د. زياد أبو لبن - المكان في القصة الآردنية.. المخيم في قصص محمد مشّه أنموذجا

يُشكّل المكان اهتماماً واسعاً عند الدارسين، بعدما انصبّ اهتمامهم على دراسة البنيات الزمنية والشخصيات، باعتبار المكان فضاء تتحرك فيها الشخصيات، "ويعد مصطلح "فضاء" من المصطلحات الملتبسة التي تراوحت بين مفهوم "المكان" ببعده الجغرافي الضيق إلى الذهاب بعيداً ليشمل بنية العمل الأدبي وعناصره المختلفة"(1)، فالمكان بالمعنى الفيزيقي "أكثر التصاقاً بحياة الذوات اليومية من حيث خبرتها به وإدراكها له، وهذه الخبرة وذلك الإدراك مرتبط أيضاً بأزمنة هذا المكان بصورة غير مباشرة، ليشكّل المكان في حياة الذوات علامة من العلامات التي يدركها مباشرة بصرياً أو لمسياً أو معرفياً"(2).
وباعتبار أنَّ المكان يشغل حيزاً كبيراً ومهماً، فإنَّه يمثّل "الإطار الذي تقع فيه الأحداث"(3)، وبحركة الشخوص داخل الفضاء المكاني نستطيع تحديد معالمه أو هويته، بل نتبيّن مدى تأثير المكان على أحداث القصة، كما يمكن تبيّن مدى تأثير الأحداث في المكان، و"من المعروف أنَّ المكان هو عنصر من عناصر القصة، فهو لا يزيد عن كونه مساحة للأحداث الجارية أو للدلالة على الشخوص الروائية فيما يتعلق بمركزها، أو طبقتها، أو نمط حياتها، أو حالة تمر بها إحدى الشخصيات من فقر أو بخل أو حتى الروائح الكريهة الخانقة، لذا يكون المكان من النوع الذي ندركه حسّياً"(4)
كما أنَّ الشخصية تشغل حيزاً كبيراً ومهماً في القصة، فحركة الشخوص تتعلّق بالمكان، وقد تصطبغ الشخصية بعناصر المكان ومكوناته، بل يَسِمُ الشخصية بسماته، فلا يستطيع الدارس أن يفصل الشخصية والمكان فصلاً بائناً، وإنَّما هناك تلاحم بين العنصرين لا فكاك من اندغامهما ببعض، بل إنَّ المكان يتداخل في علاقة جدلية مع عناصر العمل القصصي كلّها، وهو "وسيلة لرسم الشخصيات وملامحها، ويحمل رؤية المبدع ووجهة نظر الشخصية، كما يحمل أبعاداً سياسية واجتماعية، ويصنعه المبدع، ويصوغه في خياله من الكلمات سواء كان مطابقاً للمكان الواقعي أو غيرَ مطابق"(5).
وبما أن "المخيّم" باعتباره مكاناً واقعياً وليس متخيلاً في كتابات الكثير من الكتّاب "لقد حظي المخيم بمساحة واسعة من مدونة السرد الفلسطيني، وذلك لأنه مثّل حدين في منتهى التناقض والتناكر، الأول: أن المخيم مكان منفى، مكان مهمش مهمل، فيه أناس عاجزون عن الفعل، تتعاورهم ظروف قاسية وعيوب اجتماعية، وتتعاون عليهم المصالح والمعطيات الدولية والأمراض. أناس ميزتهم الأساسية قلة الحيلة، وضعف المقدرة، والثاني: أن المخيم الفلسطيني قاعدة انطلاق لأيام أكثر إنسانية، ولحياة من الممكن أن تكون جميلة، والرؤى وتصورات قد تصبح واقعاً"(6)، ولعل "النكبة الفلسطينية وما تمخض عنها من هزائم هاجساً جديداً في العقل الواعي العربي والأردني – الفلسطيني على وجه التحديد"(7)، وهذا ما نجده في قصص محمد مشه، حيث ينفتح المشهد المكاني في المخيّم على مصرعيه في لحظات استلام المؤن من وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين، فيصور القاص محمد مشه في قصة "الحمار الذكي"(8) يوم استلام المؤن، وهو يوم ينغرس في ذاكرة الفلسطيني في شتاته، ذاك اليوم الشاق من العمل، بما ينطوي عليه من إذلال اللاجئ أو النازح عن وطنه، ولا يدخل القاص بتفاصيل الحالة إنما يعبّر عنها من خلال إظهار غضب الشخصة بالقول "ألا لعنة الله عليه من يوم ما أتعسه"، في الوقت نفسه تتهيأ سعادته بالحمار الذي يتهيئ لمثل هذا اليوم السعيد، بإشارة ساخرة لواقع الحال، فهو يوم يختلف عن أيام حياته وهو يتناول كسرة الخبز الناشف، بل ينكسر إيقاع الحياة ليحصل الحمار على رطل من الشعير إذا أجاد عمله، في الصورة المقابلة شخصية الموظفين الذين يدخلون مبنى الوكالة بسيارات فخمة، وتبرز شخصية رئيسهم الوسيم رغم التجاعيد التي تظهر على وجهه فيمضي العمر بهذا العمل المرهق، يُلقي عقب سيجارته، فتتصارع عليها الأيدي في لحظة نشوة أو سعادة لتدخينها مع كأس من الشاي، ويبدو الفارق الطبقي في القصة بين الرئيس وتلك الشخصيات تبدو جليّة في المشهد المؤلم، إلا أن الجانب الإنساني يدفع الرئيس للحزن وهو يراقب هؤلاء المتصارعين ويعجز عن الكلام، وتتعمّق صور المأساة في قصة "إنها ليست فاطمة" حين تبرز صورة الأب الذي يُطرد من مركز التوزيع التابع لوكالة الغوث، بعد أن لفّقوا له تهمة سرقة نصف كيلوغرام من الـ (دي. تي. تي) لقتل البق والقمل والصراصير التي انتشرت في بيته وفي البيوت المجاورة(9).
ينعكس المكان/ المخيّم على ذاك المجنون المتسول في قصة "ذكي آخر"(10)، فيلامس القاص بصورة غير مباشرة الفلسطيني المشرّد في شوارع المخيّم، تبدو تلك الشخصية بملابس رثّة ورائحة كريهة وشعره الذي يشبه بيت العنكبوت، وما تعانيه من فقر وجوع، وما يتعرض له من إهانة بالضرب والركل من قِبل الضابط العسكري كي يغادر الرصيف، وهو يجمع ما تلقاه من قطع نقدية، وقد مضى على المجنون زمن كان له مكانة مرموقة أو بطولية في مجتمعه، وهذا ما أحسّ به الضابط وهو ينظر للمجنون الذي كان سبباً في هزيمة الطليان، وهنا إشارة ساخرة إلى الهزيمة التي مُني بها الفلسطيني، وإشارة خفيّة لما تحمله من دلالة على الحرب والرحيل.
تتجلّى في قصة "مات وهو جائع"(11) صورة المكان/ الخيام الرثّة التي يتعلم فيها الطلاب، صورة المدارس التي يتنازع فيها المكان مع الشخصيات حضورها المأساوي، وينفتح المكان أكثر على صورة الخيمة التي تقطنها شخصية الفتى في القصة مع إخوته السبعة وأُمّه، وبابور الكاز، ووجبات الغداء في مطعم وكالة الغوث، وهذا الحال البائس دفع الفتى للرفض والتمرد على الواقع، لكن الجوع كان أقوى من فعل الرفض والتمرد، فيتحوّل إلى صراخ وشتم ولعن للحاج خليل المسؤول عن إعاشة هؤلاء الفقراء، ليلقى مصرعه في نهاية الأمر تحت الحافة وبجواره رغيف خبز، كما تتجلّى صورة أزقة المخيم وشوارعه الترابية في قصة "عصافير المساء تأتي سراً"(12).
تنتقل صورة المكان الفلسطيني المشرّد من الخيام إلى بيوت "الزينكو" في ثلاث قصص: العم عطية، لحظات صدق(13)، طفل يحترق(14)، وتشتبك الصور في مشاهد بانورامية متعددة: دكان العم عطية، بيوت من الصفيح/ الزينكو، زير الماء، إبريق الفخار، تنكة الألمنيوم، حنفيات مياه الوكالة، الحطة والعقال بما يحمله من رمز وطني، قصر هشام الأثري، مخيمات أريحا: النويعمة وعين السلطان..، وصورة الشهيد سالم. كل تلك الصور البانورامية تشكّل هوية اللاجئ الفلسطيني، بل تشكّل هوية المكان/ المخيم، كما هو مخيم "عين الديوك" في قصة "لست وحيداً(15)، ولعلَّ قصة "الرجل الذي نسي أن يموت أكثر من مرة" من أعمق قصص مجموعات محمد مشه في التعبير عن الهوية والنضال الوطني، ومثال ذلك صرخة الرجل الشخصة الرئيسة ومجهولة الاسم في القصة، وهي صرخة اللاجئ الفلسطيني على العموم: "ولدنا في الخيمة، نموت في الخيمة، عشقنا الخيمة، خيمة عن خيمة تفرق (هنا صورة ساخرة من الواقع)، نتزوج، ننهض، تعود لنا أحلامنا، الدماء تراق علة البنادق، الأرض عطشى تشرب دمنا ودمعنا.. إلخ(16)، وفي مشهد آخر يقول: "لم نعد نحصل على شيء، تجرعات الهزيمة تقتلنا، لقد سئمنا الهزيمة، الهزيمة تتخلّى عنّا، يا للعار!! لا تحزن الموت هزيمة، الموت يتخلّى عنّا،..."(17).
وتبرز صورة الشهيد في وقائع تحمل أسماء أمكنة متعددة حدثت فيها مذابح أرتكبتها العصابات الصهيونية كدير ياسين وكفر قاسم وشاتيلا وبحر البقر وحي الشّط، وهنا يسترجع سالم في قصة "اغتيال نسمة صباح نقي" صورة القرية قبل المذبحة، ويشتمّ فيها رائحة البارود ورائحة الوطن ورائحة خبز الطابون(18)، وفي قصة "طوبى لك يا عمّان" تكرار لصورة المخيم والحرب وما قامت به العصابات الصهيونية من مذابح في كفر قاسم وقبية ودير ياسين(19)، كما تسترجع الأم في قصة "على طريقة مارلين" المكان الأول قريتها، وهي تحكي لابنها سمير عن سنة الثلجة: "كنت يا ولدي آنذاك طفلاً، وكنا قد تركنا كل شيء، وجئنا إلى أرض تعيش فيها تحت الأشجار، تأكل أوراق الشجر، لأننا لم نكن نملك سوى مرارة الهزيمة(20)، وفي الصورة المقابلة في قصة قصيرة جداً بعنوان: "موت دافئ" تظهر صورة الأم في المخيم وقد فارقت الحياة في يوم قارس، ومشهد الفتى والناس يبكون حولها(21).
وتظهر صورة المكان/ مخيم برج البراجنة في قصة "ما قاله المذيع قبل سقوط فاطمة" أشدّ قتامة وحزناً في زمن اقتتال الأخوة الفلسطينيين و"لم تتراجع المرأة العجوز في مخيم برج البراجنة عن مطالبتها للأخوة المتقاتلين بأن يسمحوا لها بمقابلة الضابطين في المخيم"(22)، ولا تختلف هذه الصورة عن تلك الصورة المؤلمة في قصة "صباح الخير معكم على الأثير"، التي يظهر فيها الطفل وهو يصرخ في ليل الطرقات لحظة "الهدوء يسود، الألم يخيّم على المخيم، الأطفال يقدسون الحجارة، وينطلقون..(23).
تبرز صورة المخيم في مشاهد آخرى كما هي في قصة "في قعر الفنجان .. قالت العرافة"، حيث يستعيد فيه الأطفال أغانيهم الشعبية: بكرة العيد بنعيد، طاق طاق طاقية (24)، وفي قصة "سيل الزرقاء" يتسابق أطفال المخيم في اصطياد الأسماك(25)، وفي قصة "زيت السمك" تتكرر الصورة لمشهد مطعم وكالة الغوث والمدرسة(26)، وأيضاً في قصة "يوم دراسي"(27)، وفي قصة "على باب المخيم" مشهد مكثّف بالأحداث تظهر صورة شباب المخيم وكبار السن في تدافع أمام مركز أمن المخيم لاستلام البنادق من أجل الدفاع عن أنفسهم كحرب شعبية وروح الأمل تحلق في أفق أحلامهم بالعودة واسترداد الوطن السليب على وقع نغمات أحمد سعيد من صوت العرب قائلاً: لقد اسقطت دفاعاتنا الجوية العديد من طائرات العدو(28)، وكان يردد المقولة الشائعة: تجوع يا سمك، سنلقي اليهود في البحر.
تناولت في هذه القراءة المكان/ المخيم في خمس مجموعات قصصية للكاتب محمد مشه: حبك قدري 1983، همسة في زمن الضجيج 1988، مولاي السلطان قطز 2003، شبابيك 2016، عصافير المساء تأتي سراً 2018، في حين صدرت مجموعة "بائعة الكبريت" عام 2007، وهي عبارة عن مجموعة نصوص تشكّل قصة واحدة في مجملها، وجاءت تحت عناوين: محاكمة شهيد، الحجر، الشهيد، الوطن، مقاومة المحتل، الحرية، الاستقلال، الأرض، الوطن، الإنسان، المجنزرات، أزيز الرصاص، هدير الطائرات، وظهر الفضاء المكاني على عمومه، فلم يخصص للمخيم مساحة في أحداثه، كما أن مجموعة "الولد الذي غاب" قد صدرت عام 1995، ولم تتناول المخيم في قصصها.
يبقى القول أن الكاتب محمد مشه من أكثر الكتّاب الأردنيين الذي خصص للمخيم باعتباره فضاءً مكانياً للإنسان الفلسطيني المشرد عن وطنه مساحة واسعة في قصصه مجتمعة، بل تناول بتفاصيل كثيرة مفردات الحياة في المخيم، وعبّر عن المعاناة والألم والحزن والرفض والتمرد والحرب والرحيل بإحساس مرهف عاشه هو نفسه محمد مشه في المخيم الفلسطيني، فجاء صادقاً مع رسالته التي حملها ليوصل صوته للعالم من خلال الكتابة.
وهناك عدد من كتّاب القصة في الأردن تناولوا المخيم، وقد أشار محمد المشايخ في مقالة له بعنوان: "المخيم في القصة الأردنية"(29) إلى أسماء بعضهم، كما أشار هاني الهندي في مقالة له بعنوان: "مخيمات اللاجئين في أدب القاص محمد عارف مشّه"(30)، أمثال: محمد عيد، جمعة شنب، يوسف ضمرة، تيسير رمضان أبو رشيد، أحمد عودة، غنام صابر غنام، قاسم توفيق، محمد طملية، محمد الجالوس، إبراهيم العبسي، محمد مشه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إبراهيم السعافين، الرواية العربية تبحر من جديد، دار العالم العربي للنشر والتوزيع، دبي، 2007، ص116.
عائشة الدرمكي، سيمياء المكان في النص الأدبي: الأمكنة في (ترميم الذاكرة)، بحث منشور في مجلة "البحرين الثقافية"، العدد 68، 2012، ص41.
سيزا أحمد قاسم، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984، ص76.
نجود عطا الله الحوامدة، الخطاب الروائي في رواية "متاهة الأعراب في ناطحات السراب" للروائي مؤنس الرزاز، وزارة الثقافة، عمان، 2009، ص239.
بروكان بونوف، عالم الرواية، ترجمة: نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1999، ص98.
حسن حميد، القصة القصيرة الفلسطينية.. المخيم بوصفه موعداً مالحاً مع زمن مالح، جريدة الرأي، عمان، 12/1/2007.
حليمة الدراباشي، "المخيم" في القصة الأردنية، جريدة الدستور، عمان، 10/8/2018.
مجموعة "حبك قدري"، عمان، 1983، قصة: الحمار الذكي، ص7.
مجموعة "همسة في زمن الضجيج"، دار الأفق الجديد للنشر والتوزيع، عمان 1988، قصة: إنها ليست فاطمة، ص55.
حبك قدري، قصة: ذكي آخر، ص9.
المصدر السابق، قصة: مات وهو جائع، ص11.
مجموعة "عصافير المساء تأتي سراً"، الآن ناشرون وموزعون، عمان، 2018، قصة: عصافير المساء تأتي سراً، ص92.
حبك قدري، قصة: العم عطية، ص17. قصة: لحظات صدق، ص20.
مجموعة "مولاي السلطان قطز"، بدعم من وزارة الثقافة، عمان، 2003، قصة: طفل يحترق، ص50.
عصافير المساء تأتي سراً، قصة: لست وحيداً، ص20.
همسة في زمن الضجيج، قصة: الرجل الذي نسي أن يموت أكثر من مرة، ص16.
المصدر السابق، قصة: الرجل الذي نسي أن يموت أكثر من مرة، ص18.
المصدر السابق، قصة: اغتيال نسمة صباح نقي، ص20.
عصافير المساء تأتي سراً، قصة: طوبى لك يا عمّان، ص32.
همسة في زمن الضجيج، قصة: على طريقة مارلين، ص34.
مجموعة "شبابيك"، الآن ناشرون وموزعون، عمان، 2016، قصة: موت دافئ، ص
همسة في زمن الضجيج، قصة: ما قاله المذيع قبل سقوط فاطمة، ص67.
المصدر السابق، قصة: صباح الخير معكم على الأثير، ص67.
مولاي السلطان قطز، قصة: في قعر الفنجان.. قالت العرافة، ص39.
عصافير المساء تأتي سراً، قصة: سيل الزرقاء، ص14.
المصدر السابق، قصة: زيت سمك، ص71.
المصدر السابق، قصة: يوم دراسي، ص72-73.
المصدر السابق، قصة: على باب المخيم، ص87.
محمد المشايخ، المخيم في الأدب الأردني، موقع إلكتروني (ستار تايمز)، 6/1/2011.
هاني الهندي، مخيمات اللاجئين في أدب القاص محمد عارف مشّه"، ورقة شارك فيها هاني الهندي في رواق بيت الثقافة والفنون بتاريخ 25/7/2018، ولم تنشر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى