون الاذاعة ،وأمام كاميرات التلفزيون والسينما ، وممارسة الرسم بوتيرة متقطعة ، حالت دون تجربة الخوض بعالم الرواية"

تعرفت إلى جميل أوائل سبعينيات القرن الماضي في دمشق ، حين كان يعمل في المسرح الفلسطيني ، غير أنه ما لبث أن عاد إلى عمان ، لتنقطع لقاءاتنا ، ولم نلتق بعد ذلك في دمشق إلا مرة واحدة ، حين جاء للعمل في فلم سوري ، فالتقينا في سهرة مطولة برفقة الصديق حسن سامي يوسف الروائي وكاتب السيناريوهات التلفزيونية المميزة . والتقينا مرة أخرى في عمان حين جئت لأجدد جواز سفري ، لتجمعنا سهرة مطولة في بيت جميل وجولييت برفقة الصديق المبدع الراحل مصطفى أبو علي. كما التقينا مرة ثانية على العشاء برفقة زوجتي الألمانية

.. وبعد أن غادرت سوريا على أثر الأحداث الجارية هناك ، أصبحنا نلتقي بين فترة وأخرى في رابطتي التشكيليين والكتاب. وزارني أول ما جئت برفقة الصديق الراحل داود جلاجل الفنان المتميز أيضاً، وأهديتهما لوحتين من أعمالي. سمعت عن مرض جميل متأخراً، وحين علمت أن الصديق رشاد أبوشاور وبعض الكتاب زاروه ، اتصلت برشاد لأسأله لماذا لم يخبروني لأذهب معهم ، فوعدني أن يخبروني في الزيارة اللاحقة ، لكن للأسف كان القدر أسرع منّا ، فسبقنا ليصطحب جميل معه.

الغريب أنني لم أسمع عن صدور رواية جميل وإقامة حفل توقيع لها في دار خطوط ، فأنا منهمك دائما في أعمالي ودخولي على النت يقتصر على المهم الذي يعنيني ، ولدقائق معدودة .

إلى أن فوجئت بها حين أهدتني إياها جولييت في معرض الكتاب. ولتخبرني فيما بعد حين اتصلت بها لأعرف ما إذا كانت الرواية قد صدرت في حياة جميل ، لتقول لي أنها صدرت في حياته وجرى لها حفل توقيع . وهذا ما أفرحني قليلاّ وجعلني أشكر القدر الذي أمهل جميل إلى أن يرى روايته منشورة وليقوم بتوقيعها لمن يرغب. رغبة الكاتب في أن يرى آخر أعماله منشوراً قبل رحيله عن الدنيا، رغبة تراود الجميع رغم أنهم ليسوا مرضى أو مسنين ، وأنا الآن أرجو القدر وأنا في السادسة والسبعين أن يمهلني حتى أرى رواية "سعيد وزبيدة " التي دفعت بها إلى الناشر ليلة أمس - منشورة ! ولا شك أن رغباتنا ككتاب وكفنانين ليس لها حدود ، وقد تقتصر على ما هو ممكن ومتيسر فقط .

فما الكلمة الأخيرة التي أراد جميل عواد أن يقولها في هذه الرواية اليتيمة التي ودع بها العالم.

تبدأ الرواية بمشهد عام لحشود وفئات بشرية تنطلق في اتجاهات مختلفة عبر الشوارع أو تتجمع في ميدان كبير تنطلق منه الحافلات والبشر : " سيارات عامة تحمل أشخاصاً من الجنسين .. الميدان يعج بأشخاص تجمعوا ليعودوا ويتفرقوا باتجاهات متضاربة وأحلام متباينة غامضة ..أموا ج أطفال من الجنسين تتدفق إلى الميدان .. كل يتأبط أحلامه في طيات كتبه الملونة وكراريسه الصغيرة .. شابات يافعات وشباب وحقائب عامرة بالكتب الوازنة والأحلام المحلقة ... الميدان يزداد صخباً ويتعالى الضجيج .. "

واضح تماماً أن جميل يضعنا أمام لوحة بشرية تعبرعن مجتمع دون محرك درامي لهذه اللوحة سوى وجودها وحركتها وبعض أحلام بشرها ، وهذا أمرغير كاف لتوظيف مشهد بشري في رواية، فلا بد من عامل ما لتوظيف هذا الحشد ليوصل ما يريد الكاتب أن يقوله . فإلى أين يسيرهؤلاء الناس أو هذا المجتمع بصخبه وأحلامه .. وهنا لا بد من الشروع في الفعل المنتظر:

" برق يشق السماء ويمزقها ، يليه رعد يزعزع الأرض وما فوقها . كل ما في الميدان يثبت مكانه وتنعدم الحركة. غمامة سوداء تنخفض وتلتهم المكان. عتمة وصمت مفاجئ.. تنجلى الغمامة بالتدريج عن الميدان بعد أن تحول كل ما كان فيه إلى رماد "

يبدو أننا أمام صاعقة هائلة أو قنبلة نووية ضربت الميدان الذي يرمز للمجتمع . فهل هذا ما حدث فعلاّ أم أنه مجرد كابوس رآه بطل الرواية . الذي يتبين لنا فيما بعد أنه كاتب صحفي.فقد انبعث من الصمت الرهيب صوت رقيق دافيء يخاطبه : " بابا بابا حبيبي.. لماذا تحدق بي هكذا يا أبي "

يرد الأب بصوت متهافت " كيف نجوت يا حبيبتي"؟ ليختلط الواقع بالحلم ويشرع الكاتب في الصحو من نومه تدريجياً بمساعدة طفلته وزوجته لاحقاً ..

فما الذي أراد جميل أن يقوله في هذا المشهد الملحمي ؟ إنه تهالك المجتمع وسعيه إلى الخراب ، وربما إلى الدمار والانقراض الذي رمز له في الحلم بتحول الميدان إلى رماد .. وماذا بعد ذلك، أي في النص الروائي، حين يقوم الكاتب الصحفي بالتجول في القرى والبلدات خلال إجازته مدفوعة الأجر. إن معظم ما يواجهه من وقائع إن لم يكن كلها ، ليس إلا ترجمة لهذا الواقع الكابوسي الذي لا يقود إلا إلى خراب المجتمعات ، التي تسير إلى الوراء بدلاً من السير نحو الأمام .

أول ما يواجهه الكاتب بعد الخروج من البيت ليذهب إلى عمله في الصحيفة للقاء رئيس التحرير، سائق شاب لا يرتاح له، يعمل لدى جارين عجوزين يملكان أفخم فيلا في الحي " يصرعلى استعراض عضلات صدره العاري ، رغم أن الطقس في مطلع هذا الخريف لا يسمح بذلك "

هذا الشاب الذي يفتتح به جميل رؤيته وعلاقته بالآخرين السائرين بالمجتمعات نحو الخراب ، هو ما سيختتم به رحلته، ومع من ؟ لن أقول لكم حتى لا أفسد عليكم متعة متابعة المقال.

يطلب إليه السائق أن يوصله بالسيارة إلى الصحيفة غير أن الكاتب يرفض مفضللاً السيرعلى قدميه، ليجتاز الميدان الذي تحول في الحلم إلى رماد ، ليرى أن كل شيء ما يزال في مكانه.

يطلق الكاتب على رئيس التحرير" فرس البحر" الذي يروق له أن ينادى بلقب دكتور، وهو لقب شرف ناله من الجامعة التي لا يغيب عن الصحيفة اعلان ترويجي مجاني لها. " بعد أن امتد نفوذ رأس المال إلى الجامعات المحلية " تستقبله السكرتيرة الجميلة في مجلس الادارة .

تخبره السكرتيرة أن رئيس التحرير موجود، فقد وصل قبله بدقائق ، لكنه يحتاج بعض الوقت قبل أن يستجمع وعيه . ومسألة الوعي هذه يعتبرها الكاتب " عملة نادرة غير متوفرة في الأسواق المالية " حسب رده على السكرتيرة. لكن الأخيرة تحاول أن تقود الحوار إلى حقل آخر.

أخيراً يطلبه رئيس التحرير. يجلس على أريكة غير التي أشار إليها الرئيس. وكأنه يريد أن يقول له أنه لا يجلس إلا في المكان الذي يريده هو . يستند رئيس التحرير في مقعده الوثيرويتخذ سيماء الآمر الناهي:



" بعض أصدقائي من ذوي النفوذ أبلغوني استياءهم من مقالاتك الأخيرة ، فرأيت من واجبي الحفاظ على مصلحة الصحيفة ، وأن أبلغك الأمر.

يرد الكاتب قائلا:

" جيد يا دكتور لقد تبلغت. لكنك قلت بعض أصدقائك من ذوي النفوذ "

ويطلب إليه أن يعرفهم . فيقول:

" أصحاب رؤوس المال الذين يزودون الصحيفة بالإعلانات. شركات استيراد كبرى . أصحاب مصانع ، مدراء بنوك"

يرد الكاتب معلناً أن " الإشتراكات في الصحيفة قد ارتفعت نسبتها خلال الأشهر الأخيرة ، وكذلك المبيعات والتوزيع "

لا يكترث رئيس التحريرللأمر ويطالب الكاتب بأن يدرك الأمر. غير أن الكاتب يذكره بجوائز ثلاث حققتها الصحيفة بفضل مقالاته "

يحتد رئيس التحريرويتطاير الرذاذ من شفتيه الغليظتين وهو يتكلم :

" لا أنكر مقالاتك وجوائزك ، لكن العالم يتغير من حولنا . حروب هنا وهناك وشعوب تباد والجثث تغطي المناطق الزراعية و.."

" هل تريدني أن أكتب بالحبر أم بالدم "

يكاد رئيس التحرير أن ينفجر غيظاً هو وسكرتيرته الواقفة إلى جانبه.

تمر لحظات هدوء ليطلب رئيس التحرير إلى الكاتب أن يتطرق إلى مواضيع جديدة ومختلفة في مقالاته القادمة . وبمعنى آخر أن يكتب مقالات ترضي أصحاب رؤوس الأموال وليس الناس الفقراء والكادحين. لكن الكاتب يرفض ويعلن أنّه سيقدم استقالاته. لم يكن أمام رئيس التحريرإلا أن يمنح الكاتب إجازة مفتوحة مدفوعة الأجر. ويعود إلى العمل متى يشاء.

واضح في كل هذا المشهد أين يسير المجتمع . فرأس المال هو السيد فإما أن تخضع له وتسير في ركبة ، وإما أن تذهب إلى الجحيم الذي يعيشه الفقراء والكادحون..

مر الكاتب بصالون حلاقة ليقص شعره، صاحبه متابع لمقالات الكاتب في الصحيفة ومعجب بها .. يتحاوران حول المقالات والغلاء وقلة الناس الذي يقصون شعورهم أو يحلقون عند الحلاق ، كإشارة إلى الوضع الاجتماعي للناس.

يقررالكاتب أن يحتفل مع زوجته وطفلته ذات العشر سنوات رغم عدم وجود مناسبة إلا الإجازة المفتوحة، فابتاع لهما هديتين : شال كشميري للزوجة وأرجوحة بمظلة للطفلة.

لاحظ الكاتب عدم وجود السائق الشاب المغرم بالكشف عن عضلات صدره وزنديه على ناصية الشارع ، فسأل زوجته عنه لتقول له إن السائق أخبرها أن الرجل المسن وهو وزير سابق لأكثر من مرة وقع على درج الفيلا وسقط على ظهره فتعرض لإصابة شديدة ، وقد ذهب لزيارته .

*****

2- نماذج مجتمعية!

في اليوم التالي يبدأ الكاتب رحلة إجازته دون زوجته وطفلته، مستقلاً قطاراً يقوده رجل مسن .وسأتوقف مع أهم المحطات في هذه الرحلة الطويلة .

في إحدى المحطات يصعد حداد يتابع مقالات الكاتب ويعلن له أنه لن يسمح لافكاره أن تقتحم عقله . يخبره الكاتب أن الأمرعادي فهو مع حرية الرأي . غير أن الحداد يتساءل :

" وهل من حرية الرأي أن تتهجم بمعظم مقالاتك على رأس المال والرأسماليين " ؟

" لكل منّا أفكاره وعليه أن يعبر عنها "

وحين يسأل الحداد الكاتب عمّا إذا كان مالكاً للصحيفة ، فيجيبه أنه كاتب يكتب بأجر، ليرد الحداد قائلا:

" إذن أنت عبد أجير لرأس المال الذي تهاجمه وتنتقده ، وتكتب ممجداً الكادحين فتستدر عواطفهم ليستمروا بقراءة صحيفة ليست لك " !!

ويتابع الحداد بلهجة هجومية :

" بصراحة ! وأعرف أن الصراحة غريبة على أمثالك ! لست سعيداً بمعرفتك ولن أقرأ مقالاتك بعد أن سقط قناعك"!!

وترك الحداد مقعده وانتقل ليجلس في مقعد آخر بعيداّ عن الكاتب، دون أن يتيح للكاتب الرد عليه .

هذا الحداد يفترض أنه يكسب قوته بعمله وعرق جبينه مثل الحلاق وأن مصلحته مع الكادحين والحرفيين وليس مع رأس المال ، لكن ليس لديه وعي ولا يعرف مصلحته كما الحلاق . يريد جميل أن يقول لنا إن مشاكل المجتمع لا تكمن في جانب واحد فقط بل في أكثر من جانب ، وخاصة الكادحين والحرفيين الذين لا يعون مصلحتهم ، ولا يعرفون مع من يقفون في المجتمع.

يترك الكاتب القطارليستقل قطاراّ آخر لزيارة صديق مسرحي له . يجد أن صديقه قد انتحر. يسأل عن سبب انتحاره . تجيبه السيدة التي كانت في بيته :

" كانت ليلة افتتاح المسرحية الجديدة بعد أن ابتاع رئيس البلدة المسرح وملحقاته .. دخل إلى خشبة المسرح وأخذ يمثل ...ثم توقف عن التمثيل للحظات وقال بصوته المجلجل:

عندما يصبح المسرح سلعة تباع وتشترى لا يعود لوجودي ما يبرره . أخرج مسدسه وصوبه إلى صدغه وأطلقه "

هذه لوحة ثانية أو ثالثة تترجم جزءاً يسيراً من مشهد الحلم البانورامي. فكل شيء أصبح قابلاَ للبيع في المجتمعات الرأسمالية.

بعد ليلة سكر وحزن في بار يستقل الكاتب حافلة ، وعند الوصول إلى البلدة يدعوه السائق إلى بيته بعد أن تعرف إليه. يتركه السائق في البيت مع ابنه ويخرج لشراء مشروب إلى أن تحضر زوجته التي لم تكن في البيت . يدعي الكاتب أنه لا يشرب الخمر ، ومع ذلك يصر السائق على الذهاب . يبقى الكاتب مع ابنه الذي راح يتحدث عن أبيه . يكتشف الكاتب أن الأب لم يعلّم ابنه . والأم تعمل طاهية في بيوت الاثرياء ، وهم لا يأكلون إلا ما يزيد عن حاجة الأثرياء من الطعام . وأن الأب لن يبتاع مشروباً كما قال ، بل سيقوم بجولة على الحانات ليتصيد ما عافه السكيرون .

يكتفي الكاتب بهذا القدرمن الابن، فينهي الضيافة وينصرف في جو ليلي ماطر.

يفاجأ بشبح بشري يركض على رصيف مقابل وسط أمطار وسيول على جانبي الشارع.. يخوض السيل ويقترب منه . يكتشف أنه أمام فتاة في مقتبل العمرترتجف من شدة البرد. يسألها أين تذهب . تجيبه أنها تبحث عن مكان يأويها حتى الصباح. يجيبها أنه يمكن أن يصحبها معه إلى فندق قريب. ويتدبر أمر نومها .

تستقبلهما امرأة " خلف أنف يكفي ليتنفس منه ثورفي حلبة مصارعة" ( ص79) وهذه من لقطات جميل المضحكة في الرواية. يتبين أن المرأة عانس ولديها غرفة شاغرة بسريرين في الفندق. يتابع جميل حواره ووصفه الكوميديين مع العانس إلى أن أعطته مفتاح الغرفة .

في الغرفة يتبين للكاتب عكس كل ما أبدته الفتاة له ، فلم تكن إلا عاهرة تبحث عن زبون !

كان الكاتب يصفها كأنها افروديت الإغريقية استحمت لتخرج متلفعة بغطاء السريرالأبيض. وتجلس لتناول الطعام الذي طلبه . فاجأته حين قالت :

" اسمع يا سيد ، سأسدد لك كامل القيمة المترتبة عليّ من مستحقات هذه الليلة " !!

يضحك الكاتب لعرضها لإدراكه أنها لا تحمل نقوداً.. يسأل أي مستحقات؟ تجيب " قضاء ليلة كاملة معك، هل توقعت أني مجّانية .. "

يجيب الكاتب أنه متزوج .. تحاول اقناعه دون جدوى وتتهمه بالعجز الجنسي والتخفي خلف ادعاء العفة ، وتزيد الطين بلّه ، حين يخبرها أن لديه ابنة جميلة ، فتسأله عمّا إذا كان متأكداّ أنها ابنته هو "

كاد الكاتب أن يفقد أعصابه .. وبعد طول حوار صاخب يخرج من محفظة نقوده بعض الأوراق النقدية ويقذفها بها ويطلب إليها أن تنام. وهو يفكر في كتابة مقالات عن الحالات السلبية التي واجهته في إجازته، ويرسلها إلى رئيس التحرير " فرس البحر" لنشرها قبل عودته.

والآن إلى كلمات موجزة عمّا واجه الكاتب في إجازته:

الزيارة اللاحقة كانت إلى صديق نحات مشهور في بلدة مجاورة. يستقبله النحات وبصحبته رسام ، ليكتشف أنه ألقى منحوتاته في النهر. يسأله عن السبب. يجري بينهما حوار مطول حول الفن والغاية منه والكذب والدجل والسرقة فيه ، يتطرق إلى مايكل انجلو ودافنشي وبيكاسو.. ليختتمه النحات بالقول:

" القاعدة الأكاديمية تؤكد أن كافة الفنون مبنية على قاعدة الجمال، والسؤال هنا ، أين الجمال في الغرانيكا؟ لا تكوين ولا ضوء وظل ولا لون ، إن الألوان والكتلة والفراغ هي لغة اللوحة التي تنقل موضوعها للمشاهد .."

ينصرف الكاتب وهو يتساءل" هل كانت كل الأحلام الجميلة التي حملتها لنا الفنون عبارة عن أحلام رمادية "؟!

*****

3- رجل بسبع نساء!

في الجولة القادمة على ضفة نهر يجد رجلاً يصطاد سمكاً بسنارة. يسأله ما إذا كان السمك يكفي لمعيشته . يخبره أن ثمة من يصطاد له على الضفة الأخرى من النهر ، حيث الفنادق الفخمة والسياحة. ويجري حوار مطول بينهما ، يعترف فيه الرجل أن لديه على الضفة الأخرى " سبع نساء فاتنات ( إحداهن زوجة شرعية والأخريات بمثابة زوجات أيضاً) يتجولن على الضفة المقابلة وحول الفنادق يتصيدن الأثرياء" وهؤلاء معظمهم من العاجزين جنسياً ويدفعون بسخاء.

ينصرف الكاتب وهو يفكرمعتبراً هذا النوع من المخلوقات أشد خطراً على المجتمع من أي جائحة فيروسية "

يلتجئ إلى أقرب فندق ويغتسل .. يتابع رحلته عبر قطار. تجلس إلى جانبه امرأة تنشر حولها رائحة عطر رخيص. يتجاهلها ويأخذ غفوة على شباك المقطورة. حين ينهض يجد المرأة قد انتقلت إلى مكان آخر . يأتي شاب ويجلس مكان المرأة .. يتبدلان الحديث. وحين يأتي مراقب التذاكر لا يجد الكاتب محفظته . يتهم الشاب بنشلها، فينكر، وبعد جدل ينهض الشاب ويتجول بين الركاب ليقف إلى جانب المرأة التي كانت تجلس إلى جانب الكاتب. يتهمها بأنها نشلت محفظة الكاتب ويطلب إليها أن تخرجها. وبعد جدل تخرج السيدة المحفظة ليعيدها إلى الكاتب.

هذا الشاب نموذج ايجابي للجيل المقبل الذي يعلق عليه جميل أمل قبل أن يذهب إلى الخراب والرماد.

يتابع الكاتب جولاته مقدماً لنا العديد من النماذج البشرية التي تشكل أي مجتمع :

يمر ببلدة ينتصب فيها تمثال لفتاة مبتورة الساق ترفع شارة النصر، كما يلتقي امرأة مبتورة الساق أيضاً استشهد ابناؤها وزوجها دفاعاً عن وطنهم ، فعملوا تمثالاً لها بدلاً من أن يعملوا تمثالاً للشهداء!

في مطعم يلتقي طالبة علم اجتماع تعد دراسة عن المجتمع . ينصحها بإعداد استمارات توزع على الناس لتعبئة شواغرها.

رجل ضخم الجثة يدير معرضاً مزيفاً لتحف وآثار تاريخية. يحاول أن يرشو الكاتب حتى لا يفضحه.

زميل دراسة له برنامج رياضي تلفزيوني متزوج من زميلة دراسة أيضاً، أبوها ثري ويكره مقالات الكاتب عن الكادحين .

مدير مكتب شؤون الطلبة حين كان الكاتب يدرس الصحافة في الجامعة ، متزوج من جميلة كانت تعمل في الجامعة ، مصابة بالزهايمر. لم تعد تتذكر إلا رحيل ابنها في حادث سير.

الصحيفة نشرت مقالاً مشوهاً له على يمين الصفحة الأولى . راح يصرخ شاتماً.. تلاسن مع شاب يعمل في الفندق يضطره إلى الاعتذار بعد أن هرع على صراخه. الشاب لا يقبل الاعتذارويترك العمل في الفندق، لكثرة ما يتعرض لإهانات من الزبائن.

" حافلة لا تكف عن القفز .. تقفز وتقفز وكأنها تشارك بسباق قفز الحواز" رجل مسن يجلس خلف السائق يتقيأ. رائحة مقززة والقيء يتكرر.أطفال في أحضان أمهاتهم يتمتعون بالقفز ..غضب وإحباط وأخطاء وأحزان تجمعت وتزاوجت. يغادر الحافلة.

يلجأ إلى فندق تديره سيدة دمثة . يسألها عن ضاحية الأدمغة . تخبره وتطلب إليه أن لا يخبر أحداً أنها زودته بمعلومات. ضاحية الأدمغة يقطنها متقاعدون علماء وعمداء ورؤساء جامعات، وكبار قادة الجيش ، ومدراء بنوك ،ورؤساء مراكز أبحاث .. أي نخبة المجتمع.

رجل يجلس على أرجوحة ثابتة في شرفة منزل كان مديراً لمؤسسة الأبحاث النووية , يحاوره الكاتب عمّا حققته المؤسسة على ضوء ما حققه بعض علماء العالم من انجازات عظيمة للإنسانية. النتيجة لا شيء. يحتد الحوار. يغادر الكاتب في جو ماطر والأرض موحلة ولزقة .. يتعرض لمحاولة اغتيال بإطلاق النار عليه وهو خارج . ينجو بصعوبة .

يلجأ إلى فندق . يسمع صوت طلقات نارية كثيفة. يظن أن معركة ما نشبت مع قوى معادية . يسأل وهو يحاول أن يفعل شيئا! " لقد فاز فريقنا لكرة القدم بكأس الدوري الممتاز .. تعال احتفل معنا " !!! راح يشتم كرات العالم كله !

تذاع أخبارعن انتحار سكان ضاحية الأدمغة بشكل جماعي بالسم ، وفي خبر لاحق قيل أنهم أطلقوا النار على بعضهم . هؤلاء يرمز بهم إلى السلطة ، وقد سبق وأن قتلوا ثلاثة من جماعة شباب ديمقراطيين.. وقصة انتحارهم قد لا تكون أكثر من حلم يراود من يسعون إلى التخلص منهم .. وإمكانية أن يكونوا قد انتحروا فعلاً ، تشير إلى أنهم أدركوا أنهم أوصلوا المجتمع إلى أدنى درجات الحضيض، فانتحروا .. رغم أنني أستبعد هذا الأمر.

لقد تعرضت لمعظم النماذج البشرية التي التقى بها الكاتب الصحفي ، وقد آن الأوان للدخول في الخاتمة لتكتمل دورة الحضيض الذي وصل إليه المجتمع الذي يتحدث عنه جميل عبر شخصية الكاتب الصحفي.

كثيراً ما كان الكاتب يشتاق إلى زوجته وطفلته خلال تجواله . فيقتل الحنين في نفسه ليكمل عمله في استشراف واقع المجتمع الذي يعيش فيه . وها هو الآن يعود ليفرح بلقاء طفلته وزوجته. يخطو داخل الحديقة. يرى طفلته تجلس في أرجوحتها تحت الثلج المتساقط . تلتقي نظراتهما . تحاول الوقوف مرحبة لكنها تعاود السقوط وهي تهتف بصوت واهن " بابا حبيبي" يسرع نحوها . يحاول أن ينهضها ليعانقها ، تقاوم محاولته وتشده إليها" تهتف " تعال أنت اشتقت إليك يا أبي" يجلس إلى جانبها ويحتضنها . تعانقه بكل ما تبقى لها من قوة. يتساءل لماذا هي هنا في هذا الوقت وتحت الثلج. تقول إنها جلست تنتظره . يحاول انهاضها لتدخل معه إلى المنزل ، لكنها تقاوم النهوض وترجوه أن يبقى معها . يضمها إلى صدره وينهض متجهاً إلى الداخل والطفلة ترجوه أن لا يدخل وتكرر رجاءَها . لم ينصع لرجائها . يدخل بها إلى الصالة حيث الدفء .. وهنا يتفاجأ الكاتب بما لم يتوقعه على الإطلاق :

"ضحكات زوجته الحبيبة تشع في أجواء المنزل معتقداً أنها عرفت بوصوله " لكن الأمرلم يكن كذلك " فقد أتت من غرفة النوم مقهقهة شبه عارية وقد أحاطت ردفيها بشال الكشميرالذي أهداه لها في بداية إجازته. تلتقي نظراتهما لتغيب القهقهات وتثبت الزوجة كتمثال حجري ، وليلتحق بها السائق المغرم بالتعري ، وإبراز عضلات صدره على ناصية الشارع ..

"كل شيء تفتت واضمحل فتحول إلى رماد " الطفلة تغلق عينيها براحتيها .. تجسد حلم الرماد وصار حقيقة "

بهذه الكلمات يختتم جميل روايته. فكابوس الرماد ( الخراب) يجثم على الجميع ، وليس في الحلم ، بل في الواقع ، حتى في بيت الكاتب نفسه. إن مجتمعاً كهذا آيلٌ إلى الإنهيار بالتأكيد ، ما لم تحدث معجزة تنهض به .

لقد طال المقال ولم أتطرق إلى أسلوب جميل الممتع في السرد ، فهو يكتب بنزعة كوميدية طريفة ، ويلجأ إلى المشهدية موظفاً أسلوب السيناريو، معتمداً على الحوار في الغالب.

ونحن نقترب بعد أسابيع من مرور عام على رحيل جميل عواد ، نقول له لقد أبدعت يا صديقي وقلت كلمتك الأخيرة في واقعنا المتهالك .. فألف سلام لروحك.

محمود شاهين .



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى