غانم عمران المعموري - الرمز المثيولوجي وأثره في الشعر المُعاصر شُعراء بابل أُنْموذَجّاً.. قصيدة الشاعر جبار الكواز "محاولة لأكمال صورتي الفوتغرافية".

دخلت الإسطورة الشعر العربي الحديث من أوسع أبوابه و على أيدي شعراء بارزين تحدوا عامل الرهبة في استغلالها و توظيفها فأصبحوا مثالا لمن جاء من بعدهم و يعد استغلال الإسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقف، لأن في ذلك استعادة لأحداث مرت و استخدامها في التعبير عن أوضاع الإنسان المعاصر،" و هذه الطريقة الاسطورية أو ما نسميه المنهج الأسطوري هي التي جعلت للشعر طابعًا مميزًا في باب المعارف الإنسانية ، و ميزته عن الفلسفة و عن
العلوم التجريبية وكثيراً ما تختلط نصوص القصائد وتُعجن بنكهة وأريج الأساطير والملاحم القديمة لتبث للمتلقي عطراً يتنفس منه روح الأصالة ويفتح له أبواب التأويل للإرث الحضاري العريق الذي يضعه الشاعر على مائدة متنوعة من الرموز وهناك العديد من القصائد الزاخرة بهذا النوع الرمزي المثيولوجي وفيما يأتي شواهد على قصائد الرمز في الشعر وتتجلى في قصائد شعراء بابل أُنْموذَجّاً :
(محاولة لأكمال صورتي الفوتغرافية) للشاعر جبار الكواز
ارتكز الشاعر في عتبة قصيدته على عنْونة نكرة غير كاشفة ومتناسقة وتُعتبر الواجهة المُشّعة للمتلقي وفق لغة سليمة وبكل موضوعية وانسجام مع الذوق الرفيع ..
وعند الولوج إلى متن القصيدة نجد أن الشاعر الكواز استخدم الرمز وفق معايير فنية ودلالية مع الإحتفاظ بكل التقنيات الحُرة الفنية من التكثيف وعدم الإطالة والإسهاب والتركيز والإختصار بمرادفات ملائمة وجمل متناسقة ومترابطة تجذب القارئ ولا تُسبب له أي نفور بحيث يحصل تجاذب وتعارف بين مفردات القصيدة والقارىء المثقف ..
بقليل من ازيز الطائرات
وبمسحوق ظلام صارخ في دفتر الاتهام
سامسح ما تبقى من ملامحي-
( انفي العراقي الذي انتزعته من انكيدو حين زرت قبره/
عيناي اللتان تغشاهما وهم المعلقات بذهب الفقراء/
فمي الذي الجمه الخوف في سبع سنبلات وسبع بقرات/
رآسي المثقوب -لأعترف الان -البايولوجي الذي،عاينه في المختبر اكد انني بعيد عن الارمن بميلين من الحب/ رقبتي التي اتحسسها كلما رأيت امي تنشر اغطيتنا على حبل الغسيل/قدماي اللتان ما تحركتا منذ قرون نكاية باسد بابل/
يداي باصابعهما التي احترفت اللهو بلعبة الشعر فكادها الشريف الرضي بمراثيه العلوية/ اذناي استعارهما هولاكو ليستمع الى زئير دجلة وهو يرفل بالدم الازرق/ الكرسي الذي جالسني سنوات بلا شكوى/كتبي التي صارت وليمة لاصدقائي باعة الكتب في سوق المتنبي/حديقة منزلي التي تحاكم البرحية على شتاء اخرس /الدفلى التي تطاردها افراس النبي وهي تسبح للفجر/ هنّ او لأعلن( هي)اللوامة بخطى الاولاد والزمن/بقايا كؤوس لن يشرب التراب فيها تيزاب هموم العشب)
حين نظرت الى ما حولي. ...........
ثمة نثار من اصحاب خونة وشعراء مرد وكثيرين ممن علمتهم الرماية حتى ثقبوا عينيّ بحسدهم وهجوني بقوس غيرتهم
حاولت ان ارمم صورتي الاخيرة في مرآتي المتشظاة بالهلع والموت/لم اجد الّاك واقفة ومتحزمة تلقطين ما تساقط،من ملامحي لتحيي فيها المصور الشمسي الميت بعد الف لقطة ولقطة
فمن انت ايتها الواقفة جنب بقاياي? ! لتنيري اصابع الوقت في صورتي الاخيرة دونما خيلاء او خوف..
من خلال هذه القصيدة يظهر جلياً البُعد المثيولوجي الرمزيٍ وارتباطه بتعابير لفظية لها مدلولاتها الفلسفية وبأسلوب أدبي شعري معاصر ففي "( انفي العراقي الذي انتزعته من انكيدو حين زرت قبره) هنا أسطورة البطل كلكامش وعلاقته بصديقه انكيدو، حاضره بشكل جلي كرمز مثيولوجي له امتداده التأريخي وبعده البابلي( وانكيدو صنيعة "إنكي'")، هو شخصية مركزية في ملحمة گلگامش الشهيرة. حسب الملحمة، خُلق إنكيدو من طين ولعاب أورورو، إلهة الخلق، ليتحرر گلگامش من غطرسته. في القصة يظهر إنكيدو كرجل براري، تربيه الحيوانات ويتجاهله المجتمع الإنساني حتى يلتقي شامات. بعدها تبدأ سلسلة من الأحداث تقرب من العالم والأساليب الإنسانية لتقربه من الحضارة، وتبلغ ذروتها عند مصارعته گلگامش، ملك اوروك. يجسد إنكيدو الحياة البرية أو الحياة الفطرية، وعلى الرغم من أنه يتساوى مع گلگامش في القوة والتأثير، إلا أنه يقوم ببعض التصرفات التي تتعارض مع تصرفات الملك المثقف والمحارب المتحضر. بعدها يصبح إنكيدو رفيق الملك الدائم وصديقه المقرب، والمرافق له في مغامراته حتى يسقط صريعاً. الخسارة العميقة والتراجيدية لإنكيدو تلهم گلگامش بالسعي للفرار من الموت وطلب الخلود الأبدي.
واسترسل الشاعر..
سبع سنبلات وسبع بقرات، إشارة إلى قصة يوسف التوراتي الذي فسر الرؤيا لفرعون مصر وما لها من آثار عميقة في التأويل الذي ما برح يلقي بظلاله على سنين القحط والجفاف والفاقة والمصيبة إلا أن الشاعر أراد بها سنين المُهاترات الدمويّة والقتل على الهوية بتعبيره" فمي الذي الجمه الخوف" وامتد في بلاغته الرائعه (.. انني بعيد عن الارمن بميلين من الحب..
يُذكرنا الشاعر بما حَلَ للشعب الأرميني من مجزرة جماعية على يد الأتراك وخلف لهم الدمار والويلات، تشير الإبادة الجماعية للأرمن إلى الإبادة الجسدية للشعب المسيحي من أصل أرمني الذين عاشوا خلال فترة الإمبراطورية العثمانية من ربيع 1915 إلى خريف 1916. كان هناك ما يقرب من 1.5 مليون أرمني يعيشون في الإمبراطورية. وتوفي ما لا يقل عن 664.000 وربما ما يصل إلى 1.2 مليون خلال الإبادة الجماعية. لقد أطلق الأرمن على تلك الأحداث Medz Yeghern (الجريمة الكبرى) أو Aghet (الكارثة)،
"نكاية بأسد بابل" ..أي تشفّياً فيه وإغْضاباً له .وأسد بابل :ينتصب تمثال أسد بابل في موقع آثار مدينة بابل التاريخيّة (100 كلم جنوب بغداد) في العراق.
أسد بابل : وهو تمثال لأسد عثر عليه في مدينة بابل الأثرية في العراق في سنة 1776 من قبل بعثة حفريات أثرية ألمانية، وهو مصنوع من حجر البازلت الأسود الصلب، حيث يظهر هذا التمثال على شكل أسد يقف على شخص بشري، طوله يبلغ حوالي متران وهو موضوع على منصة طولها حوالي متر عثر عليها بالقرب من مبنى الجنائن المعلقة، رجح بناء هذا التمثال من قبل الملك البابلي الكلداني نبوخذ نصر الثاني (605-562 ق م)، إلا أن شكله ومادة صنعه رجحت العلماء من أنه قد يعود إلى فترة الحيثيون، وعلماء آخرون قالوا أنها من المحتمل أن تكون من الغنائم ألتي غنمها البابليون أثناء فترة حكم نبوخذ نصر الثاني أثناء إغارته على بلاد حاتي، ويرى الباحثون أن تمثال أسد بابل هو تجسيد لقوة بابل،
تنقل الشاعر وفق إيقاع شعري منتظم، الشريف الرضي
الشريف الرضي الذي هو مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة، وإمام من أئمة العلم والحديث والأدب، وبطل من أبطال الدين والعلم والمذهب، هو أول في كل ما ورثه سلفه الطاهر من علم متدفق، ونفسيات زاكية، وأنظار ثاقبة.
وإباء وشمم، وأدب بارع، وحسب نقي، ونسب نبوي، وشرف علوي، ومجد فاطمي، وسؤدد كاظمي، إلى فضائل قد تدفق سيلها الآتي، ومنائر ..فإن في البيان قصورا عن بلوغ مداه، درس هو وأخوه الشريف المرتضى على يد الشيخ المفيد أحد فقهاء المعروفين القدامى ..
وهولاكوا .. أراد أن يبين لنا الشاعر بأسلوب فني متجدد بأن الكتب لها روح ايضاً لما فيها من علوم بذل مؤلفيها دَمَهم من أجل إيجاد تلك العلوم إشارة منه بعبارة "وهو يرفل بالدم " أما سوق المتنبي، افراس النبي، الكرسي ، كتب وغيرها من الإستعارات والتي تُشّكل رموز يستنطقها الشاعر ويجعل لها أحاسيس وقوة خفية تُحرك المشاعر ولما لها أبعاد زمكانية وكأنه مصور بارع يلتقط المشاهد بكل حَرَفية وإبداع حتى وصل إلى الخاتمة المباغتة المُدهشة والّتي هي ذروة وعصارة أفكار واحاسيس الشاعر ليفرغها دفعةً واحدةً (فمن أنت أيتها الواقفة جنب بقاياي? ! لتنيري أصابع الوقت في صورتي الاخيرة دونما خيلاء أو خوف).. وكأنه حسب تأويلي يخاطب الدُنيا الفانية أن لا تغريه في نهاية عُمره الذي قضاه في الإستقامة واستقلالية الذات التي جهاد لأجلها كل المُغريات وصارع من أجلها كل مناصب السفهاء والمتملقين والمنافقين والساسة والمتطفلين كما خاطبها قبله سيد البُلغاء الإمام علي بن ابي طالب (ع).

القاص الباحث
غانم عمران المعموري
العراق / بابل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى