د. شاكر عبد الحميد - الصورة في قصص سيد الوكيل..

مجموعة قصص “مثل واحد آخر” نموذجا*

المفهوم المحوري المناسب لقراءة هذه المجموعة للكاتب سيد الوكيل (من مصر أيضًا) هو مفهوم الصورة والتصور والتصوير، فهناك حضور كثيف للصور والمرايا واللوحات والمشاهد والعيون المحدقة، وهنا تصور العالم وكأنه مشهد يخلقه الكاتب ويحرك الشخوص داخله وخارجه.

في “الثعالب وأنا” حديث عن:

الصور التي تفنى، الصورة التي لا تفنى هي الصور الموجودة في الذاكرة.
مشهد يجمع بين شخصيات عدة تم تجميعها في مشهد واحد تجميعيي كبير، ثم تجري تفرقتها بعد ذلك عبر القصة في مشاهد فرعية، وهذه آلية من آليات المونتاج والسرد السينمائي المستخدم بكثرة في هذه المجموعة.

هناك في هذه القصة حديث عن الصور صور الذاكرة، وكيف تبقى طيلة هذه السنين، وصورالشخصيات السينمائية (صوفيا لورين). والعلاقات الجنسية بين الشخصيات والصور. صور من الطفولة ومن المراهقة بتهويماتها الجنسية وأحلامها وتخـيـلاتها حول الثعالب والطيور. الثعالب التي تخدع الطيور حين تتناوم والطيور التي تهرب محلقة بأجنحتها.

في “الموت والجمال”، حديث عن:

الطفل الذي طلب الى أمه ألا تنسى مجلاته التي يحبها بما فيها من صور جذابة، وكذلك البوم صوره الذي يضعه تحت مرتبته. وهناك كذلك صورة الطفل الذي يرسم الوجوه، ويحدق فيها فيمنحها الله لجمالها أرواحا ملونة.

في الثعالب، كذلك إشارات إلى القلب الذي لا يخفق إلا لصور تفنى، وحديث عن صور لفتيات عاريات يحتفظ بها الولد.

في “أشعل الفرن فجرًا” إشارات إلى الصور الموجودة في جيوب الأطفال، وهي كذلك صور لرجال ونساء عاريات في أوضاع مخجلة.

في “مساحة صغيرة من الظل” إشارات إلى الفنان الذي يحفر الوجوه على جدران الطين، ويتحدث إليها، وإلى إمكان تحول الصور المرسومة الثابتة إلى صور متحركة. الشخصيات في معظمها تعيش على عالم الصور الخاصة بالذاكرة،والصورالموجودة في الذاكرة والصور والألبومات والصورالفوتوغرافية، والصور المرسومةعلى الجدران… إلخ. التي تحضر من خلال صور الذاكرة والصور قد تكون صورًاحقيقية، وقد تكون صورًا متخيلة، صورًا مدركة أو متذكرة.

والقصص كلها هي أجزاء من قصة كبيرة، أو رواية كبيرة أو لوحة كبيرة تكتمل عناصرها من خلال آليات التكرار والتماثل والسرد المتكرر وعودة الشخصيات معا داخل القصة الواحدة، والتذكر المصحوب بالأسى والشجن، واستدعاء الماضي فيما يشبه شريط الفيلم السينمائي، ثم تحريكه بسرعة أحيانا وببطه أحيانا أخرى.

وتثبيته أيضا أحيانا ثالثة، وذلك من خلال الصور التي ترصد الماضي عبر ذكريات أليمة، لكنها تكون أيضا عندما يجري تذكرها من مسافة، من على بعد. طريفة وممتعة، وقد تدعو إلى الضحك أو الغناء.. وقد تتحول الصور إلى معايير مجردة حين تكون متعلقة بإحساسات انطوت واندثرت ولم يعد من الممكن إحياؤها من جديد إلا عبر التذكر وعبر الصور: هنا ترد الإشارات المرتبطة بالصمت والابتسامات والنظرة السريعة أو المحدقة أو الشاردة، وهكذا فإن الحديث عن الصور هنا هو حديث عن الأثر، عما يبقى عما يقاوم النسيان، ذكريات خاصة بعلاقات جنسية وعاطفية وإنسانية، ويجري التذكر في الغالب من خلال التقاء النظرات نظرات الرجال والنساء بعد أن بلغوا من الكبر عتيا، تبادل النظرات والتحديق – أو النظر في لهيب النار المشتعلة أحيانا – يؤدي إلى توالد الصوروالذكريات والضحك. تتقابل نظرات الرجل بنظرات المرأة، فتنفتح الذكريات وتنساب وتتوالى، ويعيشان الزمن البعيد مرة أخرى، لكن عند مستوى التذكر والغياب والأثر الذي هو حضور آخر، ووجود آخر رغم انقضاء الزمن.

هكذا فإننا نجد أيضا أن فعل التحديق والنظر فعل أساسي في هذه القصص، وهو فعل أحيانا ما يحول الذات إلى موضوع كما قال فوكو. في”بعد ذلك … لا أحد” يقول الراوي: تعودت في طفولتي أن أقرأ خرائط القمر. وحديثه عن النظارة (العوينات) الجديدة التي تلفت الانتباه، وعن ولعه برسم الحدود لكل شيء، وعن صورته التي تتأرجح على مسمار في الحائط، وعن الغرباء الذين يبحثون في الحفل العام ويأخذون الصور التذكارية معه…. وإشارات عن البحث من خلال عيون النساء عن رغبة قديمة، وعن تثبيت النظرات والتراوح بين التحديق والتخيل والحضور والغياب، حيث الراوي ينام في العراء بنصف عين وفي بيته بنصف جسد.

الصور وارتباطها بالموت والغياب موجودة في قصص كثيرة داخل هذه المجموعة، وهناك إشارات إلى ألبوم الصور واليد التي تقلب الصور، وكل الأشياء التي يمكن رؤيتها في المشهد. الصور الفوتوغرافية في الألبوم البلاستيك. الصور المعروضة أمام الراوي كشريط سينمائي. صور صامتة ثابتة لكنها بسبب سرعة تقليبها تتحول إلى صور متحركة.. صور أعزاء رحلوا ومازالوا باقين في الذاكرة، صور تحركت لكنها بقيت ثابتة صور من الذاكرة، وصورمن الأحلام. صور لأناس يعرفهم، وصور لأناس لا يعرفهم، ويحضر وجه الأم المرتبط بالغياب والموت. تحضر صورة وجهها المرتبطة بالحضور الداخلي والغياب الخارجي بفعل الموت هناك هذا الحضور الكثيف القوي للأم والأصدقاء والذكريات والموت.

من ينقذ الراوي من إلحاح الذاكرة؟

صور ممؤتمر للأدباء، وشخصيات تغادر الكادر، وصور تدخله صور موجودة بداخله. صور خارجه، وصور لا هنا ولا هناك. صور الوجوه التي تستأثر بكل الذكرى، وكأن أجسادنا بلا قيمة، واليد التي تحاول أن تقبض على شيء، على معنى في الخارج فلا تستطيع صور كأنها لوحات لبيكاسو أو رينيه ماجريت أو سلفادوردالي. صور عن مشاهد تمر عبر الذاكرة كأنها سيناريو فيلم تجري استعادته، أوبالأحرى، يتم تصويره مرة أخرى صور لذكريات يوم الثلاثاء، الحركة بين الأتيليه ومقهى التكعيبة صور من الواقع لعالم الأدباء والمقاهي والندوات، وصورمن فترة التجنيد والحرب والقطار الحربي وما به من مشاهد مؤلمة وخانقة، حديث عن أدباء ماتوا وأدباء سيموتون بعضهم دخل الألبوم وبعضهم سيدخله. حديث عن الأحلام الضائعة والمهمشة. عن بؤس الأدباء في هذا العالم، أو بالأولى في هذا الوطن.. عن أدباء كبار مجددين لم يبق لهم من مجد سوى أن يموتوا فجأة أو يمرضوا ويقوموا ببيع اللب والسوداني.

هنا تداخل بين عوالم القص والحكايات، والكتابات الفعلية، وعناوين القصص والحياة الفعلية، حياة الأدباء وضياعهم في الحياة مزج لليومي العابر الزائل بالمتخيل والحلمي.

في “مثل واحد آخر”. حديث عن انهيار حاسة الإبصار، وحديث كثيف عن حاسة اللمس. وعن الحواس الأخرى. كيف يلمس ثقب الباب في حالة انعدام الرؤية. الشعور بالبرودة، وحديث عن صوت الأم أيضا، كيف تنهار المهارات فجأة، ونوع من الشعور بالتغير في الواقع. Derealization، وتغير في الشخصيةDepersonalization، وهذه مشاعر موجودة في القصص كلها بوجه عام حيث نجد أن الواقع فيها فجأة، ويكون على المرء أن يبدأ من جديد لكنه عندما يبدأ يكتشف أن هذا الواقع الجديد ليس جديدا، لقد مر الشخص بهذه الخبرة من قبل وكأنها خبرة سبق الرؤية أو سبق أن Deja Vu. حيث يرى الإنسان مشاهد جديدة، ويعتقد أنه رآها من قبل، ولذلك أسباب عديدة بعضها مرضي، وبعضها صحي حسب حالة الإنسان.

في علاقات الإنسان مع عالم الظلام في هذه القصة تشتد الحواس، وتقوى إدراكاته للتفاصيل الصغيرة ويسخر من برامج التليفزيون المصري. ويتخيل نهايات متعددة لقصته هذه التي تشبه السيناريو، أو المشهد الذي يرويه شخص ثالث موضوعي يفكر في الاحتمالات المتعددة لخروج هذا الشخص المحاصرخارج باب بيته من هذا المأزق … كأن يخرج أحد الجيران ويشعل المصباح، أويذهب لقضاء الليلة في المقهى.. إلخ، أو يتـخـيـل مـا يفعله لـصــوص الأفلام البوليسية حين يصيخون السمع لتكات، باب الخزانة فتفتح. هنا تركيز على حواس اللمس والسمع والشم في حالة غياب حاسة الإبصار، وحديث كذلك عن الصور النمطية للشخصيات الأب، الأم، الحبيبات، الزوجات، الجيران… إلخ، وإشارات إلى عمليات التحديق من عـيـون سـحـرية ومن ثقوب موجودة في الأبواب، تباديل وتوافيق للعلاقات بين مكونات القصة، وتلاعب بالأحداث والنهايات، تلاعب لا نهائي من خلال لعبة التأجيل والإرجاء التي تحدث عنها دريدا، أو التي يتحكم فيها الخيال، فالشخصيات من خلال نظرة الراوي تتحول إلى موضوعات أشياء يموضعها ويقوم بتشييئها يحولها إلى أشياء من خلال نظرته إليها على أنها كائنات مفرغة من الحياة آلات وآليات، مانيكان أوعرائس ماريونت، تتحرك بلا روح، وهناك تدخل وتعليق وإيقاف للحدث. في نوع من القطع أو المونتاج والإضافة والحذف.

المفردات مثل: البداية النهاية، لحظة التنوير المكان، الدخول في المشهد الزمان… إضافة إلى تناص القصة مع أعمال أخرى، مثل أوديب، أو قنديل امهاشم ليحيى حقي. وتحويل الشيء إلى شخص، والشخص إلى شيء أمور كلها مميزة لهذه القصة. هنا حديث عن غياب الإبصار، أو بالأحرى عن أهميةحضوره. فكرة انقطاع الكهرباء المرتبطة بالحياة، وحضور الموت، وتحطم الأحلام.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في كتاب ( عصر الصورة ) للدكتور شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2005م، العد 311

1669800844342.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى