د. محمد سعيد شحاتة - التوترات اللغوية وانزياح الدلالة وأثرهما في إنتاج المعنى.. قراءة في ديوان: (ثرثرات طبلة خارج الديسكو) للشاعر السيد فرج الشقوير

السيد فرج الشقوير شاعر ذو طبيعة إبداعية خاصة؛ فالنص الشعري عنده مزيج من ثقافات متنوعة، ورؤى فكرية قد تبدو متضاربة، ولكنها ليست كذلك، وانحيازات جمالية مستندة على قناعات عميقة منسوجة في النصوص بعناية فائقة، ومنتشرة بين أنسجة النصوص بتوزيع دقيق؛ لتضيء للمتلقي طريقه وسط عتمة النصوص الظاهرية، كما تتوزع النجوم في السماء علامات يهتدي بها السائرون، وينسج الشاعر قصيدته بهدوء ملحوظ وتأنٍّ بالغ، وبدون ضوضاء سوى ضوضاء الألفاظ المختارة بعناية، والمتعاركة داخل النص؛ لتحدث توترات واضحة تكشف عن عمق في الرؤية ودقة في اختيار الألفاظ، سواء أكانت ألفاظا تنتمي إلى البيئة المحلية أم كانت ألفاظا عربية فصيحة، ولكنها في بعض الأحيان يفرغها الشاعر من دلالاتها المتواترة، ويحملها دلالات تنتمي إلى نصه المتشابك، وتكون جزءا من الشبكة العنكبوتية التي يجيد الشاعر نسجها في نصوصه بعناية كبيرة، وبشكل ملحوظ، بحيث تصبح قصيدته دالة على نفسها من بين عشرات، بل مئات النصوص المنحوتة بدقة بالغة.

العنوان: انغلاق اللغة وانفتاح الدلالة:
جاء عنوان الديوان (ثرثرات طبلة خارج الديسكو) كاشفا ودالا، فهو كاشف عن طبيعة الشخصية الإبداعية التي تتخذ لنفسها توصيفا محددا، فهي ثرثرات طبلة ولكنها خارج الديسكو، هنا يأتي لفظ دال، أي دال على التوصيف الحقيقي، ولكننا ما إن نمسك بلفظ يدل على التوصيف الحقيقي فإذا بنا نجدنا نمسك بالماء في غربال؛ فما معنى ثرثرات طبلة خارج الديسكو، وما العلاقة الرابطة بين الطبلة والديسكو والثرثرات من الأساس؟! هنا يأتي لفظ دال؛ فالشاعر يضع لنفسه توصيفا، إذن هو شاعر يعرف حقيقة إبداعه، الشاعر يحيلنا مباشرة منذ العنوان إلى الموسيقى، وإلى نوعين من الموسيقى، هما: الطبلة والديسكو، والطبلة تتميز بصوتها العالي الزاعق القوي، وموسيقى الديسكو "مزيج من الموسيقى من أماكن شائعة بين الأمريكيين الأفارقة والأمريكيين اللاتينيين والهسبان والأمريكيين الإيطاليين والمثليين في فلادلفيا ونيويورك خلال أواخر الستينات وأوائل السبعينات، ويمكن اعتبار الديسكو كرد فعل من قبل ثقافة الستينيات المضادة على هيمنة موسيقى الروك" والذي يهمنا من ذلك في هذه المرحلة من التأويل هو أن موسيقى الديسكو مزيج من الموسيقى من أماكن شائعة بين الأمريكيين الأفارقة اللاتينيين والإيطاليين غيرهم، وهذا يعني أن الجزء الثاني من العنوان (الديسكو) يشير إلى المزيج والخليط، وأما الجزء الأول من العنوان (طبلة) فهو يشير إلى تحديد الصوت والإطار، وهنا يمكن فهم جزء من الدلالة في العنوان، وهو الإشارة إلى الخصوصية الإبداعية، فهذا الديوان هو صوت محدد الرؤية والانحياز الفكري والجمالي وليس مزيجا من رؤى متعددة تم التلفيق بينها رغم اختلاف توجهاتها (الأفارقة والإيطاليين واللاتينيين، وغيرهم كما تشير دلالة لفظ الديسكو)، وهنا كأن الشاعر يقول: قد يكون صوتي عاليا وقويا ومزعجا بسبب قوته، فهو يشبه الطبلة، ولكنه ليس ديسكو أي أنه ليس مزيجا من الأصوات الزاعقة غير المتجانسة، أي ليس مزيجا من الرؤى يتم التلفيق بينها؛ لتظهر متجانسة، وهي في الحقيقة من أماكن شتى وتنتمي لمرجعيات وانحيازات متعددة ومتنوعة ومتضادة أحيانا، فصوتي الإبداعي هو صوت معروف قد يصدمك بقوته ونشازه أحيانا على ما يبدو ظاهريا، ولكنه محدد الدلالة والإطار والانحياز، وإذا انفتح المجال التأويلي أكثر فإننا نرى أن الطبلة من الآلات الموسيقية القديمة الضاربة بجذورها في التاريخ وعبر الأزمنة؛حيث دلّت الاكتشافات الأثرية أن الطبلة تعود إلى ستة آلاف سنة، وقد "كان للطبول منزلة مُقدَّسة عند السومريين والبابليين، حيث تذكر الكتابات المسمارية الآكادية أن الجلد الذي يُصنع منه الطبل يجب أن يكون من ثور لم يُصب بمرض ولم يعلُ رقبته نير، وعند ذبح الثور تُقام طقوس دينية ومراسيم خاصة، ثم يحرق قلب الثور ويجفف جلده ويُنشر ثم يعالج الجلد بالدقيق الناعم والخمر والدهن والطيب، وبعد أسبوعين يُعاد الاحتفال ويقرع الطبل للمرة الأولى في هيكل الآلهة لكي تُرفع إليهم أصوات الناس مُتضمّنة في أصوات القرع على الطبل. وقد وصفت اللوحات التي وجدت في منطقة «وركاء آريك» في العراق، هذه الطريقة في صنع الطبل المُسمَّى «ليليس" (ينظر: محمد ياسين رحمة، الطبل، مجلة القافلة، المملكة العربية السعودية، عدد سبتمبر 2022م) وفي الحضارة الفرعونية عرفت الطبول المصنوعة من خشب السّدر، وتفننوا في صناعتها، ومن ذلك الطبل العملاق الذي بُنيت الأهرامات على إيقاعات قرعه، كما ورد في بعض الدراسات، ومعنى ذلك أن الطبل ارتبط بنمط معين سواء نمط تقديس فيضفي ذلك على الطبل قداسة وعلى صاحب الطبل احتراما من نوع خاص مرتبط بوظيفته، أو نمط المعارك وهو ما يدل على خوض المعارك والموت في سبيل قناعات معينة، وفي المقابل نجد الديسكو كما أشرنا سابقا هو مزيج من عناصر وجنسيات وثقافات شتى، ومن ثم فهو خليط، وإذا كان الشاعر وصف ديوانه بأنه ثرثرات طبل فإنه بذلك يضفي على إبداعه نوعا من التقدير الذي ينبغي أن يُعامل به؛ فهو ينتمي إلى شيء ارتبط بالماضي العريق من ناحية بالقداسة ومن ناحية أخرى بالتضحية في المعارك في سبيل القناعات التي ينتمي إليها صاحب الطبل، ولكن الشاعر يحترس فيقول إن هذا الطبل خارج الديسكو أي أنه لا ينتمي إلى هرطقات الخليط من الأصوات التي قد تحرك الغرائز والنزوات ولكنها لا تحمل في طياتها أية رسالة ذات قيمة سوى الفوضى الناشئة عن هذا المزيج من الموسيقى أي الصوات المتعددة والمتنوعة وأحيانا غير المتجانسة، والرقص، وهو ما يجعل الإنسان غير قادر على السيطرة على نفسه..
أما اللفظ الثالث في العنوان فهو (ثرثرات) فهو لفظ إشكالي أيضا؛ ذلك أن ذكر لفظ (ثرثرة) في حد ذاته قد يطبع هذه الأفكار بطابع السلبية من خلال الدلالة اللغوية للكلمة/ثرثرة؛ فقد جاء لفظ ثرثرة في المعاجم اللغوية دالا على الكلام غير المفيد والمختلط، وغير المتوازن، ومن ذلك (ثرثر كلامَه ثرثر في كلامِه أكثر منه في تخليط وترديد بسرعة، وبلا فائدة، يثرثر بعض الناس في كلامهم–الثَّرْثار : الذي يكثر الكلامَ في تكلُّفٍ وخروج عن الحدّ، في الحديث: أَبْغَضُكم إليّ الثرثارون المُتَفَيْهِقون–الثرثرة صوت كثير الكلام المختلط– ثرثرة: 1 – مصدر ثرثر. 2 – كثرة الكلام في مبالغة –كُلُّ كَلاَمِهِ ثَرْثَرَةٌ: كثْرَةُ الكَلاَمِ فِي مُبالَغَةٍ مِنْ دُونِ جَدْوَى– ثرثر ثرثرة: 1 - ثرثر الشيء: فرقه. 2- ثرثر في الطعام: أكثر من الأكل وخلط 3- ثرثر : أكثر من الكلام وبالغ فيه– ثَرْثَرَ في الشيء: أكثر منه في تخليطٍ. يقال: ثرثر في الأكل وفي الكلام. فهو ثرثار. و ثَرْثَرَ الشيءَ: بدَّده وفرَّقه) ومن الملاحظ أن اللفظ/ثرثرات لم يحمل أية دلالة إيجابية، فهل كان الشاعر يقصد أن يصبغ كلامه منذ البداية بأنه غير مفيد، وأن يصف نفسه بأنه مجرد ثرثار متفيهق، وهو ما يسم نفسه وكلامه بعدم الاهتمام به؟ ومن ثم فإن اهتمامنا به وبكلامه يضع المتلقي أيضا في دائرة الاتهام؛ إذ إنه يهتم بما لا يجب الاهتمام به باعتراف الشاعر/صاحب الرسالة اللغوية نفسه، وهنا تأتي المفارقة التي يضعنا فيها الشاعر منذ البداية من خلال اختياره لهذا اللفظ في العنوان، فإذا أضفنا لفظ (ثرثرات) إلى بقية ألفاظ العنوان (طبلة – خارج – الديسكو) انكشف لنا الإطار الفكري الذي يتحرك فيه الديوان والذي سوف يحكم حركة المعنى ويساعد في إنتاج الدلالة.
ومن حيث التكييف النحوي للعنوان فإنه يتكون من جملة اسمية بسيطة حُذف أحد طرفيها وهو المبتدأ، والتقدير (هذه ثرثرات طبلة) وحذف المبتدأ له أكثر من دلالة؛ فهو قد يعني المعرفة به ومن ثم فلا داعي لوجوده بسبب معرفته، ويكون المبتدأ في هذه الحالة إشارة إلى ما ورد في الديوان، والتقدير: هذه النصوص ثرثرات طبلة، أو هذا الديوان ثرثرات طبلة، ثم تأتي تكملة الجملة (خارج الديسكو) لتكون نعتا إما للفظ (ثرثرات) فتكون الثرثرات هي التي خارج الديسكو، أي خارج المزيج من الموسيقى المتداخلة، وقد تكون نعتا للفظ (طبلة) فتكون الطبلة هي التي خارج الديسكو كما أشرنا إلى ذلك سابقا.
إن نصوص السيد فرج الشقوير تحتاج إلى جهد كبير في قراءتها والوقوف على أسرارها، والغوص في أعماقها، واصطياد ما قد يلوح من لآلئها المتخفية بين رمال القصيدة وشبكة علاقاتها اللغوية المتشابكة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى