أمل الكردفاني- تجربة الوجود والفراغ البيني

تجربة تجلينا لهذا العالم، تجربة مذهلة. وهي تجربة طويلة وقصيرة في نفس الوقت. طويلة باحتساب توقعات التكشف والتبصر ومن ثم الفهم، وباحتساب لا جدواها، وقصيرة باحتساب التآكل الذي يعترينا جسداً ونفساً.
ولقد قلت منذ زمن بأننا لكي نفهم هايديجر علينا أن لا نقرأه فيلسوفاً بل شاعراً. ولذلك فهو ينْظِم الفلسفة المتأملة، ويعطر الكلمة ببخور القداسة. وهذا ما يدفعني دوماً للعودة إلى قراءته حين أشعر بانتمائي الكوني العابر. أي حين تتبدا لروحي مشاعر التكشف المتبادل ما بيني وبين الوجود. إذا يبدو لي وكأن الوجود يراني حين أراه، أو لا يراني حين لا أراه. وهكذا تحدث محايثة بيننا في ما يبدو فراغاً بينياً، اي ذلك الذي يفصل ويوصل بيننا. هنا حيث تكمن كل اللعبة الفلسفية، إذ تميل فلسفة إلى المحايثة والاتصال وتميل أخرى إلى المفارقة والإنفصال. ونميل كأشخاص شاعرين -لا فلاسفة- إلى الحزن والنشوة في آن واحد، فيغلب أحدهما وينهزم، لنظل متقلبين بين الشعور بكينونتنا كحالة خاصة وخالدة، وبين كوننا لا شيء البتة. ما يبدو فراغاً بينياً، يمتلئ ويفرغ، ويتبادلنا القنوط والأمل ككرة الطاولة. هنا.. داخل هذا الفراغ البيني ينولد الضمير، كره الغش، وكره الإيلام. وفي هذا الفراغ البيني يتدلى الآخر راقصاً فنراه ونتمثله ونكون نحن هو. إن ما تفعله الأديان هو انها تمحو ذلك الفراغ البيني وتحل محله، مما يجعل ضميرنا زائفاً، وتعدم ذلك التكشف بيننا والوجود، وتخضعه لجدلية الصدق والكذب فتعدم حالتنا الخاصة تلك ومن ثم الخلود. وما تفعله الرأسمالية هو أنها تجمد ذلك الفراغ البيني وتجعله مصمتاً فلا حركة فيه للضمير فتتملكنا الوحشة في وجود نقدره في ذاتنا فقط. فهي تحول بيننا والآخر. وأما النظم الإجتماعية التقليدية، فهي بدورها تعزلنا عن ذلك الفراغ البيني. إننا نحتاج إلى ذلك التقلب في تلك المنطقة التي تخلق التوازن فتجعلنا نرى الوجود ويرانا، المنطقة التي يرعى فيها التأمل أعشاب الحكمة باستمرار.
إننا عندما نولد نتجلى ويتجلى لنا الوجود تجلياً شديد النقص، وعبثاً نسعى -فيما بعد- لاكتشاف هذا الوجود وإكمال النقص ونحن نحسب أن الوجود لا يسعى لاكتشافنا، لأننا وحدنا نمتلك الوعي، وهذا يبدو صائباً وخاطئاً، وصوابه في صحة منطقه الفيزيائي، وخطؤه في عدم تصورنا بأن الوجود يرانا أكثر كلما رأيناه أكثر، وتتسع مساحة الفراغ البيني ونتبادل رؤية أكثر وضوحاً. وحين يذيب الكوجيتو الديكارتي الوجود في الأنا والتفكر، فهو يلغي تلك العظمة الكامنة في ذلك الفراغ البيني، يجعلنا عميانا ويجعل الوجود بدوره أعمى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى