د. محمد سعيد شحاتة - المشهد النقدي

هناك زوايا متعددة يمكن النظر من خلالها إلى المشهد النقدي في الآونة الأخيرة، وتوصيفه من خلال المتابعة للمنتج النقدي، وتعامله مع المنتج الإبداعي:
أولا: بعض النقاد - بصرف النظر عن الأشخاص - يتخذون من أنفسهم مقياسا للصواب والخطأ، بمعنى أن الناقد يجعل نفسه وفكره المقياس الذي يقاس عليه، وبمقدار اقتراب الكاتب من هذا الفكر يكون كاتبا جيدا، وبمقدار ابتعاده عن هذا الفكر يكون كاتبا غير مرغوب في قراءة أعماله، أو متابعته، وللأسف الشديد هذه النقطة أصبحت أكثر انتشارا في الآونة الأخيرة، ومن خلالها يبدأ هذا النوع من النقاد التعامل مع المنتج الإبداعي.
ثانيا : النقد في الوقت الحالي وبعد التطورات الكبيرة التي أصابته قد أصبح يبتعد كثيرا، بل لا يعترف بأحكام القيمة، ويلجأ إلى التأويل أو الهرمنيوطيقا أو ما يعرف بتفسير النص، وهو أمر يعتمد على فهم الناقد للنص، أما أحكام القيمة فقد أصبحت من الزمن الغابر بل من مخلفات الأزمان الماضية، وحتى النظريات الغربية التي يتشدق البعض بمعرفتها وإجادتها لا تعترف بأحكام القيمة، وتؤمن بأحقية المبدع في صياغة عمله الإبداعي بالطريقة التي يراها مناسبة لمنطق الرؤية الفكرية التي تتحكم في العمل الإبداعي وتحكم سيرورته، وهنا نعود إلى تراثنا النقدي والبلاغي فنكتشف ما يمكن أن يؤكد الفكرة، فعلى سبيل المثال يسوق أبو يعقوب السكاكي صاحب كتاب مفتاح العلوم وهو من انتهت إليه علوم البلاغة، وأصبح علمها الأبرز من خلال شروح كتابه المتعددة والتعليقات عليه، يسوق قصة ثلاثة رأوا القمر في ليلة المنتصف، أحدهم سلاحي (صانع أسلحة) والثاني جبَّان (صانه الجبن) والثالث خبَّاز، وعندما نظر الثلاثة إلى القمر قال السلاحي ما أجمل القمر إنه يشبه الترس، وقال الخبَّاز ما أجمل القمر إنه يشبه رغيف الخبز، وقال الجبَّان ما أجمل القمر إنه يشبه قرص الجُبْن. إن الثلاثة عبَّروا عن رؤيتهم للقمر، وكل منهم كان مختلفا عن الآخر، وهكذا الإبداع وخيال المبدع فإنه يرى الأشياء بمنطقه هو وليس بمنطق الناقد، وعلى الناقد أن يفسِّر منطق المبدع لا أن يحكم عليه بالصواب والخطأ، وإن كان لابد من الحكم في بعض الأحيان فيجب أن يحتكم الناقد إلى منطق النص الإبداعي، والقدرة على التوافق مع الرؤية الفكرية والانحياز الجمالي في النص الإبداعي نفسه، وليس فكر الناقد أو انحيازه الجمالي الذي قد يختلف أحيانا اختلافا جذريا عن المبدع.
ثالثا: بعض النقاد – وليس كلهم – يتخذون من النقد وسيلة لفرض السيطرة وإحكام القبضة على البيئة الثقافية والإبداعية من خلال فرض أكلشيهات محددة في تناول العمل الإبداعي، بحيث يكون على الناقد ملء الفراغ فقط، بمعنى أن تناول العمل الإبداعي يمر بخطوات محددة في ذهن الناقد وما على عليه إلا أن يأتي بأمثلة ونماذج من العمل الإبداعي تؤيد ما يريد، والتغاضي أحيانا عن أمثلة أخرى قد تنفي رؤيته.
رابعا: انتشر في الآونة الأخير عدم القراءة للعمل الإبداعي المراد مناقشته قراءة جيدة، والاكتفاء أحيانا بكلام عام قد يصلح لتناول كل عمل إبداعي مهما كانت رؤيته الفكرية وانحيازه الجمالي، وهذه النقطة مرتبطة بالنقطة السابقة إلى حد كبير.
خامسا: الأخطاء اللغوية التي قد ترد في أي عمل إبداعي مرهونة بمدى تأثيرها على الرؤية الفكرية، وقدرة العمل الإبداعي على التواصل مع المتلقي، فهناك بعض الأخطاء يمكن الإشارة إلى تأثيرها السلبي، وهناك بعض الأخطاء الناتجة عن السهو أحيانا وهي تقع ضمن الأخطاء البشرية العادية، ومن ثم فليس كل خطأ دالا على ضعف الكاتب.
إن المشهد النقدي مرتبك ارتباكا ملحوظا، ولا يمكن لناقد مخلص أن ينفي هذا الارتباك، ولا أن يتغاضى عن أسبابه ونتائجه على الإبداع والمبدعين، وبخاصة الشباب الذين هم في أشد الاحتياج لرؤية واضحة وإخلاص كبير من النقاد، وليس معنى كل ما سبق أنه لا يوجد مخلصون للنقد والإبداع، بل هناك كثيرون، ولكنهم إما أن ينعزلوا تجنبا لمهاترات المشهدين: النقدي والإبداعي وصراعاتهما غير المحتملة للنفوس المخلصة التي ترى أنه ليس من المفيد أن تدخل في صراعات غير مجدية وتستهلك الوقت والجهد، وإما أن يكتفوا بمجرد القراءة والكتابة النقدية دون الاستجابة لأية محاولات تصنيفهم ضمن الأذرع النقدية والإبداعية المتصارعة.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى