منى بنت حبراس السليمية - المغرب.. البلاد التي تعرفني

لا أعرف ما إذا كانت المصادفة وحدها هي التي شكّلت علاقتي بالمغرب، أم أنها الرغبة الواعية في أن تكون المغرب وجهة دراسية امتدت لأكثر من خمس سنوات منذ أواخر 2013. فمن دون هذه المصادفة/ أو الرغبة ما كان لحياة كاملة أن أعيش تفاصيلها في هذا البلد البعيد. وأفكّر الآن أن الموضوع كان يحمل الوجهين معا في لحظة مشرقة يدهشني أنها تحققت بعد هذه السنوات؛ ففي الوقت الذي كان إيماني يكبر بالمغرب كأكثر البلاد العربية إنتاجا للمعرفة الإنسانية بحكم احتكاكها بالمدارس الغربية من جهة، وبروز أهم الأسماء النقدية فيها عندما توقفت بلدان عربية أخرى عن تصدير أمثالهم من جهة أخرى، أقول: في الوقت الذي كبر هذا الإيمان بداخلي، كان القدر بدوره يرتب طريقا أسلكه إلى هناك؛ إذ دأبت الحكومة المغربية على مدى سنوات مضت، وحتى وقت قريب، على تقديم مجموعة من المنح الدراسية سنويا لمرحلتي الماجستير والدكتوراه للطلبة العمانيين.
وككل قنّاص يعرف كيف يصيد حلمه لم أتردد في الترشح للحصول على مقعد منها. وابتسمت لي الحظوظ عندما قُبل ملفي بادئ الأمر للدراسة في جامعة محمد الأول في “وجدة” التي تقع على الحدود مع الجزائر في منتصف عام 2013، قبل أن أنقله بعد عام كامل إلى جامعة محمد الخامس في الرباط.
زرت المغرب أول مرة في ديسمبر 2013 دون أن أملك تصورا واضحا عما يمكن أن يكونه هذا البلد أو طبيعته. كان هدف الزيارة الأولى محددا: أن أكمل إجراءات التسجيل لبرنامج الدكتوراه وأعود إلى عُمان بعد عشرة أيام، ثم سنرتب فيما بعد جدول الزيارات اللاحقة والبرنامج التفصيلي مع الأستاذ المشرف. ولكن الحياة تعطينا أكثر مما نطلب أحيانا، فقد أدركت منذ الوهلة الأولى أن المغرب بلاد تعرفني فعرفتها. هكذا أحب أن أصف علاقتي بها: البلد الذي يمنحك معرفة أجمل الناس قبل شرارهم بلدٌ يعرفك. البلد الذي يضع في دربك الياسمين قبل الشوك بلدٌ يعرفك. البلد الذي يريك الربيع بينما الدنيا شتاء بلدٌ يعرفك. البلد الذي يضمك فردا منه لا ضيفا وافدا إليه بلدٌ يعرفك. هكذا عرفتني المغرب، فعرفتها.

يقولون المغرب مذكّر، ولكني عرفتها أنثى، ألم يقل ابن عربي: “كل مكان لا يؤنث لا يعوّل عليه”؟ وأنا لا أعرف كيف لا أعوّل على المغرب. المغرب أنثى وإن غضب المغاربة! واخترت مع سبق إصرار وترصد أن تكون في حديثي أنثى: المغرب البلاد، والمغرب الحضارة، والمغرب الشمس التي كلما غربت أعارتها عُمان شمسها كأول وآخر البلاد بين قوسين، وبين ضلعين، وبين طرفين.

أي شيء يحمل وجه المغرب أكثر؟ يراودني هذا السؤال كلّما طالت مسافة الوقت بيني وبين المغرب، وظننت بمثالية مفرطة تليق بعاشقة كتب متطرفة مثلي أن المكتبات هي وجهها الأجمل، حتى اكتشفتُ أن أكثر ما يحمل وجهها هي الرائحة؛ فلكل شيء في المغرب رائحة، وأنا من يجيد اتّباع الروائح كما لو كانت حاستي السادسة مزروعة في أنفي حتى صارت حاسة الشم عندي حادة ومضاعفة؛ فعرفت أن للمطار رائحة، ولقمرة القطار رائحة، وللرباط رائحة تختلف عن الدار البيضاء، وتختلف هذه عن رائحة تطوان أو طنجة أو مراكش. ولكل زنقة في أكدال رائحة: لتانسيفت رائحة النعناع، ولسبو رائحة المسمّن. ولكل مكتبة من مكتبات المغرب الكثيرة رائحة، وأجملها رائحة مكتبة دار الأمان. ولكل يوم من أيام الأسبوع رائحته، فللجمعة رائحة الكسكس ولبقية الأيام رائحة الطاجين والبسطيلة وكعب الغزال. تعلمتُ في المغرب أن الروائح عناوين وعلامات، ولم تخطئ رائحة منها قط إذ ترشدني إلى مسالك العاشقين.
***
أوجدتُ لي في كل مقهى حكاية، ومن بين كل المقاهي لا أنسى أربعة مقاهٍ تركتُ فيها بعضا من نفسي، وتركتْ هي وشومها في روحي. وأول تلك المقاهي: مقهى “حدائق الحمراء” في “مارتيل” في أقصى الشمال المغربي. كنت أسير إليه مشيا من شقتي مسافة تقل عن كيلو متر واحد بقليل، ألتقي فيه بأستاذي وأبي عبدالرحيم جيران. نقضي الساعات نناقش الأفكار ونتبادل الكتب والأخبار، ويحدث أن ينضمّ إلينا شخص ثالث؛ الصديق عماد الورداني أحيانا، أو عادل العناز، أو أحد أساتذة جامعة عبدالمالك السعدي من زملاء أبي جيران، الذين لا يتردد في تعريفهم بي بثقة: هذه ابنتي منى. ويصدّقونه بحسن نية أو مجاملة إلى أن أبدأ بالكلام فتكشفني لهجتي.

المقهى الثاني، مقهى “لافنيو” في “مارتيل” أيضا، الذي ألجأ إليه كلّما عدتُ من مقهى “الحدائق الحمراء”؛ لأني أفضّل الجلوس فيه وأرى العالم بينما أشتغل على بحثي عوضا عن الذهاب إلى شقتي باكرا أصارع البرد الذي يضطرني للعمل تحت البطانية قبل أن أستسلم للنوم الباكر. أجلس في مقهى “لافنيو” ساعات تمتد يوما كاملا في معظم الأحيان بصحبة كتبي وجهاز حاسوبي المحمول على مائدتي الصغيرة بكرسيها الوحيد.

مع الوقت وتوالي الأيام صار النادل خالد يرتبهما لي يوميا، ويقترح عليّ أحيانا أن يحركهما بعيدا عن تجمع المتابعين في الليالي التي تُبث فيها مباريات كرة القدم. لم يكن خالد – الذي صرت أسميه خالد لافنيو – يعرف أني أتابع كرة القدم وألعبها أيضا، وأني لا أنزعج من المباريات ومن ضجيج المشجعين حولي. يقول لي: “ولكنك البنت الوحيدة هنا”، فأقول له: “لست وحيدة وأنت في الجوار”، فيظل يرعاني من بعيد ويراقب راحتي، ويأتي فورا إذا ما أحس مني ضيقا أو التفاتة تنم عن عدم ارتياح.

المقهى الثالث، مقهى “لاتاسا” في “أكدال” أحد أجمل أحياء الرباط. مكان يشبه روح أستاذي الآخر أحمد الطريسي، وفيه كنا نلتقي باستمرار وينضمّ إلينا أحيانا صديقه الحميم الأستاذ أحمد بوحسن. في كل زيارة إلى المغرب كان لا بد من “لاتاسا الطريسي”. يسألني أن أطلب ما أشربه، فلا أختار إلا الأتاي المغربي فيفعل مثلي. وفي كل مرة يرفض أن أدفع شيئا وإن كنت أنا صاحبة الدعوة. يكلّمني الطريسي عن ذكرياته في عُمان، وعن أصدقائنا المشترَكين في عُمان والمغرب، وعن مشروع كتاب يشتغل عليه يقول إنه خلاصة الخلاصات، ويريده أن يكون خاتمة مشواره البحثي، فأحتج على نظرته التشاؤمية وأدعو الله أن يطيل بقاءه.
بعد كل مرة ألتقي بالطريسي في مقهى “لاتاسا” كان يرفض أن أعود وحدي إلى فندق أومليل – حيث تعودتُ أن أقيم عندما أكون في الرباط لمدة قصيرة – ويصر أن يوقف لي التاكسي بنفسه، ويتأكد من أنه رأى ملامح السائق جيدا، وحفظ رقم السيارة. يوصيه بأن يوصلني إلى فندقي لأني ابنته وأنه يقيم في المكان الفلاني. ثم يتصل بي ليطمئن أني وصلت إلى الفندق بسلام. في إحدى المرات تأخرنا في جلستنا حتى شارفت الساعة على السادسة مساء، وهذا توقيت متأخر – كما يعتقد الطريسي – على فتاة تسير وحدها في الرباط، ولا يأمن حتى التاكسي عليّ وقد أوشك الوقت على الغروب. فماذا فعل؟ سار معي إلى الفندق مسافة ليست بالقصيرة على رجل مثله، وأنا أرجوه طوال المشوار أن يكتفي بهذا القدر ويعود إلى البيت؛ لأن الطريق باتت سهلة وتسير بمحاذاة الشارع العام على كل حال، ولكنه لم يتركني إلا أمام بوابة الفندق، ثم قفل عائدا إلى بيته مشيا كما جاء.
أما المقهى الرابع فكان دافئا كبيت، وحميمًا كعائلة. إنه مقهى “لذّةْ بنّة” في حي حسّان في الرباط. كانت صبيحة أول يوم لي في غرفتي التي استأجرتها من سيدة نبيلة أناديها خالتي فاطمة في أواخر عام 2018م عندما فتحتُ النافذة لأرى ما إذا كان يوجد مقهى في الجوار، فوجدت قبالة البناية التي أسكن فيها مباشرة مقهى صغيرا لم أميّز اسمه بوضوح وأنا على ارتفاع أربعة أدوار. نزلت لأكتشفه حاملة معي عدّتي كلها من كتب وجهاز حاسوب محمول؛ فلم يكن واردا الذهاب بعيدا عن محيط المكان، حتى وإن وجدت المقهى سيئا.
لاحظت أن العاملين في المقهى كانوا خمسة أشخاص من الذكور والإناث يتناوبون للعمل فيما بينهم على فترتين، ولاحظوا بدورهم وجودي اليومي مقتعدة إحدى زاويتين داخل المقهى لا أغيرهما. في الأيام الأولى كانوا يكتفون بسؤالي عن طلبي ويذهبون لتحضيره من دون أن تنفتح بيننا أحاديث من أي نوع، ثم بعد الأسبوع الأول بدأنا ننفتح على بعضنا. لم يبدُ لهم شكلي مغربيا، ولم يبدُ لي أنهم غرباء. تناوب الخمسة على رعايتي والاعتناء بي وتلبية رغباتي في الفطور والغداء على الرغم من أن المقهى يقدم المشروبات وبعض الفطائر الخفيفة فقط، ولكني كنتُ استثناءً طبخوا لأجله غداء خاصًا. وعندما تعمّقت الصحبة بيننا، صاروا يطبخون لي أطباق العشاء أيضا.
كنت أقضي يومي كله مع حكيم، ومحمد باكو، وسمية، وعزيزة، وفاطمة الزهراء. يتصلون بي إذا تأخرت عن الموعد، ويطمئنون عليّ بعدما يغلقون مقهاهم ويعودون إلى بيوتهم في المساء. زرت بيت سمية وفاطمة الزهراء غير مرة، ورافقتني سمية ثم فاطمة إلى السوق: مرة عندما شكوت من أن جاكيت البرد الذي أحضرته من عُمان لا يقيني برودة شتاء الرباط، ومرة عندما رغبت في شراء هدايا العودة إلى عُمان.
وعندما انكسر ضرسي في عصر أحد الأيام، اصطحبني محمد باكو إلى عيادة أسنان في الشارع الآخر، وعدتُ معه بعدما عالج الطبيب ما تبقى من الضرس بما يحفظه من السقوط التام. وفي يوم مناقشتي حرصتُ على المرور على سمية في الصباح الباكر وقد فتحتْ المقهى للتو قبل أن يطلع النور الذي يتأخر كثيرا في الرباط، لتطمئنني على أناقتي، وتخبرني كم أبدو جميلة قبل الحدث الأهم في حياتي. وعندما عدتُ عصر ذلك اليوم إلى المقهى، وجدتُ الأصدقاء الخمسة يحضّرون لحفلة في المساء بمناسبة نيلي شهادة الدكتوراه.

لم يكن مقهى “لذة بنّة” مجرد مقهى، بل كان بيتا وعائلة. وعلى الرغم من المقاهي الكثيرة التي عرفتها في المغرب، تبقى عائلة “لذة بنّةْ” هي الألصق بروحي؛ فإلى جانب أُلفة العاملين فيه ورفقتهم السعيدة، فقد كتبت فيه آخر فصول أطروحتي، ومنه انطلقتُ إلى جلسة المناقشة وإليه عدتُ.

***
والآن وقد انتهى المشوار كله، يثور فيّ الحنين جارفا إلى المغرب بين حين وآخر، وإلى رائحة الأماكن التي تثير في النفس شهية القراءة والكتابة بمجرد عبورها في جنبات الذاكرة، والاشتياق إلى حالة التوحد مع هدف الإنجاز ولا شيء سواه، وإلى الانقطاع عن كل همّ وشاغل إلا هم الدراسة وشاغلها. أفتقد الوقت في المغرب الذي لا يقطعه أحد، ولا تُفرض عليّ فيه مسؤولية غير مسؤولية نفسي.
ما المغرب بعد كلّ هذا؟ المغرب هي نقاء الأصدقاء في “لذةْ بنّة”، ووجوه زملاء الدراسة في جامعة محمد الخامس: العربي الحضراوي وإسماعيل العسري. هي مشاغبات رضوان ضاوي وهدوء خالد مجاد. هي وقفات محمد العنّاز ونسيمة الراوي وعماد الورداني وفيصل رشدي وأيوب مليجي وعُليّة الإدريسي ونجيّة الفرد. المغرب هي وجه أبي عبدالرحيم جيران، وأستاذي أحمد الطريسي. هي لطف عبداللطيف محفوظ وعزالدين الشنتوف وإدريس الخضراوي. هي صحبة زهور كرام وذكرى رحلة المبيت برفقتها في المحمدية. هي ذاكرة الروائح التي أحببتها، ووشوم الأرواح التي فاضت محبة وما تفتأ تشدّني دوما إلى آخر الأرض وإن عزّ السفر.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملاحظة: شهادة نشرت في كتاب “المغرب في عيون الأجانب: شهادات من العالم”، الصادر عن مؤسسة مقاربات 2021
منى بنت حبراس السليمية
جريدة عمان: الثلاثاء 29 مارس 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى