عبد الفتاح كيليطو - فنّ الاقتباس*.. إعداد : إسماعيل أزيات

"كيف تغدو الاقتباسات التي ليست هي على أيّ حال "ملكا" للمؤلّف، والتي توضع على عتبة الكتاب وخارج المتن، كيف تغدو مصدر افتخار المؤلّف، بل تتّخذ في عينيه أهميةتفوق النصّ ذاته؟"**
(عبد السلام بنعبد العالي، عبد الفتاح كبلبطو أو عشق اللسانين، منشورات المتوسط 2022، ص50)


سوف أتناول مفهوم القراءة من خلال بعض الاقتباسات التمهيدية التي أوردتها في مختلف كتاباتي وخصوصا في كتاباتي الأخيرة.
الاقتباسات التمهيدية يمرّ عليها القرّاء عادة مرّ الكرام، يقرؤونها أو لا يقرؤونها، او إن قرؤوها لا يلتفتون إليها أو لا يكادون؛ ومع ذلك فإنّ الاقتباسات التمهيدية كالعناوين تركّز على محتوى الكتاب وتشكّل مدخلا إلى مضمونه.
الاقتباس الأوّل"القراءةُ؛ تلكمُ الرّذيلة التي لا يُعاقب عليها" ! قال هذا الكلام كاتب فرنسي اسمهڤاليري لاربو؛ كاتب متميّز، أذكّر أنّه ساهم قبل قرن بالضّبط في التعريف برواية "يوليسيس" لجيمس جويس، كما شارك في ترجمتها إلى الفرنسية. ترجمة "يوليسيس" ــ أيّا كانت اللغة ــ صعبة ومعقّدة. كلام ڤاليري لاربو عن القراءة رذيلةً مخالف لما هو شائع ومثير للحيرة؛ فعادة ما نشجّع على القراءة وندعو النّاس إليها والاستزادة منها، ولكنّه يعتبرها رذيلة؛ رذيلة لا تُعاقب، لا يُعاقب عليها. أصحيح أنّ القراءة لا تُعاقب؟دون كيخوطي جُنّ من فرط قراءته لروايات الفروسية، ومدام بوڤاري كانت، وهي صغيرة في الدّير الذي تدرس فيه، تقرأ الروايات خلسة وخفية وبعيدة عن الأنظار، وكما تعلمون سينتهي بها الأمر إلى الانتحار. أمّا "ألف ليلة وليلة" فيُنصح ــ عند اللّزوم ــ بقراءة أجزاء منها فقط؛ لأنّ من يقرؤها بتمامها يُصاب لا محالة بمكروه.
هل يمكن أن نضيف إلى كلام ڤاليري لاربو تساؤلا آخر "الكتابةُ؛ تلكمُ الرّذيلة التي لا تُعاقب" !فلوبير حوكم إثر صدور "مدام بوڤاري" سنة 1857، وروائيون تخوّفوا من نشر أعمالهم أو لم ينشروها بأسمائهم مثل دانييل دوفو الذي أصدر رواية "روبنسون كروزوي" سنة 1710 باسم مستعار. أمّا أوّل رواية عربية وهي "زينب"، فنشرها محمد حسين هيكل سنة 1914 باسم غامض "فلاح مصري". وهكذا، فكتابة رواية كقراءتها لا تمرّان بسلام دائما.
لماذا، والحالة هذه، يقبل النّاس عليها؟ لأنّهم يقولون لأنفسهم، في فترة ما أو فترات من حياتهمم،ما قاله أحد شخوص كافكا، وسيكون الاقتباس الثاني"ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النّحو".يعيد القرّاءصياغة حياتهم على نحو آخر، كلّ مرّة، بتعديلات حسب ما يقرؤون، يعيدون تركيب روايتهم الشخصيةعلى أمل الافلات منها رغم شعورهم بأنّ الأمر مستحيل.
يحضرني في هذا المضمار قول الفيلسوف أوغست كونت، وسيكون قوله الاقتباس الثالث "لا يمكن أن نعتلي الشرفة ونرى أنفسنا مارّين في الشّارع في الوقت ذاته". قول صحيح، ومن سيجرؤ على إنكاره؟ ومع ذلك فإنّ القارئ، وهو في شرفته يراقب الشارع، يبصر بين الفينة والأخرى شبحه بين المارّة يمشي خلسة المختلس. في أيّ اتّجاه؟ ربّما من اليسار إلى اليمين !
قال غوستاف فلوبير، وسيكون الاقتباس الرابع "الكتابة الجيّدة عمل يكاد يكون لا أخلاقيا". ماذا يعني بكلامه هذا؟ ربّما نجد صدى أو تفسيرا عند كاتب فرنسي من أصل روماني هو شيوران الذي كتب سنة 1952 ــ ولا يخفى عليكم الجو الفكري السّائد آنذاك في فرنسا ــ في كتابه "قياسات المرارة"، وسيكون الاقتباس الخامس، أنّه "يحلم بعالم قد نقبل فيه الموت منأجل فاصلة". هوذا على الأرجح نقص المروءة الذي قصده فلوبير. فلوبير الذي له حكايات مع الفواصل. يزيد شيوران "لاأسلوب مع غياب الشكّ وسيادة اليقين. إنّ الحرص على جمال اللّفظ وقف على الذين ليس بمقدورهم أن يركنوا إلى اعتقاد راسخ؛ ففي غياب سند متين، لا يتبقّى لهم سوى التشبّث بالكلمات؛ أشباه واقع. أمّا الآخرون، الواثقون بقناعاتهم فإنّهم يستخفّون بمظهر الكلمات وينعمون براحة الارتجال". ما دور القارئ في هذه الحالة؟ قال ڤولتير، وسيكون الاقتباس السادس"أكثر الكتب إفادة هي تلك التي ينجز القرّاء أنفسهم نصفها". قبله قال مونتيني شيئا مماثلا في كتاب "المقالات"، وسيكون الاقتباس السابع وما قبل الأخير، "الكلامنصفه لمن يتحدّث ونصفه لمن يصغي"، ونضيف نحن "الكتاب نصفه لمن يؤلّفه ونصفه لمنيترجمه". هذه الإضافة مستقاة في الواقع من قول آخر لمونتيني "أيّا كانت اللّغة التي تتكلّمهاكتبي، فأنا أكلّمها بلغتي". كان هذا آخر اقتباس، بتعبير آخر أيّا كان الأدب، فإنّنا لا نقرؤه إلاّ من خلال أدبنا.


(كلمة الأديب عبد الفتاح كيليطو في احتفالية "إثراء القراءة" بمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي بالمملكة العربية السعودية (يونيو 2022). الكلمة موضوعة على اليوتوب، قمنا بتحويلها إلى نص مقروء تعميما للفائدة، مع الإشارة إلى أنّ عنوانها والاقتباس الموضوع على عتبتها من إعدادنا.)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى