د. أحمد الحطاب - مَن يملك البرلمان والحكومة والجماعات الترابية؟

حسب الدساتير وحسب ما يلمسُه الملاحِظُ في أعرق الدول الديمقراطية وحسب ما تُمليه الأعراف السياسية، البرلمان والحكومة والجماعات الترابية مٍلكٌ للشعب وللشعب فقط. وإن لم تكن هذه المؤسسات مِلكاً للشعب، فما هي الجدوى من الانتخابات علما أن نتائجَ هذه الانتخابات، عندما تُعمَّم وتُنشر بكيفية رسمية، تُعدُّ هي الوثيقة القانونية التي تُتبثُ هذه المِلكية. والشعبُ لا يملك فقط البرلمان والحكومة والجماعات الترابية بمختلف مستوياتها، بل يملك كذلك البلادَ برمَّتها، بترابها، بسمائها، بهوائها، بخيراتها، بثرواتها، ببحرها...

للحِفاظ على هذه المُكتسبات التي تضمنها الدساتير، يتحمَّل المواطنون عناءَ الذهاب إلى صناديق الاقتراع ليختاروا مَن سيًمثِّلهم أو مَن سينوب عنهم في الحكومة، في البرلمان وفي الجماعات الترابية علما أن هؤلاء المواطنين، بحُكم اختيارهم هذا، يعتبرون الحكومةَ والبرلمانَ والجماعاتِ الترابيةَ مؤسسات تخدم مصالحَهم ومصالحَ بلادِهم.

وبعبارة أخرى، إن الشعبَ، بحكم تِعداده المليوني، لا يمكن، عمليا، أن يُسيِّرَ، مباشرةً، شؤونَه وشؤونَ بلادِه بنفسِه. فالحلًّ هو أن يُفوِّضَ هذا الشعبُ هذا التسييرَ، عن طريق الانتخابات، إلى بناته وأبنائه الذين يرى فيهم الصفات والمزايا والخِصال… التي تجعل منهم عناصر مؤهَّلة لخدمة مصالحه ومصالح بلاده.

هذا هو ما تُبيِّنه لنا الدساتير من الناحية النظرية وما يُبيِّنه لنا ما هو مُسجَّلٌ، أسود على أبيض، في القوانين المنبثقة عن هذا الدستور. فالسؤالُ المطروح هنا هو : "هل ما يحمله الدستور والقوانين من إجراءات وحيثيات وتطلُّعات…، على المستوى النظري، مطابقٌ لِما يجري في الواقع على المستوى التَّطبيقي؟" بكل صراحة وبدون لفٍّ ولا دوران، لا، ثم لا، ولا شيءَ غير لا! وفي جميع أنحاء العالم، لأنه لا توجد في هذا العالم ديمقراطية مثالية خالية من الشوائب ومن الاختلالات وبالأخص، خالية من الفاسدين والمُفسدين! فما هو الشأن بالنسبة لبلادي التي، وهذا شيءٌ لا يمكن أن يُنكِرَه جاحدٌ، قطعت أشواطا لا بأس بها في مجال الانتقال الديمقراطي.

نعم، بلادُنا انخرطت في المسيرة الديمقراطية لكن، ما يُثيرُ الدهشةَ والاستغرابَ، هو أن هذه الديمقراطية لا تزال محفوفةً بتَّناقضات اجتماعية، اقتصادية وثقافية لا يقبلها العقلُ. لماذا؟

لأن المشهدَ السياسي فاسدٌ والكل يعلم ويدري أن الفسادَ يولِّد الفسادَ. وقد نقول : كل بني سَاسَ/يسُوسُ فاسدون، إلا مَن رحِم ربي وأمهر الفاسدين الأحزاب السياسية. وهذا يعني أن فسادَ المشهد السياسي من فساد الأحزاب السياسية. وإذا فسدت الأحزاب السياسية، فسد تدبيرُ الشأنين العام والمحلي. لماذا؟

لأن الأحزابَ السياسيةَ، إن كانت مثاليةً على المستوى النَّظري المنصوص عليه في قوانينها التَّنظيمية، فالبشرُ الذين يؤثثون قياداتِها بعيدون كل البُعد عن ما كان ينتظره الشعبُ من الأحزاب السياسية التي اختارها هذا الشعبُ لتنوبَ عنه في البرلمان، في الحكومة وفي الجماعات التُّرابية. فبمجرَّد ما تتجاوز الأحزابُ السياسيةُ مرحلةَ الانتخابات وتصعد إلى البرلمان وإلى الحكومة وإلى الجماعات الترابية، تضرب عرضَ الحائط كل ما ينصُّ عليه الدستور والقوانين المنبثقة عنه. كما تضرب عرضَ الحائط التٍَّمثيلية représentativité والتّفويض délégation اللذان وضعهما الشعبُ في أعناق هذه الأحزاب السياسية. حينها، تنتقل مِلكِيةُ البرلمان والحكومة والجماعات التُّرابية من الشعب، غصباً عنه، إلى الأحزاب السياسية. بل إن هذه المِلكية تنتقل من الأحزاب السياسية كمؤسسات منبثقة من الشعب وتنوب عنه إلى أشخاصٍ، ظاهريا ينتمون لأحزابهم، وعمليا تجرَّدوا ويتجرَّدون من حِزبِيَتِهم لخدمة مصالحهم الشخصية.

إلا مَن رحم ربي، البرلمان مِلكٌ للنواب والمستشارين والحكومة مِلكٌ للوزراء والجماعات التّثرابية مِلكٌ للمستشارين، وبالأخصِّ، مِلكٌ لرؤساء هذه الجماعات.

ولنتأكَّدَ أن البرلمانَ مِلكٌ للنواب والمستشارين، يكفي أن نتابعَ جلسات البرلمان ومستوى النقاش الذي يدورُ بفنائه، لنلاحظَ أن همومَ الشعب الحقيقية، وأقول الحقيقية، غائبةٌ أو، بالأحرى، مُغيَّبة من هذا النقاش. ليس هناك ولو نائبٌ واحدٌ أو مستشارٌ واحدٌ قادرٌ أو له الجرأة الكافية لتحريك المياه الراكِدة. مثلاً، هل رأيتم برلمانا من البرلمانات جعل من مُحاربة الفساد بجميع أنواعه قضيتَه الأساسية والمُلِحَّة؟ لا، أبدا! هذا النوع من البرلمانات لن يكونَ! لماذا؟ لأنه، بكل بساطة، الفساد لا يمكن أن يُحاربَ الفساد. الفساد، كما سبق الذِّكرُ، يولِّد الفسادَ. وما يقدر عليه هؤلاء النوابُ والمستشارون هو ذرُّ الرماد على العيون. كيف ذلك؟ إنهم يسنُّون القوانين التي تحارب الفسادَ لكنها قوانين تبقى حبرا على ورق وأول مَن يخرقُها هم النوابُ والمشتشارون أنفسُهم! بل إنها قوانينٌ معمولة للضعفاء والفقراء ومَن لا حولَ ولا قوَّةَ لهم!

ولنتأكَّدَ أن الحكومةَ مِلكٌ للوزراء، يكفي أن نُتابعَ تصرُّفات بعض الوزراء (لا أعمِّم، هناك وزراء يحترمون أنفسَهم ويحترمون الغير). تصرُّفات لاأخلاقية وفيها نوعٌ من العجرفة والاستعلاء والكبرياء… تصرُّفات تبيِّن أن مَن تصدرُ عنه لم يعد ممثِّلاً لا للشعب ولا لحزبِه السياسي. وكأن الاستوزارَ تشريفٌ أو صَكٌّ يُعطي للوزير مرتبةً اجتماعية تجعل منه بشرا فوق عادي له الحقُّ أن يحتقرَ الناسَ ويستصغرهم. الاستوزارُ تكليفٌ من الشعب يجعل من الوزيرِ شخصا يُفكِّرُ فقط وحصريا فيما فيه مصلحةٌ لهذا الشعب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الحكومة (أي الحكومة بجميع وزرائها) جهازٌ تنفيذي، أي هو المسئول عن تنزيل السياسات العمومية على أرض الواقع. فلماذا، سواءً تعلَّق الأمرُ بهذه الحكومة أو الحكومات السابقة، لم يتم القضاءُ على المشكلات التي تقَضُّ مضجعَ الشعب منذ حصوله على الاستقلال؟ من بين هذه المشكلات، أخصُّ بالذكر، الفوارق الاجتماعية، توزيبعٌ عادلٌ للثروة، القضاء على الأمية، القضاء على الفساد… علما أن هذه المشكلات تشكِّل عائقاً للتنمية الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، وخصوصا البشرية… وعلى ذكر الفساد، لقد أصبحت رائحتُه تُشتمُّ في كل مكان. بل أصبحت له لغةُ خاصة به يتقِنُها فقط من يمارسُه. لا تزال المحسوبية والزبونية و"باك صاحبي" و"دهن السِّيرْ اسيرْ" و"لما عندو سيدو عندو لَلَّلهْ" و"أعلى ما فْخَيلْكْ ركبو"... عُملاتٌ متداولة في المعيش اليومي للناس.

ولنتأكَّدَ أن الجماعات التُّرابية مِلكٌ للمستشارين، وخصوصا لرؤسائها، يكفي أن نتابعَ أخبارَ هذه الجماعات. أخبارٌ قاسمُها المشترك هو نهبُ المال العام والتَّواطؤ المُمَنهج والالتفاف على القانون وتبادل المصالح وشراءُ الضمائر والتَّزييف والتَّزوير…

فمتى سيسترجع الشعب ملكيةَ البرلمان والحكومة والجماعات التُّرابية ليكون هو سيِّد شأنِه وهو الآمِر والناهي في كل صغيرةٍ وكبيرة تصبُّ في مصلحتِه العامة؟ في نظري، لن يسترجِعَ الشعبُ هذه المِلكية ما دامَ المشهد السياسي منخوراً بالفساد بجميع تجلياتِه. وكما سبق الذِّكرُ، فساد المشهد السياسي من فساد الأحزاب السياسية. وللتَّصدِّي لفساد المشهد السياسي، يجب التَّصدِّي لفساد الأحزاب السياسية. وهنا، لا بدَّ من إرادةٍ سياسيةٍ قوية مجسَّدة في تطبيق القانون تطبيقا صارما لا يأخذ بعين الاعتبار الموقع السياسي لأي كان. حسب الدستور، كل الناس متساوون أمام القانون. مَن أراد أن يتعالى على القانون، فليس منا. وما دام القضاءُ مستقلا عن السلطتين التَّشريعية والتَّنفيذية وما دامت النيابة العامة مُستقلَّةً عن وزارة العدل، فما على هذين الجهازين إلا القيامَ بدورهما كاملا للمساهمة في تخليق المشهد السياسي الذي هو صانِعُ المصائب في هذا البلد السعيد. لك الله يا وطني!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى