كاهنة عباس - عما نخفيه من هشاشة

الماء الهواء التراب والنار ، تلك هي العناصر الأربعة التي أنشأت حياة ،حسب رأي الفلاسفة القدامى .
أما الماء فمعرض للجفاف، أما الهواء وإن كان غير منقطع، لكنه لا يعرف الثبات، أما التراب فمضمحل متحول إلى أكثر من مادة، أما النار فهي منطفئة، ذلك أن الحياة في الأصل ظاهرة هشة، ما انفكت تزول لتعود إلى الظهور مرة أخرى.
ومادام الأمر كذلك ، فكل ما ينبع عنها وينشأ منها هو بدوره هش لا محالة ، فما هو هش لا يمكن أن يبعث القوة والصلابة .
فكان لا بد لأجسادنا وأنفسنا أن تتمتع بالحماية الكاملة والتامة طيلة السنوات الأولى من نشأتنا حتى ننمو ونكبر فلا تدمرنا هشاشتنا الأصلية، وكان لا بد من إحاطتنا بكل ما من شأنه أن يصد عنا البرد والحر والمرض والفقر والقسوة والضياع والتشرد حتى نصمد .
نحن إذا مدركون بهشاشتنا تلك ، لذلك تسكننا المشاعر المرتبطة بها والنابعة منها مثل : الأمل ، الانتظار ، الغضب ، الحزن ، وحالات أخرى مثل الحلم والوهم والتوقع والتأمل والتفكير والشك واليقين وغيرها من الحالات .
ومن علامات هشاشتنا أيضا ،تعلقنا بالأشياء والرغبة في امتلاكها حتى نواري ضعفنا، فنحتمي بجدران بيوتنا ونمارس سلطتنا على كل ما يكون بحوزتنا ورهن إرادتنا .
نحن لا نحتمل الكلمة التي تقال لنا في غير موضعها لأنها أحيانا تربكنا، ولا أن نكون في موضع الطالب أو المظلوم أو المهان.
فالمرض يلاحقنا والعمر قصير والموت محتم والفراغ يملؤنا والفشل والوحدة قد تحاصرنا .
فالهشاشة ، قدر لا مفر منه لكل إنسان ، مهما ادعى وتكبر ، مادامت تسكنه الرغبة في البكاء أحيانا ، وفي التذمر أحيانا أخرى ومادام يشعر ويحب ويكره ويغضب ويستاء ويتعلق وينتظر .
كلما بحثنا في حقيقة ما نعتقد وإلا ظهرت لنا أساطير ورقية، ما إن نسعى لاكتشافها والاقتراب منها وإلا وانهارت موزعة بين جهات العصور الغابرة، لا علاقة لها بما نحن عليه من هشاشة.
فجل ما نعرفه ليست في الحقيقة سوى حكايات و سرديات، يناقض بعضها البعض ، أفكار ما انفكت تتغير ، تزول ثم تظهر لتقنعنا بأننا أسياد هذا العالم المتجدد وأننا من يصنع ذاكرته وتاريخه .
وكلما توغلنا في البحث وإلا واكتشفنا أن الجمال هشاشة والحب هشاشة والإحساس هشاشة والرغبة هشاشة والتفكير هشاشة والتعلق هشاشة والوحدة هشاشة والإنجاب هشاشة والسلطة هشاشة والعنف هشاشة والصراع هشاشة والثراء هشاشة باعتبارها حالات ووضعيات، يخفي الجانب الأكبر منها ضعفنا وعجزنا .
كل ما سننجزه سيزول دون رجعة ، تلك حقيقة أخرى نتجنب مواجهتها، كل ما نملكه منهار سيتآكل ثم يفنى ، كل ما نقوله سينسى حتى وإن تناقلت الأجيال اللاحقة ،جزءا منه بواسطة الذاكرة .
لن يبقى من أصنام القوة التي ندعيها سوى آثار الإمبراطوريات المنقرضة روما العظيمة بقصورها ومسارحها الضخمة وحماماتها ، الفراعنة وحلمهم بالخلود ، وأهراماتهم ومقابرهم وقصورهم ببذخها المنقطع النظير ومجوهراتهم وملابسهم ومومياءهم كشاهد على أحلامهم الضائعة .
أما قصص الحروب بملاحمها الكاذبة والمستمرة لأجل غير مسمى ، فهي عنوان على أن القتل والعنف هما السبيلان لفرض سلطاننا على من هو أضعف منا ، وهو دليل قاطع على قيام القوة على فكرة الفناء، باعتبار أن الحياة ليست إلا مظهرا من مظاهر الهشاشة .
يبقى أن ما نشهده من صراع بين القوي والضعيف من المخلوقات في المحيط الطبيعي وخارج المجتمعات الإنسانية ، هدفه ليس إعلاء صوت الموت والفناء باعتبار أن الدمار هو سبيل من سبل تغيير الواقع ، بل توازن لا يخلو بدوره من الهشاشة بين إمكانية استمرارية بعضها للتسليم باندثار تلك العاجزة على المقاومة أو الانتصار من أجل البقاء .
علينا إذا، أن نتساءل بكل جدية وعمق حول تمجيدنا لمعنى القوة ونتائجه الوخيمة بإخفاء كل ما نشعر به ، كل ما نبتغيه ، كل ما يشغلنا ، كل ما نحبه ونتعلق به ، كل ما ننتظره ، كل ما يأسرنا ، كل ما نسعى إليه ونحتاج إليه ، كل ما نفكر فيه ، كل ما نستسلم إليه ، كل ما يجعلنا نهتز له فيفرحنا ، كل ما يحزننا ،كل ما يشعرنا بـهشاشتنا أي بالحياة التي تتسرب داخلنا ، نحن مطالبون بذلك حتى نحميها من مخاطر الدمار باعتباره القوة الوحيدة الممكنة.
وعلينا أن ندرك أن الاعتراف بهشاشتنا هو التصالح مع إنسانيتنا أي مع ما يربطنا ويفتح لنا أفق معرفة من نكون : هبة ريح مقدسة .
ما ترويه الفنون على اختلافها تأكيد لهشاشتنا ، ما كتبه علماء النفس حول التنكر لطبيعتنا الإنسانية ولجوهرها الأصلي الهش، هو تعرضها للضياع وإمكانية ابتلاؤها بالجنون .

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى