يعقوب الشوملي - يا حبيبتي ( 1 )

يا حبيبتي ( 1 )
لأنني بعيد عنك أصبحت بعيدًا عن نفسي. منذ نأيت عنك وسكين النوى تمزق روحي تمزيقًا، وتقطع نياط القلب، أهم لأسير فأخرّ كالنيزك الهاوي، أحاول أن أقف فتخونني قدماي، أتحسسهما لأستوثق من وجودهما فلا أرى إلّا قطعتين من اللحم معلقتين على مشجب قصاب. البعد عنك أبعدني عن نفسي، كل ثوب ألبسه أبحلق فيه مستنكرًا، ألف خياط ماهر يصنعونه، ومع ذلك يبدو قبيحًا، منظره يشوّهني ويحوّلني إلى سخرية الهازئين، فأسرع لأتوارى عن الأنظار. حتى الكلام لم أعد أحسنه. كل كلمة أقولها وأنت غائبة لا تنبع من قلبي، وأحسّ أنّها لم تجرِ على لساني وأطبق يدي على فمي، أخنق أنفاسي خوفًا من أن يحسّ بها غيرك. كل طعام ليس من يدك مر كالعلقم ولو كان شهدًا، كل فراش غير فراشك حرام، ولو كان من ريش نعام، مالحة المياه التي لا تنسكب من بين راحتيك، مظلم كل نور لا يسطع من سراجي عينيك، والساعة بطيئة جامدة وأنت بعيدة عني، ألف يد صافحت وأنت بعيدة عني، اللمسات البسيطة سياط تلهب الظهور، الأنامل الرقيقة دبابيس تلسع، كل النظرات تحمل التوبيخ والتأنيب إلّا نظرتك، كل الكلمات شتم إلّا لغتك، كل مظاهر الحياة وأنت بعيدة جماجم أموات مشنوقة على بوابة صانع التوابيت.
اختلطت الأمور علي منذ نأيت عني، وانقلبت المفاهيم، التلة الصغيرة بيننا أصبحت كأعلى قمم هملايا، النهر الصغير أمسى محيطًا كبيرًا، النهر الذي أقطعه مشيًا لأصل إليك، واليوم أضخم أسطول لا يدنو منه. حتى الذبابة الصغيرة التي كنت أكشها بمنشاة من كرتون، تبدو الآن طائرة كبيرة، والأرنب أسدًا، والسلحفاة تسبق الريح. مرة تبدين قريبة مني، حتّى لا أكاد أمدّ يدي لأصافحك، ومرّات أخالك بعيدة حتى أيأس من لقياك، مرّات يقولون أنك قذفت بفراشي بعيدًا، وألقيت كوب مائي في الهواء، ومرّات أستنشق اسمي مع أنفاس النسيم الآتي من الغرب.
إنّ الغريب بعيد عنك مهما دنا منك، وأنت عاتية جبارة عملاقة مع لطفك وعطفك في آن واحد. الورد الذي كنت أعتصر رحيقه من وجنتيك فيه الشوك ليلسع الغريب فلا يدنو منك، والنور المنبعث من عينيك يضيء حياتي، يحمل النار لتحرق الغريب، والشجرة التي كنا نستظلها، تتحول أغصانها إلى قضبان حديد تهوي على رأسه، الثمر للغريب يقسو ويتحجر كالقنابل يتساقط عليه، والتراب الذي امتزح بدمنا وحبّنا غبار يتطاير ليعفر وجهه، والنسيم العليل يتحوّل إلى ريح صرصر يطوي قامته، كلّي أمل أنك لي ـ لي وحدي، وأنّ الغريب لن ينال منك وطرًا.


منشورة في جريدة الدستور بتاريخ
03.06.1968
أعلى