شهادات خاصة نقوس المهدي - الإقامة في الشعر.. في محبة الشاعر المغربي عبدالسلام مصباح

بداية أود ان أنوه بقوة بهذه المبادرة الطيبة والنبيلة التي تنتهجها مجلة بصرياثا الثقافية والأدبية في تكريم رموز الحركة الإبداعية العربية، والاحتفاء بتجاربهم في الكتابة، تشريفا لهم، واعترافا بجهودهم، وهو تقليد حميد وحسن يروم في ما يروم إليه تقدير قيمة الفرد من دون تقديس، وإنصافه من دون تقريظ، وتعداد مناقبه من دون مبالغة، وجرد خلاله من دون تفريط
وهناك وسيلتان لاجتراح الشهادة في الشخص، إما عن طريق التعارف المباشر، والمعرفة المسبقة، أو التعرف عليه من خلال كتاباته ومآثره، وهذه لعمري أهم وأصدق وسيلة لمعرفة الشخص.. واستجلاء خفايا النفس البشرية، وسبر أسرارها وكشوفاتها، ذلك أن الأسلوب هو الكاتب، والترجمان الحقيقي لما يضمر وما يخفي من فيوضات الخاطر
السي عبدالسلام مصباح هذا الغجري الجبلي الريفي الشمالي
أزعم أن معرفتي المبكرة بشخصه تأتت من خلال متابعتي لما كان ينشر من ترجمات في الملحق الثقافي لجريدة أنوال، مع ترجمات أخرى في منابر ورقية للسفير د. محمد محمد الخطابي، وابراهيم الخطيب، ومحمد العشيري، وخالد الريسوني، وصالح علماني، ترجمات كانت كفيلة بتقريبي من الأدب الإسباني
فيما يعود تعرفي على شخصيته إلى لقاءين يانعين، سنحت بهما المصادفة الجميلة
الأول في حفل تكريم أقيم على شرف الشاعر المغربي محمد علي الرباوي بالدار البيضاء، تلا خلاله أشعارا لفيديريكو غارسيا لوركا، بلغته الأم، ترجمها الى العربية بطريقة كأحسن ما يكون الإلقاء، وإن كان (الشعر عصيا على الترجمة* بحد رأي عمرو بن بحر الجاحظ، وذلك للمكانة التي يحتلها هذا الشاعر الأندلسي الشهيد في وجدانه، وما يختزن له من عشق ومحبة، ويتماهى معه بشكل رهيب وصفه صديقه عبدالكريم الطبال "منذ القصيدة الأولى عقد بينه وبين لوركا وثيقة صداقة عميقة وعلى أساسها كتب شعر لوركا على جدار قلبه حتى لا ينسى أي بند من بنود الوثيقة"
ومرة بلقاء في اليوسفية حيث أقطن، أهداني خلاله عملين له
لقاءان كانا كفيلين بأن أغنم انطباعات جميلة عن الرجل، أهمها طيبته الممتدة في الصدق، وتواضعه المفرط في الرقة. وانسيابيته الطاعنة في التلقائية والوداعة
وقد لا تستقيم الشهادة في حق الأستاذ عبدالسلام مصباح ومكانته الريادية في الساحة الأدبية المغربية ومدى إسهامه وجهوده في إثراء المشهد الشعري المغربي الحديث، بأشعار حداثية مختلفة وزاهية، تروم الانفلات عن مدار التبعية للقصيدة المشرقية، وكتابة قصيدة مغربية الهوية والجنان، وإعلان الردة على مقولة الصاحب بن عباد "هذه بضاعتنا ردت إلينا"، التي قالها بعيد إطلاعه على كتاب العقد الفريد لمحمد ابن عبد ربه، وعن النظرة النمطية الدونية التي خندق فيها أهل المشارق أدباء المغارب زمنا ليس باليسير، دون العطف على تجربته العميقة في الترجمة التي كرس لها النصف الثاني من اهتمامه، علما بأن التجربة لا تكتسب إلا بعد جهد داغل في المراس والصقل والتجريب الطويل الأمد، مما ساعد على تأصيل مكانته كمثقف جاد، وترسخ إسمه كمترجم ينشط في تعريف القارئ العربي بجواهر الأدب الإسباني والموريسكي في شبه الجزيرة الإيبيرية، وبأمريكا اللاتينية، وتقريب الأدب العربي للناطقين بلغة سيرفانتيس، منتقلا "من ساحة شعرية إلى ساحة شعرية أخرى لا يقيم في مكان ولا ينحاز إلى جوقة تحسبه مقيما وهو ليس بمقيم." كما بقول عنه أيضا عبدالكريم الطبال رفيقه في درب الحرف. وصنوه في عشق الشعر، وشبيهه في الوفاء للصداقات
الأستاذ عبدالسلام مصباح، الشاعر المرهف الإحساس، والإنسان، كائن متصالح مع ذاته، مسكون بسحر الجمال، مأخوذ ببهائه، بسيط حد الرقة، هادئ إلى أقصى حدود التواضع، شفيف كالنسيم، ومبدع يأتزر بألق الشعر، ويتيمم بفتون اللغة، ويسبح بحمد حاءات الحسن والحرية والحب والحقيقة والحنان والحياة
لن نتطرق الى الجحود الذي أضحى يلازم الأديب في هذا الزمان، إذ أصبح كالداخل إلى أرض قفر، وسط كائنات غريبة أنانية شرسة لا تؤمن سوى بالولاءات والولائم وبخفة اليد في مغرب الخبز الحافي، حيث أمست التكريمات طعما سائغا، وشركا له عند بعض الضمائر غير الشريفة مآرب أخرى، وهي معضلة بنيوية باثولوجية متجذرة في بيئنا الفكرية المبنية على الزلل وخطأ في تقدير قيمة الفرد، وإعلاء قيم المواطنة
ويحضرني هنا بيت الشاعر العباسي دعبل الخزاعي الذي يكاد يصدق على تكريمات آخر الزمان، التي لا تتفكر المرء إلا بعد رحيله، وحيث الميت أسبق من الحي
إني رأيتك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زودتني زادي
وحسبنا ما أسبغه عليه محبوه من نعوت وميزات حميدة، وما أغدقوا عليه من خصال بديعة، وما دبجوا فيه من ثناء، وما وسموه به من صفات وشمائل تعبق بالمحبة
قال فيه الأستاذ عبدالرحمان الخرشي في مجمل شهادته في حفل تكريمه بالناضور، عنونها بـــ (في تكريم الطفل البهي المشاكس بلطف)
"أما صفات الرجل بدقة فهي لا تعد ولا تحد؛ فقد تجمعت في شخصيته صفات كبار السن، وبعض صفات الأطفال الصغار؛ بدءاً من العفوية، والتلقائية، فطهارة النفس، وبياض القلب، وصفاء السريرة، وبهاء الاسم، ونقاء الطوية، والتعامل بلطف وبساطة نادرة. وهو فوق ذا وذالك الرجل الذي لا يلج قلبه الحقد، ولا يحمل الضغينة أو الخبث لأحد"

بينما يقول فيه الشاعر والأديب المغربي السي عبدالعزيز أمزيان وهو يتذكر كل تفاصيل لحظات لقائهما الأول
"بدوت شاعرا مختلفا، كان لوجهك ملامح طفولية، رحيل نحو ذاكرة غائرة تعود بالمرء الى مرحلة السبعينيات حيث كان العالم ما يزال يحتفظ بقسمات وجهه كما هي لم يكن تزين- بعد- بالمكياج أو وضع الكحل في عينيه كما هو الحال الان . هكذا رأيتك صافيا من كل الشوائب كنت أتأمل حديثك بنوع من الدهشة لأنه أعادني الى الماضي البعيد حيث كانت الفراشات تفتح لنا أزرار الشمس بوداعتها وخفة رفرفتها القريبة منا حتى ليتخيل لنا أنها انبعثت توا من أرواحنا .رأيتك تحلق في الضوء، تكبر في الأرواح كدوح. ترسم مرايا الشعر بخطوط الورد وتنحت الحرف بعبق النسيم وسحر المجاز. كم تكون جميلا وأنت تنثر حرفك في حدقات الفضاء. تبدو كما لو جئت من رنين المساءات وردهات الغيم وسحنات الفجر، ترشفك القصائد بتؤدة وروية كما لوتود أن تعطيك لون البياض وعطر الاقحوان وسحر الغصون المائلة وجمال البرد الناعم وروعة الماء المتدفق. كم تتعدد في زهر الحرف! تورق أنفاسك في نهره العاري. ترسو حدائقك في مراسي الشمس، فيتناثر العبق في الأفق معانقا غفوة المساء وانشداه الأفواه في صحوة الولادة. وأنت بين وردتين وقبلة تنزلق من قنديل الشفق، تغمس جناحيك في زخات الفجر ملاكا يحلو له أن يتمدد بين هسيس الشفتين ونبع القبلة الصافية حيث تطلق هديلك بين رفرفات النور ومدارات الحبر في لوح نورستك الهاربة منك اليك. يحترق جسدك وتشتعل نار الشوق في فؤادك حين تتعرى نوستك تمسي بحرا يجري بأمواجه المتدافعة كي يغسل عينيه بجمال جسدك الفتي. تشتعل كل قصائدك بجمر العواطف وجذوة الهيام"

شكرا للشعر الذي يعلي قيمة الفرد، ويسمو بالإنسان،
أعني كيمياء الشعر الحرون، وإكسيره السحري الذي يحيل الوجود إلى جنائن سرمدية، ويصيب الإنسان في دهشة
عبدالسلام مصباح الغجري الفصيح، كليم الشعر، والمقيم أبدا في أوقيانوسات صرحه، يشاكسه بلين، يراود القصيدة فيكون حب، ويكون، حسن، وتكون حرية، وتكون حياة، ويكون حنان، ويكون حبور، وتكون حقيقة ويكون للعراق

-3-[
عِرَاقُ...
أَتَيْنَا لِنَنْشُدَ أَشْعَارَنَا
وَفِي الْحَلْقِ جَمْرٌ
وَفِي الْقَلْبُ جُرْحٌ
وَفِي الْحَرْفِ نَارٌ وَثَوْرَهْ
فَهَلْ تَقْبَلِينَ الْغِنَاء
لِيَرْقُصَ عُشْبُ الْبَرَارِي
وَيَكْتُبَ أَسْمَاءَكِ الرَّائِعَهِ.
-4
عِرَاقُ...
أَتَيْنَا لِنَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا
وَنَهْتِفَ لِلْكِبْرِيَاءِ
وَلِلْهِمَمِ الشَّامِخَهْ
وَلِلْوَاقِفِينَ اِنْتِظَاراً
عَلَى صَهْوَةِ الْعَاصِفَهْ
وَلِلْحَامِلِينَ صَلِيبَ الْوَطَن.
-5
عِرَاقُ...
سَلاَماً... سَلاَماً
فَنَهْرُكِ لَنْ يَنْضُبَ
وَشَعْبُكِ لَنْ يَهْربَ
وَكُلَّ تَمَاثِيلِ قِشٍّ
وُقُودٌ لِنَارِك
وَحَبْلُ غَسِيلٍ
عَلَى سَطْحِ دَارِك]

نقوس المهدي - اليوسفية - المغرب






1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى