جارالله الحميد - في الصباح.. قصة قصيرة

في الصباح أعانقهم . في الصباح المبكر جدا ألقاهم فاردا ذراعي كشجرة . يكونون على مقربة من البكاء . و أكون على مقربة من الله . وتأخذني سورة من الحزن الأبيض . فأبكي متذكرا أبي و بعض أصدقائي . ليس النهار واضحا ( كما تتخيلون) وليس من وطن له صفاء الضحى المشمس . و كان المستشفى مغتربا . لكراسيّه بياض العدم . و لممراته هدوء السجون . و في الصباح : كآبة الأمطار الشتائية و البكاء الصغير والكلمات الفادحة والمواطنون المكسورون الذين يفكرون بالسرطان و طابور المدرسة و موعد انتهاء ( نوبتجية) الشرطة والطبيب . وفي الصباح يكون الليل قد انتهى .
داس على الصدر كقطار مخبول. و مضى بعد أن أنهك القلب والدماغ والشرايين : بعد أن صرخ مرارا كذئب و أفزع الزهور الصغيرة البرتقالية التي نمت في حدائق البيوت بلا سبب !
و في الصباح تتثاءب الدكاكين الكبرى (!) حيث ترقد الأسماك المثلجة
والصحف. و يحدق البائعون في فراغ الغربة الكتوم . و يحدث أن يجيء رجل يفزعه الصباح باحثا عن عبوة ماء في زجاجة لها طعم المراحيض النبيلة. يخاتل امرأته و أمه و البائعين ذوي الملامح الرطبة و الخفراء الذين يقفون أمام المدخل الزجاجي . و يرعش عند باب الخروج إذ يمد يده الأخرى بريالاته و هو يضم في صدره حزن العصافير المشردة الهزيلة.
ويختار زاوية للبكاء وكأساً . و يرسم قطارات مسرعة و قوافل ومسافرين. و يخلع نعليه إذ يصير على مشارف الخوف مخفوراً بالباعة و العربات الفارهة السوداء. و في الصباح يكون المستشفى ممعناً في البياض الاستعماري . و الممرضات غارقات في الدسائس و الأكاذيب! تكون المقاعد خالية. و الرجال صامتين يلبسون النظارات و يتحدثون مع أنفسهم و قد بلغوا أرذل الحزن! ويحدث أن ألقاهم متطيرا كعصفور مضطهد أو كحمامة مغسولة الرأس بالدم و الخوف المتأخر. تكون المقاعد عند اقتراب الظهيرة . ناصعة كالدفاتر المصادرة. و تكون الشرطة قد أغلقت وراءها باب الأخصائي . و تكون الكلمات الصغيرة على موعد من الكتمان .
وتركض الطائرات في فضاء الله تسابق النفط و جبال البازلت و الجرانيت و الغيوم الشمالية المخاتلة و تغلق الحدود بمتاريس الرصاص . و يكتهل الجنود لشدّة المهمّة! و تبكي النساء الصغيرات اللاتي يحملن صغارهن
وترفرف على رؤوسهن عصافير ضالة و شريرة تلطم بأجنحتها و تصدر نعيقا جنائزيا! و يكون المستشفى أبيض منخفض السقف تزينه اللوحات الصغيرة الموجزة . و يتراطن طبيبان . و يورق رجل أسود بلحية غير شائبة فيدّعي بأنه المدير الجديد و أنّه سيغيّر طاقم المستشفى! ثم يختفي في إحدى دورات المياه طويلا . و تتقافز طفلتان . و يمرح رجل بلا سبب .
وتغادر الخطوات المثقلة بالنحاس القوي مخلفة إيقاعا صغيرا كذباب وسوادا يدلف إلى القلب الموجوع! ثم يمرّ رجل أوروبّي موزعا تعليماته المبهمة و ضحكاته الراضية و يضبطك ممرض غامض و قد قلبت شفتيك فيضحك! و في الصباح يكون أن تقترب الظهيرة . و تفقد ( مضادات الكآبة ) مفعولها الصباحي . و تكون الشبابيك الحجرية موصدة على نساء مفعمات بالأدوية و الاستغراب! و تكون البيوت مشمولة بشمس خجول و حمام جبان . و أشجار لا تطول و أطفال يلاحقون قططا و يختفون تاركين الشوارع للعربات الملونة السريعة . و للباعة الذين يقعدون في الشمس ثم يخرجون يراقبون الأبواب و النوافذ و يدخلون إلى دكاكينهم قليلا ثم يخرجون يحركون ألسنتهم . و يكون أرز كثير على مواقد الغاز و فوق طاولات المطاعم الرخيصة و في أكياس من النيلون في غرف التوقيف وتحت ظهور الشاحنات ورجال منزوون في غرفهم يشربون : صامتين ومترصدين و مشغولين بالتقاط و تفسير الأحاديث العابرة وراء النوافذ والأبواب. و نساء يضعن علب ( الأسبرين ) في جيوب قمصان البيت وينظرن من خلال الدخان و الروائح إلى مكان بعيد و يبكين و يمسحن دموعهن بأكمامهن و يلاحقن أطفالهن بغيظ واضح . و في الصباح يركضون بعرباتهم اليدوية الخضراء . لا يتكلمون خلف كل من يترجل إلى ( شبرة الخضار ) لاعباً بميدالية مفاتيحه. مبتسما راضيا عن أناقته . تنكسر عيونهم الصغيرة ببياضها الجميل حين ينهرهم لأنه لا يريد ( شيالا ) .. سأحمل أغراضي بيدي .. كفـّوا عن الشحاذة! يقول! يقفون على حافة الشتيمة. ثم يمضون وراء أنيق آخر. و يجلس بائع الدجاج على عتبة دكانه و قد نهره رجل عابر ( لماذا تذبحون الدجاج المريض؟ ) و لا يستطيع أن يبكي . وفي يده سكين ضخمة! و عيناه غائمتان من الرمد الطويل والحزن. والزجاج يلمع و المقاولون يتبضعون و يوغلون في المساومة و المزاح الكاذب . و يلمع الزجاج كلما أمعن الصباح. و خلفه يقف رجال غرباء متوجسون بآلات حاسبة لا تخطئ . و عيون متلصصة من خلف نظارات سوداء. و أطباء يشترون الصحف و لاعبو كرة القدم يبتسمون على أغلفة زرقاء و رائحة قرنفلية لسيدة عابرة و غيم يوشك أن يهطل . و موظفون هاربون من ( قعدة ) الكراسي بدون عمل و تليفونات عموميّة. و تاكسيّات تتسكّّع . و عمال مصلحة المياه يرتدون بذلاتهم المميزة بفخر. وجوههم ساكنة. يحملون المفاتيح الضخمة يحركون بها أدوات كبيرة. ثم يمشون هادئين. و في الصّباح....
أعلى