د. علي خليفة - كتاب كليلة ودمنة وأثره في فنون الفرجة والمسرح عند العرب

(1)
المشهور بين كثير من النقاد والمؤرخين قديمًا وحديثًا أن ابن المقفع قد ترجم كتاب "كليلة ودمنة" في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي عن الفارسية، وأن هذا الكتاب كان قد ترجمه الحكيم برزويه من الهندية/ السنسكريتية إلى الفارسية/ البهلوية في الإمبراطورية الفارسية في القرن السادس الميلادي، أما تأليف هذا الكتاب فكان
في القرن الرابع الميلادي، وأن الذي ألفه هو الحكيم بيدبا لملك الهند دبشليم.
وبعض الباحثين المعاصرين - مثل أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف - يَرَوْن أن كتاب "كليلة ودمنة" جمع بين التأليف والترجمة، فهو فيه أبواب ترجمها ابن المقفع، وكذلك فيه بعض أبواب زادها فيه، والأثر الإسلامي واضح فيها؛ مما يدل على أنها من تأليفه.
ولكن هناك بعض المؤرخين والباحثين قديمًا وحديثًا،
لم ينساقوا وراء تأكيدات ابن المقفع في مقدمة هذا الكتاب في أنه كتاب هندي، وأنه ترجمه عن الفارسية، ورأوا أن هذا الحديث تمويه من ابن المقفع؛ حتى لا يحاسب على ما في داخل قصص هذا الكتاب من نقد واضح للحكام الظالمين، وإشاراته في ذلك للخليفة أبي جعفر المنصور وبعض بطانته.
ويعد الصفدي أهم مؤرخ في العصور القديمة أكد في كتابه "الوافي بالوفيات" أن كتاب "كليلة ودمنة" هو من تأليف ابن المقفع، وزاد
على ذلك بأن ذكر أن ابن المقفع قد قام بعد تأليفه هذا الكتاب بعمل مختصر له.
وفي العصر الحديث نرى بعض الباحثين المهتمين بدراسة الأدب الشعبي يجزمون أن كتاب "كليلة ودمنة" من تأليف ابن المقفع، ومن هؤلاء الباحثين فاروق خورشيد، والدكتور أحمد كمال زكي، والدكتور محمد رجب النجار، وهؤلاء الباحثون يَرَوْن أن عمل ابن المقفع في كتاب "كليلة ودمنة" شبيه بعمل راوي السير الشعبية، فهو يجمعها من مواطن مختلفة، ويعيد نظره فيها، ويضيف إليها ما يراه يتناسب مع ذوقه وذوق عصره وذوق المتلقين الذين يلقي عليهم هذه السير، وبهذا يعد ابن المقفع مثلهم مؤلفًا لقصص كتاب "كليلة ودمنة"؛ لأنه جمع قصصه من مواطن مختلفة، وأعاد فيها النظر بما يتناسب مع المجتمع الإسلامي الذي نشرها فيه، وهو فيها لم يكتفِ بالجمع وإعادة النظر فيما جمعه منها، بل أضاف لهذه القصص التي جمعها قصصًا أخرى وحكمًا من تأليفه.
وقد كتب الدكتور محمد رجب النجار كتابًا بعنوان"كليلة ودمنة تأليفًا لا ترجمة"، ويقارن الدكتور محمد رجب النجار في هذا الكتاب بين البنجاتنترا - أيالفصول الخمسة الهندية التي عُثِرَ عليها مؤخرًا مكتوبة بالسنسكريتية، وهي أهم الأصول التي اعتمد عليها ابن المقفع في كتاب "كليلة ودمنة"- وبين كتاب "كليلة ودمنة" كما صاغه ابن المقفع، وخرج الدكتور محمد رجب النجار من مقارنته هذه إلى أن كتاب "كليلة ودمنة" مختلف كثيرًا عن البنجاتنترا الهندية، في القصة الإطار والقصص الداخلية، وكذلك يذكر في هذا الكتاب أن ابن المقفع قد عَدَّلَ في كثير من القصص التي اعتمد عليها في كتاب "كليلة ودمنة"، ونقلها من البنجاتنترا بما يتناسب مع طبيعة المجتمع المسلم الذي عرض عليه هذا الكتاب، وكذلك ذكر أن ابن المقفع أضاف في كتاب "كليلة ودمنة" قصصًا كثيرة غير موجودة في البنجاتنترا الهندية؛ مما جعله يجزم في كتاب "كليلة ودمنة تأليفًا لا ترجمة" أن كتاب "كليلة ودمنة" هو من تأليف ابن المقفع.
وأنا أتفق مع هذا الرأي الأخير في أن ابن المقفع هو حقًّا مؤلف كتاب "كليلة ودمنة"، وليس مجرد مترجم له.
(2)
وقد كانت هناك أهداف لابن المقفع من تأليفه كتاب "كليلة ودمنة"، وأهدافه القريبة الظاهرة - التي يرددها في مقدمة هذا الكتاب وفي بعض أبوابه - أن يكون هذا الكتاب تسلية للناس، ومصدرًا لاستحضار العظات والعبر، أما عن أهداف ابن المقفع البعيدة من هذا الكتاب فهي نقد الخليفة أبي جعفر المنصور وبطانته، وتعريفهم بأن تجاوز الحق للظلم تبعاته وخيمة، كما تصور ذلك قصص هذا الكتاب على ألسنة الحيوانات.
وأغلب الظن أن الخليفة أبا جعفر المنصور قد فطن لهدف ابن المقفع هذا في كتاب "كليلة ودمنة"، وكان هذا من أسباب أمره بقتله، وأَمَرَ بعض أتباعه بعد ذلك بإشاعة أن ابن المقفع قد قُتِلَ لكونه زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن الإيمان بالمانوية.
وفي اعتقادي أن ابن المقفع كان بعد أن أسلم حَسَنَ الإسلام، وأنه يُسْتَبْعَدُ من رجل عُرِفَ بحسن الخلق مثله قبل إسلامه وبعده أن يكون أسلم رياء، ولا شك عندي أن قتله كان لأسباب سياسية، ولعل من أهمها النقد المستتر الذي وجهه للخليفة أبي جعفر المنصور في كتاب "كليلة ودمنة"، والنقد المباشر الذي وجهه له في رسالة "الصحابة".
(3)
والذي يعنيني هنا أن ابن المقفع كان يقصد ضمن أهدافه في تأليف كتاب "كليلة ودمنة" متعة من يقرؤه، وحصوله على التوجيه التربوي منه، وهذه الأهداف تناسب المتعلمين سواء أكانوا من الصبية أم الشباب.
وفي هذا الصدد نذكر أن الجاحظ قد ذكر في كتاب "ذم أخلاق الُكَّتاب" أن من كان يؤهل نفسه ليكون كاتبًا كان يحرص على حفظ كتاب "كليلة ودمنة" من صغره، أو يوجهه والده والمقربون منه لذلك.
وأعتقد أيضًا أن قيام الشاعر أبان بن عبد الحميد اللاحقي
- في القرن الثاني الهجري - بتحويل قصص كتاب "كليلة ودمنة"
لابن المقفع إلى منظومة شعرية كبيرة - كان الغرض من ذلك أن تشيع حكم هذا الكتاب وأهدافه التربوية والسلوكية، ويسهل حفظها،
ولا شك أن أهم المستهدفين من ذلك هم طلاب العلم، خاصة
من الصغار.
والنسخ القديمة من مخطوطات كتاب "كلية ودمنة" التي عُثِرَ عليها وَوُجِدَ فيها صور تعبر عن بعض قصص هذا الكتاب - تؤكد أيضًا أن كتاب "كليلة ودمنة" كان أهم المتلقين له من الصغار.
(4)
والحقيقة أنني لم أعثر على أي إشارة واضحة نعرف منها أن كتاب "كليلة ودمنة" كان الصبيان قديمًا يمثلون بعض قصصه،
أو يقرءونها بطريقة فيها تمثيل بتلوين الصوت مع ما يتناسب من كل شخصية في كل قصة منه،خاصة القصص التي شخصياتها من الحيوانات، ومع ذلك فأنا أكاد أجزم أن بعض الصبيان كان يحلو لهم قديمًا - كما هو الحال في العصر الحديث في أمر الصبيان حين قراءتهم بعض القصص الطريفة خاصة عن الحيوان - أن يتقمصوا شخصيات الحيوانات التي فيها، ويلونوا في أصواتهم مع ما يتناسب مع كل شخصية منها.
وأضيف لهذا أنني أعتقد أيضًا أن بعض الصبيان كانوا خلال لهوهم يمثلون بعض قصص كتاب "كليلة ودمنة"، وهذا يشبه ما نراه
في كتاب "ألف ليلة وليلة" من تمثيل بعض الأطفال فيه قصة"علي كوجيا"، التي تحكي عن شخص أودع عند صديق له جرة أخفى في أسفلها كيسًا فيه بعض الدنانير، ووضع أعلاه زيتونًا، وحين عاد ذلك التاجر من سفره، اكتشف سرقة كيس دنانيره من هذه الجرة،
ولم يستطع القاضي الذي شكا له ذلك التاجر صديقه الخائن أن يمسك عليه شيئًا يدينه به في هذه القضية، في حين استطاع الطفل الذي قام خلال تمثيله مع رفاق له لهذه الحكاية أن يعرف خيانة ذلك الرجل، وذلك حين ذاق الزيتون الذي وُضِعَ في أعلى الجرة، وعرف أنه حديث، وأدرك عند ذلك أن ذلك الشخص وضعه مكان صرة الدنانير التي أخذها من تلك الجرة، وكان هارون الرشيد في تلك القصة بكتاب "ألف ليلة وليلة" قد شاهد الأطفال وهم يلعبون ويمثلون تلك الحكاية، فطلب إلى ذلك الطفل أن يقوم بالفصل في أمر هذه القضية مرة أخرى، وحكم فيها ذلك الطفل كحكمه خلال تمثيله مع رفاقه في تلك الحكاية، ورضي عنه الرشيد، ونال ذلك التاجر حقه، وعوقب صاحبه الخائن، وكافأ الرشيد ذلك الصبي.
وقد تحدثت باستفاضة عن هذه القصة من كتاب "ألف ليلة وليلة" - التي عولجت في بعض مسرحيات في العصر الحديث ووجهت لمسرح الطفل؛ مثل: مسرحية "علي كوجيا" لعبد التواب يوسف، ومسرحية "القاضي الصغير" لشاهين الجوهري - وذلك حتى أؤكد أن الأطفال قديمًا كانوا خلال لعبهم يمثلون بعض الحكايات، وأنه أحرى بهم أن يمثلوا بعض قصص كتاب "كليلة ودمنة" خلال لعبهم ذلك؛ لأنها تناسب طفولتهم في أجواء الخيال التي بها، والأهداف السلوكية والتربوية التي ترمي لها.
(5)
وكذلك أعتقد أن ما نراه في بعض تمثيليات خيال الظل القديمة من تجسيد لبعض الحيوانات والجمادات فيها هو أثر من آثار قصص كتاب "كليلة ودمنة" التي يكثر فيها تشخيص الحيوانات، وأن نراها تتصرف كالبشر العقلاء.
(6)
وكتاب "كليلة ودمنة" هو بالفعل من مفاخر الأمة العربية، وقد تُرْجِمَ قديمًا وحديثًا إلى لغات عدة، وتأثر به كثير من الأدباء، في الشرق والغرب.
وهنا نذكر بعض كتاب المسرح الذين تأثروا به ورأوا أن بعض قصصه يسهل صياغتها في مسرحيات؛ لتوافر كثير من المقومات الدرامية بها، كوجود الحدث الممتع، والصراع المثير، وتوافر الشخصيات المتنوعة، ووجود الحوار المعبر عن الأحداث والشخصيات فيها.
وليس بغريب أن نرى أن بعض كتاب مسرح الطفل في العالم العربي - على الأقل- قد استلهموا بعض قصص كتاب "كليلة ودمنة"
في مسرحيات لهم كتبوها للطفل؛ لما ذكرته من أن هذا الكتاب منذ ألفه ابن المقفع كان مرتبطًا بالطفل والشباب في مرحلة التعليم؛ للأهداف التربوية والسلوكية المثيرة التي به، وأيضًا للقصص الممتعة المثيرة للخيال التي فيه.
وممن استلهموا بعض قصص كتاب "كليلة ودمنة" في مسرحيات كتبوها للطفل مجدي مرعي في مسرحية "رحلة" التي تخيل فيها أن حيوانات كتاب "كليلة ودمنة" قامت بما يشبه الثورة؛ لتخرج من الكتاب الذي يجمعها، وتم لها ما أرادت، وقامت بجولة في بعض الأماكن، وعادت - بعد مغامرات قامت بها - لهذا الكتاب مرة أخرى، وهي مسرحية جيدة مثيرة كما نرى.
وأيضًا نرى سعيد حجاج قد استلهم قصة "الجمل التائه" المذكورة في كتاب "كليلة ودمنة" في مسرحية "كُلْني يا مولاي"، ولم يغير كثيرًا في أحداث هذه القصة من كتاب "كليلة ودمنة"عند صياغته لها في تلك المسرحية، وكنت أرى أن يغير الكاتب نهاية هذه المسرحية التي أخذها من تلك القصة بكتاب "كليلة ودمنة" وفيها يقتل الأسد الجمل الذي كان قد وفد على هذه الغابة، وأخذ عهد أمان من الأسد بالعيش فيها دون أن يتعرض لأي أذى؛ لأن الأطفال الذين يشاهدون هذه المسرحية سيتعاطفون مع الجمل، وسيتألمون لمقتله في نهايتها.
كذلك استلهم سمير عبد الباقي إحدى قصص كتاب "كليلة ودمنة" في مسرحية "سبع في القفص" أو "اعمل معروف يا قرد"، واستلهم السيد حافظ هذه القصة نفسها من كتاب "كليلة ودمنة" في مسرحية "سفروتة في الغابة"، وأضاف لها حدثًا آخر من خياله.
وأيضًا تأثر شاعرنا الكبير أحمد سويلم بإحدى قصص كتاب "كليلة ودمنة" في مسرحيته الشعرية "حيلة الضعفاء".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى