قمر الزمان علوش - "قصتي مع الحرب"..

(1)
عشت طفولتي و شبابي المبكر موزعا بين عالمين متجاورين ، قرية علوية و مدينة ذات أغلبية سنية . ولادتي كانت في مدينة جبلة الساحلية و فيها كانت نشأتي الأولى . في ذلك الزمن أي قبل ستين عاما تقريبا كانت تلك المدينة الصغيرة مكانا مناسبا للحالمين . جزيرة بالغة الرقة حافلة بالسلام لا تحب أن تغادرها لأنها محفوفة بالمرعبات ، و إن غادرتها يوما فأنك لن تستطيع العودة إليها أبدا .
أحببت بلادي سورية حين سمحت لي بحبها ، و أحببت هذه المدينة كل الوقت . فأنا مدين لها بكل شيء . أحببت بحرها و قهوتها الساخنة . أحببت شوارعها الضيقة الزاخرة بالصور و المعاني و أغاني الإذاعات . أحببت ساحتها العامة التي كانت تحررني من الجاذبية الأرضية . أحببت أناسها الذين كانوا أبطال رواياتي كلها ، و حكاياتهم و أحلامهم و خيباتهم و حتى هذياناتهم كانت حبرا لكلماتي .
نصفي الثاني كان ينتمي إلى الريف ، إلى قرية من تلك القرى المبعثرة بفوضى بين البحر و السماء و الجبال . هناك كانت اتصالاتي الأولى بالضوء و الألوان و الريح و الغيوم المتهافتة و النجوم التي لها ساقان ، و الشهب التي تلمع فجأة ثم لا تلبث أن تنطفئ و تتلاشى بسرعة و ألم . إنها لحظة غامضة تلك اللحظة التي تحتفظ فيها كل ملامح الحياة بمراتبها بكرا . و شيء من قبيل الخوف الخرافي كان يعتريني كلما دخلت هذه اللحظة شاقا فيها الطريق لكي أفتح لنفسي ممرا .
عالمان متجاوران متداخلان متفقان ظاهريا لكنهما مختلفان في الحقيقة ، اختلافات تمتد جذورها إلى أزمنة بعيدة حولت التاريخ إلى حفرة سقط فيها الناس جميعا ، قرون طويلة مليئة بالتوهمات و الأفكار الضحلة و الضغائن القبلية باعدت بينهما جعلت كلا منهما يشك بعقيدة الآخر و يجده آتيا من عالم مختلف ، ستون عاما أمضيتها و هذان العالمان يعيشان في داخلي حقيقة واحدة و عالما واحدا لا تنفصم عراه . أحببتهما بنفس المقدار لأن أناسهما يحملون الله في داخلهم و يعرفون كيف يستخدمون قلوبهم كثيرا . رافقتهما كتابا واحدا مؤلفا من فصلين إذا فقد جزءا منه فإن الجزء الثاني لا يستطيع أن يعبر عن نفسه و لا يعني شيئا .
الذي حدث هو أن الزمن تغير و الناس تغيروا . كل تجربة في الحياة تشكلنا على ما نحن عليه الآن . فهل ما زلت راسخا في آرائي القديمة تلك ؟

****

(2)
فجأة الحرب..و فجأة أيضا اذا بعالم بكامله يتصدع و يتداعى بتناسق تام . تعاظمت الكراهية و غاب العقل تماما و اللجام الذي كان يتحكم بالغريزة العمياء و يوازنها بصرامة أفلت من الأيدي . و ما كان راقدا و خافيا في النفوس ينفجر فجأة عائدا بذلك العالم المتفسخ إلى جذور التوحش الأولى .
إنها البلاد الأكثر حزنا في العالم .
زرت مدينتي الجافية جبلة مرات عديدة خلال الحرب . شوارع يخنقها الخوف و في الداخل ظلام . و أما البحر فلا لون له . لم تعد هي هي . بدت لي منكوبة منكودة مبتذلة مطلية بالتعاسة كممثل أزاح أصباغه . لم يعد فيها ما هو جدير بمشاعر الحنين . و تلك الأمكنة التي شهدت حبا عظيما و تلألأت موارة بالألق الذي يضفيه الهوى على الأشياء البسيطة ، عادت إلى التفاهة و الوحشة كتزيينات خشبة المسرح بعد أن يكون سحر المسرحية و سحر الكواليس قد انتهى . صندوق الدنيا الذي اختزن ذاكرتي و أحلامي و أوهامي تحطم هو الآخر و استبيحت مدخراته . هنا كانت أقسى مراحل الحرب بالنسبة لي . لم تلق الستارة السوداء على وجودي وحسب . بل أخذت كل شيء جميل بعيدا عني و أشعرتني بأن حياتي كلها بكل عذوبتها و تفانيها كانت جريا وراء أشباح و أشياء وهمية . أقول ذلك بنوع من تأثر أبله . فمنذ بداية الحرب راح يهيمن علي شيئا فشيئا شعور مطلق بأني كنت على خطأ عندما كنت على ثقة غبية بالكائنات البشرية ، و بأن من أراهم الآن بدؤو جميعا يصبحون غرباء .
لقد تحولت إلى شخصية مأساوية رغما عني . و لو كنت أعرف أن خاتمة حياتي ستكون هكذا لما اخترت أن أكون سوريا .

****

دعوني أبدأ بالجانب الأكثر ظلاماً في هذه الحرب:
منذ الأسبوع الأول للثورة-الحرب خرج ألوف المتظاهرين يهتفون بالموت للعلويين.
بعد أشهر قليلة يطل الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين العالمي، ليطلق فتوى بالإطاحة بالحكم العلوي في سورية ولو أدى ذلك إلى إبادة جميع العلويين.
بعد ذلك تتكرر فتاوى التكفير والإبادة الجماعية والقتل ذبحاً وحرقاً، وتملأ الفضائيات ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وتظل مستمرة حتى الآن أمام سمع العالم المتحضر وبصره.
لم يكن ذلك كله هيجاناً طائفياً وكلاماً اعلامياً في الهواء، بل رافقته ميدانياً مجازر جماعية متلاحقة ومذابح ممنهجة في قرى وأحياء علوية عديدة، عرفنا جزءاً منها وكان مروعاً وتم التعتيم على الجزء الباقي الأكثر ترويعاً.
لا يعنيني هنا الوقوف عند شيوخ التكفير هؤلاء أو من صمت على فتاويهم من شيوخ آخرين. فهؤلاءصورة عن الذات الباحثة عن الإنتقام والمتعطشة إلى التأكيد الأعمى لذات عمياء تعتقد أنها بصيرة، يفتون بالقتل لا لإعتقادهم بأن الله ينبغي أن يكون سنيّاً وحسب، إنما كذلك لإرضاء غريزة القتل المتأصلة في نفوسهم.
كذلك لا يعنيني أولئك الشبان الذين ساروا في ركبهم وخلف مقصلتهم وكأنهم نيام إلى مناطق يساقون على نحو مبهم إليها، فهؤلاء رؤوسهم مظلمة أكثر بكثير من أن يكونوا مذنبين.
يعنيني إلى حد ما أولئك المثقفون اليساريون والعلمانيون والليبراليون الذين ساهموا في تلك التعبئة الطائفية المستهجنة وما نقصهم سوى الرقص احتفالاً بكل عملية قتل جماعي تحدث، وكانوا مثالاً حياً لأصحاب النفوس الميتة الذين يبيعون أرواحهم وأوطانهم بأرخص الأثمان.

يتبع..

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى