أ. د. عادل الأسطة - طائر العنقاء الفلسطيني... تكرار الحكاية - «أرجوحة من عظام»

وأنا أقرأ رواية وليد الشرفا «أرجوحة من عظام» (٢٠٢٢) أصغيت إلى خبر استشهاد ناصر أبو حميد وموته بالسرطان.
تحفل الرواية التي تجري أحداثها في انتفاضة الأقصى ٢٠٠٢ بمشاهد القتل والدمار والحصار وتشير إلى تاريخ طويل من المعاناة تتراكم فيه عظامنا منذ آلاف السنين.
في حصار كنيسة المهد في ربيع ٢٠٠٢ يستشهد حسين عبيات وتحمل جثته إلى المغارة فيراها السارد يوسف تغطى هناك وسيرى الألوان الحمراء المطرزة حول المذود «سأرى الدم كأنه ينزف منهما، وسأرى عظام وجماجم الأطفال الذين ذبحهم هيرودس، محبوسة خلف السياج المعدني....» ووسط العتمة يرى نورا يشع، فمجمع العظام والجماجم فدت المسيح.
في الحصار أيضا، تتأرجح عظام أبي سلام في الكنيسة بسبب رصاصة في العنق. لا يكون أبو سلام المحاصر في الكنيسة حذرا على الرغم من الخطر لأنه يؤمن أن ما كتبه ربنا يقع، ولذا لا يلتفت إلى رجاء الراهبة وهي تخاطبه: أرجوك انزل، الوضع ما زال خطرا!!
يمد أبو سلام رقبته ولم تعد ترى إلا قدماه، وفجأة يصرخ: آه آه رقبتي، وذلك بسبب اختراق رصاصة لها. ترتطم كتفه اليسرى بأرضية الكنيسة، كأنه تأرجح بعظامه وانقطعت الأرجوحة فيه، ويثير صوت ارتطام العظام بالحجر فزعا ويستفز العين لتزيح نظرها خوفا من الدماء.
الحكاية، إذن، تتكرر منذ هيرودس وربما قبله أيضا. وإذا كان فعل القتل يتكرر فلماذا لا تتكرر الكتابة؟
ولأن الفعل الفلسطيني المقاوم لم ينقطع ولم تنقطع بطولات الفلسطينيين أيضا فإن ما قرأناه عن تضحيات الأولين منا نقرؤه، اليوم وغدا وبعد غد، وتكرار الفعل سوف يؤدي إلى تكرار الحكاية: إن لم تكن الحكاية نفسها فشبيهتها.
وأنا أقرأ «أرجوحة من عظام» تذكرت حكاية سميح القاسم «إلى الجحيم أيها الليلك» (١٩٧٧) وطروحاتها.
توقف كثيرون أمام الحكاية الاوتوبيوغرافية وكتبوا عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فيها وعن مآلاته وما اقترحه سميح يومها. لا حلول للقضية الفلسطينية إن أصر الطرفان على أن فلسطين كلها هي لطرف دون الآخر: لي لا لك. وتمنى أن يذهب كل من يريد البلاد كاملة له دون حق لغيره بقسم منها، تمنى له الهلاك والذهاب إلى الجحيم، واقترح إمكانية للتعايش تتجسد في تقاسم ما، أو تقبل ما لحق الآخر بالعيش في هذه البلاد.
في الحكاية، فصل عنوانه «المواجهة» حيث يشتبك الفلسطيني حسن والإسرائيلي أوري شمال البحر الميت ويصابان بجراح بالغة. يحيّي أوري حسن فيرد التحية بأحسن منها ويسأله:
- هل أستطيع أن أعلم لماذا أطلقت علي الرصاص؟
فيجيبه:
- لأنني أكرهك!
- لماذا تكرهني؟
- لأنك تكرهني.
- هل حاولت مرة واحدة أن تعثر على جذر الكراهية؟
- تكرهني لأنني أحب إيلانة.
- أنا لا أعرف «إيلانة». أعرف «دنيا» وأحبها... إلخ فيرد أوري:
- «دنيا» هذه التي تتحدث عنها، لا وجود لها البتة. الحقيقة الوحيدة هنا هي «إيلانة»!
وتنتهي الحكاية باقتراح إيلانة على أوري بالتفكير بوسيلة تجمع حسن ودنيا دون تفرقها مع أوري، فيرد عليها بعنف:
«إن هذا الرشاش يجيد التفكير أكثر منك... إنك لا تدركين أبعاد لسانك وهواجسك!».
بعد خمسة وأربعين عاما من طروحات سميح يكتب وليد الشرفا روايته التي يجري زمنها الروائي في ٢٠٠٢، فهل يختلف الجدل بين الفلسطيني والإسرائيلي؟ وهل يتبنى وليد ما كان سميح يتبناه؟ وهل يختلف الإسرائيلي في الحكاية والرواية؟
يحمل أوري الرشاش ويحمل إيلي في رواية وليد المسدس أيضا، وكما تواجه أوري وحسن يتواجه إيلي ويوسف فـ»لا شفاء لنا» و»سننحدر وستتساوى حظوظنا في الموت والحياة، أمام رغبة الموت تتعطل القوة فلا اختباء ولا سلامة. تصبح الطريق أنا وأنت فقط، لا أرباب ولا معجزات ولا أمل بالشفاء» ويغرق إيلي بالدم ويتمدد يوسف على ظهره على أرضية السيارة، وحين تأتي الطيارة لإنقاذ إيلي يسمع يوسف صوتها فيقول لإيلي:
«التعويذة في رقبتي ولن تنفعك الطائرة» ويضيق نفس يوسف و»أصعد في الغيم، لا صوت ولا ضوء».
كلاهما يعاني، والرواية تروي رواية الفلسطيني الذي يرى أن إيلي ليس ابن هذه الأرض. إنه حين ينشد مساعدة القديس سابا ليشفى يطلب منه الأخير ترابا من المكان الذي ولد فيه وعاش عليه أبوه وجده حتى ينتج له وصفة الشفاء، ولما كان أبوه وجده من بلاد بعيدة وترابهما غير تراب الابن فإن إيلي يزيف التراب، وهذا بدوره لن يحقق له الشفاء.
كذبت الصهيونية حين زعمت أن فلسطين أرض بلا شعب ولم يطمئن لها بال حتى اللحظة، ومثلها كذب إيلي فلم يشف، والحكاية تطول.



عادل الأسطة
2022-12-25




الأيام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى